مناضل
تأليف: خديجة بيوسف | الدولة: المغرب
«روحي تأبى الانصياع أيها الناس، مهما فعلتم من أفعال، ومهما رددتم من أقوال، أنا رجل يأبى الرضوخ، يوم ولدتني أمي، ولدتني حرًّا، مقيدًا فقط بعبادة الله الواحد الأحد، والآن أرفض رفضًا قاطعًا الخضوع لأمثالكم من بقايا الرجال.»
صوته يتردد في أروقة السجن بغضب مستعر، بجنون ظهرت آثاره على ملامح وجهه الفتية، مشوهة تلك التعابير الصابرة، والتقاسيم الراضية؛ لتستحيل لمجرد وجه مظلم لم تؤثر فيه إلا قذارة المكان برائحة متصاعدة من العفن المنتشر، وبقايا جرذان مقتولة في الأركان.
- أوتسمعون حديثي أيها الأنذال؟!
كرر بصياح وعيناه تركزان على نهاية الممر المسدود، حيث يركن على الأغلب حارس يسمعه الشتائم من حين لآخر، ويرفع صوت الراديو عمدًا في كل مرة يردد الصوت الأجنبي عمليات اغتيال رفاقه، وإعدام أصحابه.
- آه يا الله! لقد وجد اليأس طريقًا لصدري، وحكم روحي وشل رغباتي.
رددها بصوت منخفض مخافة أن تبلغ مسامع أحد غيره، فيدركون أن له نقطة ضعف يستهدفونه ويذلونه بها.
- لقد سجنتم جسدًا واحدًا خلف هذه الأروقة السفلية، لكن صيحة المقاومة ستمتد حتى تشمل ربوع الوطن كله، وبعدها لن تجدوا لكم منفذًا سوى الرحيل بمتاعكم كالجبناء، والهرب كالسفهاء.
صاح مجددًا وأصابعه الهزيلة تتكور في قبضة اصطدمت بالحاجز الحديدي الضخم، مصدرة دويًا تردد صداه للحظات عابرة قبل أن يتبدد في صمت.
- اخرس يا هذا.
جاءه صوت آمر من خلف المدخل، سرعان ما برزت هيأته في جسد عسكري ضخم ألقى عليه نظرة تهديدية صريحة، لم تحرك فيه ذرة من الخوف ولم تثر فيه أي ارتعاشة توتر؛ لأن روحه كانت تتشبع بإيمانها، وكان يزيدها قوة فوق قوة ذلك الشعاع من الانكسار الواضح خلف عيونهم، والذي يبجلونه بمحاولاتهم الفاشلة في دفعه للحديث بتعذيبه مرات ومرات.
- لي كامل الحق في الحصول على مصحف، وأريد أن أطالب بسجادة صلاة ودلو ماء.
أمر بصوت لم تتزعزع نبراته ولم تتردد حروفه، وعيناه القويتان تواجهان عيني خصمه الضيقتين، المحدودتي الأفق، والتي بالتأكيد شملته بنظرة مقيتة خاوية.
- حق؟!! أو تتحدث عن الحق بعدما فعلت؟! اخرس والزم مكانك، ساعات حياتك لم تعد بالكثيرة في جل الأحوال!
صاح فيه وهو يغلق النافذة الحديدية الصغيرة التي تمنحه الإطلالة الوحيدة على الحياة في ذلك المكان النائي، غرق في لجة مظلمة من الصمت الموحش، بالكاد تتردد في حنايا سجنه المقيت سوى همسات بعيدة لا تزيل عنه ضغط الوقت الطويل من العذاب الصامت، ولا ضغط الجسد المكلوم ضربًا شقيًا حطم ضلعا من أضلعه، وجعله يكتوي بنيران الألم بعيدًا عن هسيس أشباه الرجال هؤلاء.
