مشاعر مبعثرة
تأليف: مصطفى خليفة | الدولة: قطر
كعادتها..
الأم قبل مجيء الأب إلى المنزل بوقت كاف لتعيد ترتيب البيت، وتعد الطعام حتى يكونوا على أهبة الاستعداد؛ لقضاء وقت ممتع على مائدة الغداء في هذا البيت الصغير، المكون من ثلاث غرف ضيقة، تحيطه المباني من جهات ثلاث، ويفتح بابه الرئيس على شارع صغير باتساع مترين، يقابله على الجانب الآخر بيت عالٍ يحجب أشعة الشمس وإطلالة الهواء طوال الوقت.
لم يكن ترتيب تلك الغرف يأخذ وقتاً طويلاً ممن اعتادت عليها، فهناك في أقصى البيت غرفة الابنة حنان ذات الأعوام التسعة، التي دأبت على ترتيبها بنفسها وتعطيرها، وإخراج فرشها إلى السطح كلما بزغت الشمس، فقد كفت أمها مؤونتها، وبجانبها من ناحية الباب غرفة الأب والأم وبجانبهما حمام صغير، وتمر الأم بعد ترتيب غرفتهما بالصالة تصلح من شأنها لتصل إلى غرفة عمران المقابلة للصالة، ابنهما صاحب الأحد عشر ربيعًا.
على مشارف الشباب، يجمع بين براءة الأطفال وحماسة الشباب، يشيع البسمة والفرح في البيت، وهو عون وسند لكل من يحتاج إليه من أسرته الصغيرة، يعيش عمران في مملكته الممتلئة دوماً بالأغراض المتناثرة، وبعضها أحياناً فوق بعض، حتى لا تكاد تستطيع أخته حنان المرور بها، فهي ممتلئة الجسم عنه بعض الشيء؛ فخلف الباب كراتين كتبه، وأدواته القديمة، وأمام سريره في هذا المربع الصغير منضدة صغيرة يضع عليها زجاجة مزخرفة فيها رمل ملون، يحتفظ فيها دومًا بوردة حمراء، تعطي للغرفة شكلاً على أية حال، وامتلأت الأجزاء الظاهرة من جدرانها بالصور الكرتونية، والسيارات، وبعض صور الملاكم محمد علي كلاي، تتدلى من تحت الصور خشبة مائلة كانت تستند إليها الصور، إلا أنها مالت ولم يتداركها أحد ليصلحها، فهي عالقة بمسمار قديم يحول بينها وبين السقوط، وتحتها يقع مكان مذاكرته، حيث طاولة صغيرة وكرسي صغير، وعن يساره خزنة خشبية، وشماعة لملابسه التي تحتاج إلى ترتيب دائم.
عمران منشغل عن غرفته والعناية بها، حيث يجلس أوقاتًا طويلة ينظر من نافذة البيت المطلة على الشارع، ينظر إلى الجزء الظاهر من السماء، يتفكر فيه، ويحاول أن يمد رقبته قليلًا حتى يرى مساحة أوسع من الفضاء، يسبح فيها بخياله الخصب ليعاود مواصلة مذاكرته، وتفتح تلك النظرة الحالمة أمام نظره مستقبلاً أكثر رحابةً مما يعيشه في تلك الدار، فقد كان يتطلع إلى أن يكون ملاكمًا مشهورًا أو رسامًا مرموقًا.
على أنه جمع مع قوة يده حين تضرب، وحين يحمل شيئًا عن أمه الضعيفة، أو يساعد أخته حنان في حمل فراشها إلى السطح جمع شيئًا آخر، فقد كانت لمسات يده على الورق كنسمة هواء تمر بمسطح ماء ترسم عليه لوحة انسيابية، تثير الشجون وتبعث على الراحة.
أعدت الأم الطعام، وبدأت تنادي ابنتها لوضع الطعام في الصالة حيث السفرة الدائرية ذات المقاعد الأربعة، وضعت الطعام والماء، وما هي إلا لحظات حتى سمعت طرقات متقطعة على الباب.
عمران:
- من؟
الأب:
- احم احم، افتح يا بنى.