آه من أيام كان الصبا فيها حقيقة رائقة، حيثما حل انتعشت الدنيا بحضوره وترقبته ببهجة لا يخفى عنه فيها إلا ما وراء الحقائق، حين كانت الشكوى تضرعًا لله، بعيدًا عن حال زرية أصبح التردد يقبض دفة قيادتها، حين كانت السعادة شمسًا مشرقة، وخيطًا من الأمطار اللطيفة بعد قيظ طويل، حين كان المرعى صاحبه، والأغنام رفاقه، وعود الناي صديقه الدائم.
آه يا روح الروح المتعبة، أين هو عن ماض خال من المتاعب؟ أين هو عن حرية كان عبيرها يغدق عليه من كل حدب؟ أين هو عن حضن أمه الذي يحتويه من برد أفكاره وظلمة خيالاته؟
يخيل إليه أنه يلمس ذلك الصبي الغر المرح، صاحب العينين المنزعجتين من شقاوة أشعة شمس تموز، المستلقي فوق سنابل العم المعطي، حيث ظل يراقب عصفورًا يشاكس زهرة شجرة خوخ ويتغزل بجمالها بتغاريد مرحة، دفعت بابتسامة أنيقة لشفتيه، وجعلت عضلات جسده المتشنجة من التعب تسترخي بهدوء.
تتبع تنقل العصفور من شجرة الخوخ إلى غصن صفصاف قريب منه، حيث استرخى هو الآخر متمتعًا بأشعة الشمس، راضيًا بصمت، هانئًا في وحدته، سعيدًا بحريته.
الحرية!
خاطب عصفوره الخيالي بابتسامة تعيسة، وتلمس في الظلمة الفراغ الخاوي عله يمسك الصورة الخيالية التي رسمها عقله.
«الحرية يا صديقي تستحق أن تدفع من أجلها ثمنًا عظيمًا، كأنها فاكهة شتوية تبقي عينيك على شجرتها دون أن تستطيع قطف ثمارها كما يجب، إلا حين يحين وقتها».
استطرد وأصابعه تنتهي إلى كرسي خشبي تعود أن يحدد به طريقه في ذلك المكان الواسع الضيق، الكبير الصغير.
الوقت يمضي بسرعة يا صديقي، يوم أمس وحسب كنت أستعد للسفر، وها أنا الآن بين قضبان هذا السجن أحتسب الأيام القليلة التي تبقيها الحياة لي، أجد في وحدتي بعض الراحة التي ضاعت في جوف صخب الدنيا وانفعالاتها.
طفرت عيناه دمعات خائنات، سرعان ما مسحها متأوهًا من الألم الذي سببه تحريك أعضائه الضعيفة، الفاقدة للقوة والقدرة، وأسرع يمسحها، علهم لا يفاجؤونه ثانية بدخولهم لزنزانته، واستنطاقه بمعداتهم الخبيثة.
ها هو الآن يذكر نفسه وهو شاب يحمل متاعه فوق ظهره: كيس زري يحمل بضع جلابيب صوف وسراويل من القطن، وقمصان أمه التي حرصت على إعدادها له قبيل رحيله، وقف على عتبة داره يرتقب السماء الحزينة بذهابه بعينين متشوقتين، بنظرات لم يتردد فيها لا الحزن ولا الصخب اللذان يحكمان روحه حاليًّا، بل مجرد أمل عظيم، أمل في امتداد كبير لسعادة أبدية، لن يتردد لحظة في تحقيق جزء من أحلامه، وتصويبها نحو أهدافه، وترسيخ اللبنات الأولى لمصيره.
أقبلت أمه راكضة من وسط الدار وهي تحمل بعض الطعام الذي يشك أنها لم تحرص به على إبقاء ما يكفيهم منه إلا بسببه، وجد نفسه يعترض على ذبحهم واحدة من المعزات الثلاث التي يملكونها في سبيله، أمر لم يستحمل رؤيته وهو يرى التعلق الواضح به، والحب الذي ينضح من جميع تعابيرها تجاهه.
- لا أحتاج لكل هذا أمي!!
اعترض وهو يلمحها تدس شيئًا خفيًّا في متاعه، لكن عناده لم يكن إلا طفرة من بحرها هي التي رفضت منه أي اعتراض يلفظه، وأي كلمة تنطق بها شفتاه، مؤكدة حديثها بدعاء طويل لا زالت كلماته تتردد في ثنايا عقله.
- اذهب يا بني، عل الله يجد لك في رحيلك سبيل الحق، وترسو مجاديف حياتك حيثما وجد الخير، ليقبل عليك أينما حللت وكيفما حللت.
قطعت كلماتها للحظات كي تمسح ما انبثق من الدموع من مقلتيها، قبل أن تردف بقلب مكلوم، ووجع مفطور:
- اذهب يا بني، أنا راضية عليك دنيا وآخرة، وأبوك أيضا، ابنِ لك حياة بعيدًا عن الشر والظالمين، واعلم أن الحق ينتصر، الحق ينتصر، الحق ينتصر.
- الحق ينتصر يا أماه!
صرخ بها وقبضته تضرب أرضية الزنزانة الإسفلتية، وصدى صوته يتكرر كوعد تمنى لو تصل حروفه لرفاقه، وتؤكد لهم أن النصر قريب.. النصر قريب.
فقط، بعض التضحية في سبيله، بعض الدماء التي ستلطخ الجدران أكيد، ثم بعد الوجع تسكن الندوب وتلتئم شيئًا فشيئًا، وتعود طيور المهجر لبيتها، وتشرق شمس يوم جديد، تشرق نهارًا بطعم حرية مغدوقة، وزوال كل التربص والحزن الخبيثين.
- الحق ينتصر!!
كرر مجاهد كبح دموعه الحارقة، وحشرجاته الخائفة.
أوليست حقيقة الموت مهولة في ترديد حروفها؟ أوليست مسكونة بالأوجاع والتوعدات العنيفة؟ في كل مرة يرددها تخنقه عبرة نادمة وحسرة مغلوبة، فهو لم يعانق أمه كما يجب في زيارتها الأخيرة له، لم يستنشق عبيرها الذي ود لو يلتصق بجسده فلا يتركه، كي يطمئن إلى أن وجودها قريب منه، حينها لن يتردد الخوف عليه كما يفعل، ولن تزعجه كوابيس من الهلع المتيقظ كأنه وحش كاسر يطمح لتمزيقه إربًا، حينها فقط ستسكن نفسه وستستقر أفكاره وستهدأ ثورات غضبه المتتالية.
حملته ذاكرته إلى يوم رمادي مظلم، نفض عنه فيه رداء التعب وهو يخبر مخدومه في الفرن التقليدي أنه راحل لإحضار بعض السخرة، حاملًا شيئًا من المال اليسير، قاصدًا سوق المدينة الشعبي.
هاله ذلك التجمع الكبير لناس احتشدوا بأعداد كثيرة وسط الساحة، فانضم لهم يسيره الفضول ورغبة الاستكشافِ حديثةِ العهدِ به.
ترقب بصمت رجلًا يخاطب قلوب الناس قبل عقولهم، غيرتهم الوطنية على بلادهم دون خضوعهم، القوة فيهم لا الضعف، وسمعه يخبرهم بصوت لم تتزعزع نبراته ولم تتردد حروفه:
- ما هي إلا قطرة من نهر لجي عميق هي هذه الحركة، لكنها القطرة الأولى لغيث لا يتوقف، قطرة ستزعزع حصونهم المبنية على استعمارنا وستطردهم من أرضنا، سيفيض هذا النهر يومًا، سيفيض عميقًا، وستطال مياهه الجامدة أجسادهم لتغرقها، نحن لا نسأل سفك الدماء ولا إراقتها، نحن نسأل الحرية منالًا، ونتطلع ليوم سنغادر فيه بيوتنا دون خوف مما سيؤول إليه حالنا، لقد تحملنا مرة ومرة، وقد ضاقت أنفاسنا بهذا الكم الهائل من الضغوط، سنطالب بحريتنا اليوم وغدا وبعد غد، وسنظل نطالب بها حتى نبلغ هدفنا!!