صوت غليظ، اختلطت غلظته بإجهاد وتوتر ما بعد يوم عمل شاق، فهو مراقب العمال الذي يتابع سير العمل في الموقع معظم الوقت، واختير لهذه الوظيفة من بين خمسين شخصاً تقدموا لها؛ لما يميزه من جسم فارع وشخصية حازمة، وصوت جهوري، حاجباه كثيفا الشعر مع تقوس واضح في أحدهما، وهناك عِرْق في جبهته يبرز كلما غضب أو انفعل، يكاد يفهمه العمال من نظرته الحادة؛ فتراهم يقومون بعملهم على أتم وجه.
تحرك عمران مسرعاً باتجاه الباب ليفتح لوالده، ولم يحسب المسافة بينه وبين سفرة الطعام جيداً، فاصطدم بكرسي السفرة، حاول أن يتماسك، فلمست يده قارورة الماء الزجاجية فسقط الماء على الأرض وانكسرت القارورة.
دخل الأب فوجد الزجاج على الأرض!
- من كسر القارورة تلك؟
عمران:
- أنا يا أبى، آسف على ما حدث.
الأب:
- أنا أعمل ليل نهار، للحصول على المال، وأنتم تكسرون بلا مبالاة أو أدنى مسؤولية؟
عمران:
- إنه أمر بسيط يا أبي، وكان دون قصد مني.
الأب:
- وكيف تجرؤ للرد عليّ؟ أنت عديم التربية.
حاول الأب أن يضرب ابنه، فجرى عمران مسرعاً إلى غرفته، وتبعه الأب منفعلاً:
- أتهرب مني؟ ألا تقدر صعوبة المعيشة في هذه الأيام، ولا تعرف قيمة المال؟
انزوى عمران في جانب الغرفة باكياً، ولم ير الأب أمامه سوى تلك الخشبة المتدلية على الحائط تحت الصور واللوحات، انتزعها بشدة، وانهال ضرباً على ابنه الصغير ليؤدبه.
عمران:
- كفاك يا أبي.. آخر مرة.. ارحمني يا أبي.
لم يهدأ الأب حتى ألقت ابنته حنان بنفسها بينه وبين أخيها وهي تصرخ: كفاك يا أبي لقد استوعب عمران الدرس، اضربني مكانه، اضربني أنا.. شاهدت الأم ما حدث بصمت، ولم يكن غداء هذا اليوم سعيداً بالمرة، فقد عجزت الأم عن التعبير عن مشاعرها تجاه ما يحدث، وفقدت الشهية للطعام الذي ظلت تعده طوال نهارها، بيد أنه لابد لهذا الطعام أن يؤكل، وأن يكون هناك من يجمع البيت عليه.
استجمعت الأم همتها وسارت إلى ابنها تحتضنه وتواسيه:
- لا تحزن يا عمران، إن أباك يحبك، لكنه إذا غضب فقد أعصابه، ولا يدري ما يقول أو يفعل، وكما تعلم يا بني فقد فقدت السمع بإحدى أذني منذ أن ضربني عليها، وكان خطئي عندما ذكرته أني تزوجته مرغمة، وأن أحد أصحابه قد تقدم ليتزوجني لكن أهلي رفضوا بسبب مشكلات قديمة كانت بين العائلتين، لكن والدك يا عمران طيب القلب، ويحبكما حبًّا شديدًا، ولا تهنأ نفسه أو يرتاح باله إذا أصيب أحدكما بشوكة في ظفره، أو سمع أنين أحدكما من المرض.
قم يا بني لنتغدى، ونحضر أباك معنا ليتناول الغداء، أليس هذا حقه علينا؟!
أرخى الليل سدوله، وقامت حنان مفزوعة بسبب رؤيا رأتها، وذهبت مسرعة تنادي أمها:
- أمي.. أمي..
- نعم يا ابنتي، خيراً!!
- لقد رأيت في منامي يا أمي رؤيا عجيبة.
- خيراً يا ابنتي! لا تقلقي، إن شاء الله تكون رؤيا صالحة بإذن الله.
- أريد الاطمئنان على أخي عمران، تعالي معي لأن قلبي قلق عليه.
الأم:
- لا مانع يا ابنتي، تعالي لنطمئن عليه، ها هو نائم لم يصب بأذى والحمد لله، طمأن الله قلبيكما يا حبيبتي، أخبريني يا حنان ماذا رأيتِ في المنام؟
- لقد رأيت أخي عمران يا أمي... (ثم سكتت حنان).