تهلل الحشد بصرخات مؤيدة، فانضم لهم هو الآخر ينشد الحرية، وقد دفعه حينها تهور شبابه واندفاع صغر عمره، ولم يدر وقتها أنه يضع اللبنة الأولى في طريق يتسلك فيه لبلوغ مسعاه، والوصول لهدفه، إلا بعد حين.
- سأنهض.
وجه الحديث لنفسه وهو يحتمل ثقل جسده وآلام أعضائه، مستطردًا بصوت لا تشوبه شائبة:
- سأنهض لأنني لا أريدهم أن يروني في ضعفي فيشمتون بي، سأنهض لأن ثقتي في الله كبيرة وإيماني به لن تسعه سعة، سأنهض لأن أمي لم تلدني جبانًا ضعيفًا، ولن تبتغي رؤية بِكرها متحسرًا باكيًا، سأنهض لأنني كنت على صواب ولا زلت عليه، وسأظل عليه حتى ينتزعوا بأسلحتهم روح المقاومة في، وما زلت أندد وأردد الحرية مطلبنا الأول، وغايتنا الأخيرة.
حبس صيحات ألمه المتهدجة، وسار حتى استقام جالسًا على كرسيه المهترئ الوحيد، ليتابع بنظراته الظلمة الممتدة، ويصغي للحركات الخفيفة، قبل أن يتسرب لمسامعه صوت موسيقى لم تكن قادمة إلا من خلف جدار ذكرياته التي تجذبه جذبا لها، والتي تحثه على استرجاع مذاق السعادة والجمال، وتدفعه لتذكر ابنه الصغير، يوم كان يلعب بمرح، ويغني بفرح، تحثه على رؤية السعادة التي خلقها جو من الألفة والمودة، وصنعها شيء يسير من الرضى والسرور، خالقة بذلك معنًى للفرح وهدفًا للحياة.
- اسمع بني.
حثه بعبارته على إيلاء اهتمام بالغ له، وتشدق وجهه عن ابتسامة مداعبة حين رفع عينيه الصغيرتين لتراقبانه باهتمام بالغ، مسد له شعره المجعد، واستلطفه رابتًا على وجنته، وقبل جبهته قبلة سرقها الزمن منه، ولم يعد لها طعم يكفي، ثم ألح على أمه لتتركهما، كي يخبره بتأثر:
- عليك ألا تقبل للظلم طريقًا في حياتك، فإن رأيته واجهه، وإن أقبلت عليه هاجمه، واسمع مني هذه النصيحة؛ فهي تغنيك عن كل شيء: كن بارًا بأمك، ولا تعص لها أمرًا، وإن عايرك أحدهم بأبيك فاصبر، واصمت، ولا تؤنب الجاهلين بالحقائق، بني، أنا راض عليك بني، فارض أنت أيضًا على أبيك.
لقد حرم من تلك اللحظة التي يناشده فيها طفله باسمه، يمازحه ضاحكًا، يسمعه أولى إنجازاته.
حرم من كل ذلك وهو يجول في هذه الظلمة الأبدية، يردد بصوت خافت أفكاره؛ عله لا يغرق في الحزن الوخيم، ولا يسيره اليأس الأعمى.
- أتعرف ما أنت مقبل عليه؟
سأله أحد الرجال الثلاثة الذين التقاهم مرة منذ حوالي الست سنوات، في زقاق مظلم لا يقصده الناس عادة.
- أنا متأكد من قراري.
أجاب بصوت واثق، وعيناه لا تتنحيان من فرط الإثارة والفرحة عن عيني مخاطبه.
- ومتأكد من نتائج هذا القرار؟
عاد الآخر يلح عليه؛ عله لا يكون شابًّا طائشًا دفعه التهور إليهم، فيندم بعد حين ويخون ثقتهم.
أجابه بإيماءة من رأسه أولًا، ثم استطرد قائلًا:
- متأكد تمامًا، لقد أقبلت على هذا الرأي بعد أن فكرت في كل نقاط القوة والضعف فيه، وراض بما قدره الله لي، إن كان خيرًا فهو كذلك، وإن كان شرًا، فلي شيء يسير من القدرة على تحمله.
- ستتعرض للسجن يا صاحبي، قد يكون المؤبد، ولو سألت عن رجالنا فهم يتعرضون لأشد أنواع التعذيب هناك، نحن نعمل بسرية تامة، ولو انتهى بأحدنا خلف القضبان فلا أمل في استرجاعه، إلا بما كتبه الله له.
حدثه ثانيهم؛ عله يثبط عزمه، لكن لمعة الإصرار برقت كوهج من نار في عينيه، وشملت محادثه الأول الذي ربت على كتفه قائلًا:
- مرحبا بك بني في الحركة الوطنية، سيكتب اسمك إلى جانب كل من حمل سلاحه رافضًا ما احتملناه من ذل وهوان، وما صمتنا عليه من فساد وإفساد.
- رأيت الموت مرات متتاليات يا الله.
أقر بذلك وكفه تمسد ركبته الجريحة، وأصابع يده تتشابك بدعاء صامت، ليردف بعد لحظات:
- رأيته مرات ومرات، لكن القدر لم يختر لي إلا هذا الطريق، وأنا أمشي فوقه راضًا بما كتبه الله لي، صابرًا على كل ما حمله القضاء لي.
- اللهم فإن كان في سجني هذا طريق للحرية فروحي فداء لها، تضحية لا مفر منها لأجلها، وإن لم يكن فاجعله عتبة لذلك، وسرع بلوغنا لما ترتجيه نفوسنا، وتحيط به رغباتنا.
ختم حديثه حين تناهى لمسامعه صوت رتيب يصفع الأرض صفعًا، تتداخل فيه أصوات حديث رتيب وقهقهات خشنة ساخرة، لم يجفل حين فتح الباب فجأة، ولم ترمش عيناه كما توقعوا منه، بل لم تتسارع أنفاسه الرتيبة وهم يحلقون بأنظارهم فوق جسده الهزيل، الماثل على قطعة الخشب الضيقة تلك، المحدق في وجوههم بقوة أثارت نزق بعضهم، وسخرية البعض الآخر، لكنها أبدًا لم تثر فيه إلا حسًّا بالرضا والهناء، فها هو مصيره يقارب على الانتهاء، وها هي لمعة الرضا تسكن بهناء في مآقيه، تتابع حركاتهم البطيئة، وتحركاتهم المنزعجة.
لحظة من الجلال كهذه صادف أن حضرها بقلب يقظ وبمآق دامعة قبل سنة.
- ها هو مصيري قادم يا صديقي.
تمسكت أصابع صاحبه بكفه الخشنة، وتابعه بنظرات مشفقة باكية، سرعان ما نهره الآخر عليها وهو يقول بحدة:
- لا يخيل لي أني سأرى كل هذا الضعف فيك يا صاحبي، أو تظن خشيتي من الموت بأمر كبير!؟
حاول مقاطعته، لكن ضغطة من كفه اضطرته لالتزام الصمت، ومتابعة وجهه الشاحب الذي وطأته تجاعيد الزمن، وأثرت فيه خيوط الهرم، وظهرت عليه آثار سم دسوه بالمكر في طعامه فنحل جسده، وضعفت أعضاؤه، وبات مجرد شبحِ جسدٍ آيلٍ للسقوط.
- كلا يا صاحبي، لا يغرنك شكل جسدي، ولا منظر وجهي، أنا أتوق لهذه اللحظة منذ سنوات، ويفجعني أن تكون أنت من يبكيني هكذا، كأنه لم يبق لي في الدنيا أثر!!
- هو باق، أثرك باق يا مناضل! تحمل فقط حتى وصول الطبيب!
قاطعه بابتسامة سمجة زينت وجهه، ومرر راحة يده على وجنته الخشنة مداعبًا إياه بمرح لم يظهر منه إلا العجز والتعب:
- لا الطبيب ولا غيره يستطيعون مداواة ما أنا فيه، أنا والحمد لله أستطيع الموت بسلام، لم يرتكب ضميري إثمًا في غيري من الناس، لم أسرق أموالهم ولم آكل طعامهم، يرضيني أن أنضم لخالقي ورسوله، يرضيني أن أعتب بخطاي المتمهلة الوئيدة هذه أرضًا ستتسارع فيها مهرولة راكضة، تائقة فخورة.