الأم في لهفة:
- ما به؟ ماذا رأيت؟
حنان بعد ازدردت ريقها:
- رأيت عمران وقد وقع القلم منه وقصفت سن القلم، وحينما حاول النزول لجلبه انزلق على الأرض وكسر ظهره، فظللت أبكي وأبكي وأنادي، أدركوا أخي.. أدركوا أخي.. ولا أحد يسمعني.. وفجأة!! وجدت أحداً جاء يمد يده ويجذب أخي ويوقفه.
فتساءلت الأم في خوف واضح على وجهها:
- وماذا بعد يا حنان؟ وهل وقف عمران معه؟
حنان:
- نعم يا أمي، وقف عمران معه لكن كان يبدو عليه التعب الشديد.
الأم بعد تنهيدة طويلة:
- خيراً يا ابنتي إن شاء الله، ربي يحفظكم.
ذهبت حنان إلى غرفتها، وقد اقتنعت بمواساة أمها، غير أن أمها لم تنم، وأخذت تفكر في أمر ذلك المنام الغريب الذي رأته ابنتها، النار تغلي في صدرها، وتكاد تلتهم أعصابها، وحرقة تسري في عروقها على ذلك الولد المسكين الذي تحمَّل الليلة مالا يتحمله مثله، لا لشيء سوى خطأ بسيط حدث قدرًا، لم تهدأ ثورة الأم حتى ذهبت إلى غرفة عمران، ووضعت يدها على جبهته، فإذا حرارته مرتفعة، وصوت أزيز في صدره من شدة الحمى، أسرعت الأم إلى قماشة بللتها بالماء البارد، وأخذت تخفف من شدة الحرارة بالكمادات حتى أذن الفجر.
استيقظ زوجها، فوجدها مشغولة بولدها، فسأل متعجبًا:
- خيراً؟! مالك؟ ماذا حدث؟
الأم:
- لا شيء، عمران ارتفعت درجة حرارته، وأعمل له كمادات من الماء البارد
فقال الأب في لهفة:
- لم لم تخبريني، فأقف معك أساعدك، أو أحضر طبيباً للكشف عليه؟!
فأجابت الأم:
- قلت في نفسي الصباح رباح، وسيكون بخير بإذن الله.
الأب:
- هذا عمل مفيد، لكن لابد أن نطلب الطبيب ليطلع على حالته ويطمئننا عليه، سأخرج لأحضره بنفسي، وما هي إلا دقائق معدودة وقد حضر الطبيب.
الطبيب:
- الحالة تحتاج إلى الانتقال للمستشفى فوراً.
قال الأب:
- حاضر، سنكون في المستشفى في دقائق..
وصل الوالدان بصحبة ابنهما عمران وأخته حنان والخوف يملأ قلوبهم، ولم يمض إلا وقت قليل حتى خرج الطبيب من غرفة الكشف في المستشفى متسائلاً:
- ماذا حدث بالضبط؟
الأب:
- لقد غضبت منه أمس، وضربته، لكنه لم يكن يعاني شيئًا، وأمضى الولد ليلته في سلام، ولكن في الصباح اكتشفنا ما ترى.
الطبيب:
- يبدو أنك قد ضربته بشيء يشتمل على حديد صدئ، أوفيه مسمار أو ما شابه، وللأسف تسبب في تسمم في يده اليمنى، أخشى ما أخشاه أن نضطر لقطع الكف المصابة.
فقال الأب في هلع وفزع:
- لا لا لا، أرجوك وأقبل يدك، تصرّف، اتخذ أي إجراء طبي يحول دون ذلك، لو اضطررت للذهاب إلى أي مكان في الداخل أو الخارج ليعالجه فدلني عليه، أرجوك اصنع أي شيء لتبقى يده سليمة، أرجوك.
الطبيب:
- عموماً، سأتصل على كبير الجراحين ليعاينه مرة أخرى ونعطي القرار إن شاء الله.
لم يكن أمام الأطباء من بديل سوى قطع يد عمران المسكين..
الهدوء يسود المكان!! ودموع الأم تنهمر كالمطر، وأخته تضع يدها على وجهها ترتعد من هول الصدمة، وأبوه شاخص ببصره لا يدري ماذا يقول ولا ماذا يفعل، الحزن يخيم على المكان، كيف لا؟ وهذا الولد الطموح ملاكم المستقبل أو الفنان المشهور، كيف به إذا استيقظ فوجد نفسه مبتور اليد اليمنى؟؟ فلن يستطيع الرسم، ولن يحقق أمله في الرياضة التي أحبها، بل لن يستطيع أن يخدم نفسه كما كان من قبل، الأب يجوب الدنيا بتفكيره يميناً وشمالاً، طولاً وعرضاً، ثم يرجع ويقول في نفسه:
- أنا السبب؛ لماذا صنعت ذلك؟ أنا لا أصلح لأن أكون أبًا أبدًا، كيف سأنظر في عيني عمران بعد ذلك؟ كيف سأتحمل رؤيته وهو غير قادر على خدمة نفسه؟
لقد دمرته، أنا حطمته، أنا قتلت موهبته، يا ليتني مت قبل أن أرى ذلك اليوم....
الأم:
- لقد حكم عليَّ أن أعيش في الهم، ويا ليته كان خطأً يتناسب مع هذه المصيبة، إنها قارورة عديمة القيمة!!
ابني البكر تحطم أمام عينيَّ، وأنا عاجزة عن عمل أي شيء، هل يمكنهم أخذ يدي ليستبدلوا بها يده المصابة؟ يا ليت هذا الأمر ينفع، سأسأل الطبيب، يا ليته يوافق، يارب يوافق، سيكون يوم المنى أن يوافقوا على ذلك، سبحان الله!! ماذا يحدث؟ لماذا وقعت هذه المصيبة؟ لأجل شخص واحد يغضب فيدمر الدنيا حوله؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!!
حنان:
- معقول؟؟ معقول؟ ألن أستطيع السلام على أخي مرة أخرى؟ ألن أمسك بيديه الاثنتين ونلعب معاً ونرقص معاً كسابق عهدنا؟ ألن نلعب لعبتنا الشعبية الشهيرة «لعبة شد الحبل»؟ من سيساعدني في الرسم والأنشطة المدرسية؟ لقد كان يدافع عني لو علم أن أحدًا نظر إلى نظرة سوء بعينه، كنا أربع أيادٍ نحمل كل شيء معًا، ولكنها ستصبح ثلاث أيادٍ فقط!!
لا لا لا.. أنا سأعوضه، سأكون بجانبه طول الوقت، سأكون بجانبه عندما يأكل؛ لأطعمه الأكل بيدي، لابد ألا يحس بتغيير أبدًا وأنا موجودة معه.
ساعة من الزمن مرت، جال فيها كل بخاطره..
يفتح باب غرفة العمليات بهدوء، ممرضة تجر سرير العمليات، البراءة ملقاة على السرير، عيناه مغمضتان، يداه ممدودتان، إحداهما بخمسة أصابع والأخرى يلفها الشاش الأبيض في موضع كفه وأصابعه، وقعت الأم مغشياً عليها، جرت البنت مسرعة إلى أخيها تقبله وتحتضنه، ألقت بنفسها على صدره، كأنها تريد أن تعطيه الحياة بحضنها الدافئ، وتطمئن قلبه بصدرها الحنون، الأب يرقب الأمر ويحاول إفاقة زوجته، وعيناه لا تكاد تفارق ولده، بالحركة البطيئة جداً تقع دموع الأخت على وجه أخيها، فيفتح عينيه، كاد أن يفيق من تأثير التخدير، أخذت أخته تحدثه:
- أخي، حبيبي، اطمئن، أنت بخير يا حبيبي، يفتح عينيه تارة ويغمضهما تارة أخرى، أفاقت أمه من الصدمة، وجلست بجانب طفلها، تضع يدها على صدره وتدعو له:
- أسأل الله أن تقوم من مرضك في سلامة يا حبيبي.
الأب واقف يظهر التماسك، لكن قلبه يرتعد من شدة وهول المشهد، نار تكاد تمزقه في كل جزء من أجزاء جسده، الطبيب يدخل بابتسامة رقيقة:
- قم يا بطل قم، لقد تأخرت في الإفاقة من التخدير جدًّا.
حركه الطبيب حتى استفاق، واطمأن على استقرار حالته، وخرج، لحظات تمر، عيون الجميع متوجهة إلى الولد تنتظر سماع صوته الرقراق، وماذا ستكون أول كلمة سينطق بها وتتحرك بها شفتاه؟ كلهم شوق أن يسمعوا صوته، ربما يطفئ شيئًا مما في قلوبهم، وبعينه الناعسة من تأثير التخدير وصوته المهزوز وإحساسه المرهف تحدث الولد:
- أبى، لا تغضب مني، إن شاء الله لن أفعل ذلك مرة أخرى.
انهارت الأم والبنت وانهمرت عيونهما بالبكاء، أمسكت البنت يد أخيها، وقالت:
- أنت لك ثلاث أيادٍ وليست يدًا واحدة، يداي الاثنتان معك دائماً، خرج الأب مسرعاً، لم يستطع أن يتحمل وحشيته في هذا الموقف، وهو يرى ضحيته أمامه، وليت هذه الضحية عدو لدود، أو مجرم قاتل، أو ظالم فاجر، إنه أحب أحبابه، فلذة كبده، وسنده، إنه ابنه..
تدخل الممرضة:
- من فضلكم، موعد الإبرة، أرجو أن تخرجوا من الغرفة، فإذا انتهيت ناديتكم.
خرجت الأم وابنتها، حركة هرج ومرج عند باب المستشفى، ناس كثيرون، أصوات تتعالى هنا وهناك، سرير عمليات عليه إنسان مضرج بالدماء، ما هذا؟
تساءلت الأم:
- سبحان الله!! لعله حادث مروع، دققت النظر، فإذا هو زوجها، صرخت بأعلى صوتها:
- لا لا لا، زوجي.. زوجي.. لماذا تتخلى عنى في هذه الظروف؟؟ أصوات تناديها:
- لقد صدمته سيارة كانت مسرعة بالطريق، وفارق الحياة، سقطت زوجه مغشيًّا عليها للمرة الثانية، قام الولد حين سمع صراخ أمه، ووجد أباه على تلك الحال، ألقى بنفسه على صدره، وأخذ يجهش بالبكاء:
- أبي.. أبي.. حبيبي.. لماذا فعلت ذلك يا أبي؟ لماذا تتركنا الآن؟ أحتاج إليك يا أبي، أنا سامحتك والله.. ولست غاضباً منك، لقد كنت تريد تعليمي، أعلم أنك طيب القلب، لماذا تركتنا يا أبي؟؟
ووسط هذا الجو المشحون بالمشاعر القاسية يدخل رجل عليه سمت الوقار، يرتدي بدلة فاخرة، في هدوء مشوب بتعجب!
- أين صديقي؟! أبو عمران، لقد اتصل بي وقال: إنه يريدني في المستشفى، وإنه بخير.
أخبره الحاضرون أنه مات إثر حادث سيارة، لا حول ولا قوة إلا بالله... إنا لله وإنا إليه راجعون.. احتضن الرجل الولد وأخذ بيد البنت ودخلا الغرفة، صمت قصير، بعده قال الرجل:
- قوموا معي إلى السيارة.
عمران:
- لا، لن أذهب إلى البيت بعد غياب أبي.
الرجل:
- ومن قال إننا سنذهب إلى البيت؟
عمران:
- وأين سنذهب إذن؟
الرجل:
- عندي شقة جاهزة بكل ما تحتاجون إليه، تسكنون بها حتى تهدأ الأمور، ونفكر ماذا سنفعل.
انتهت مراسم العزاء، وصار هذا الرجل يمر عليهم كل يوم أو يومين يطمئن عليهم، ويخرج بالولد وأخته إلى الحدائق والمزارات السياحية، يقضون وقتًا يخفف عنهم من جو البيت الصعب، مرت بضعة أشهر.
زارهم الرجل وقال لهم:
- تقبلوا أن أكون والدًا لكم، وأكون معكم دائماً؟ لقد عرضت الزواج على أمكم منذ زمن، لكن قدر الله وما شاء فعل، ما رأيكم؟ أتقبلون بي بينكم أم لا؟ التفتت البنت إلى أمها ونظرت إليها نظرة فيها ابتسامة من رأى النور بعد الظلام، وخيوط الأمل تبرق من بعد يأس!
- أمي، أتذكرين المنام الذي رأيته وقمت قلقة على أخي؟ الأم:
- نعم يا حنان، أذكره جيداً، ماذا تقصدين؟
حنان:
- قد تكون هذه اليد التي أخذت بيد أخي بعدما انكسر ظهره!!
ابتسمت الأم ابتسامة حياء، خافضة ببصرها إلى الأرض، لم يترك الرجل مجالاً للحوار بين حنان وأمها، ففاجأهم بخبر:
- لقد حجزت للسفر إلى فرنسا لعلاج يد ابننا، لو وافقتم سنذهب معًا ونقضي وقتًا طيبًا، ما رأيكم؟