ثم أردف وأصابعه تنزل من على وجنته، لتتلمس كتفه بصبر، بثقة وإيمان:
- الحرية يا صديقي جميلة، عذبة، وراقية عن الحديث عنها، لكن السجن الذي خلفه هدف وقضية لهو أعمق من ذلك، وأكثر وضوحًا، نحن نحارب لأجل حرية الوطن، وسنظل نحارب في كل مرة يحاول محتل غاشم أن يطبق حكمه على أرضنا، أنا فخور بي وبك يا صاحبي، فخور بثقتك العمياء في هدفك، فخور بطموحك الذي لم تزعزعه العثرات ولم تحل دونه الأطماع، فخور بكونك صاحبي، وآخر من تطاله نظراتي.
- آه يا صاحبي..
كرر بصوت منخفض وهو يستعيد وعيه من ماض يأبى إلا أن يظهر كاملًا هذا الصباح، وأصابعهم القاسية تحيط بذراعيه حبلًا غليظًا، وتسوقه بعنف خارج الزنزانة التي احتضنته لأشهر طوال، وربما ستحتضن غيره ممن مثله لأشهر طوال أخرى.
- لقد امتنعت عن قول شيء، وروح الندم التي تسكن غيري لم تعرف طريقها إلي.
استطرد بصوت بلغ مسامع من يقودونه، فتجاهلوا حديثه وحرصوا على جره بضراوة بالكاد تحملها، ولكنه أبى أن يرضخ لتعنتهم والحياة ستفارقه في دقائق، سيموت مرفوع الرأس، شامخ النفس، فهو لم يرتكب في حقهم إلا ما تجاسرت أيديهم على ارتكابه في حقهم، ولم يحمل الضغينة لأحد إلا من حملها له.
- توقف.
صوت آمر انبعث من خلفه، علِق معه أمل هزيل في الحياة سرعان ما قتله وهو يستمع لقائدهم يخاطبه: سننظر في قرار الإعدام إن صارحتنا بما تعرفه عن الحركة ومراكز المقاومين، وسنجري لك محاكمة نحرص فيها على التأكيد على مساعداتك لنا، فما رأيك؟
أجاب دون أن يتمهل بالتفكير:
- صفقة فاشلة، وأرفضها تمام الرفض.
- إذًا فسنحرص نحن الآخرون على أن تحصل على العقاب الذي تستحقه.
أجابه بنبرة مقيتة لم تزده إلا فخرًا ورضًا، رمقه بنظرة جامدة حادة قبل أن يسيره الجنديان خلفه في ذات الممرات التي قدم منها بيومه الأول هنا، حتى بلغوا مدخلًا نزعوا عنه فيه سترته القمحية، وجلبابه الرمادي الخشن، ووضعوا فوق رأسه كيسًا أسود حال دون رؤية ما أمامه، ثم ساقوه ثانية لمكان تركوه فيه جاثيًا، وعمدوا على تذليله ببضع كلمات لم يسمعها جيدًا، ولم يكن يطمح ليسمعها، فقد خاطبهم بصوت عال:
- أنتم لا تحولون بيني وبين النور بهذه الخرقة البشعة، فالذي أراه بقلبي لن تستطيعوا التماسه ولو بعد حين، وستظل أصواتنا تتردد في مسامعكم حتى تجيش صدوركم بالتحسر والندم.
ثم صمت لوهلة يلتمس أنفاسًا يستعيد بها بعضًا من قواه الخائرة ورأسه مرفوع كما هو، بينما عيناه مغمضتان تطمحان لانتهاء هذا الكابوس البشع، مضيفًا:
- تلك الراية التي عمدتم لطمرها ستطفح عاليًا في السماء، ستعانق سحبها وتداعب عصافيرها.
- اخرس.
لم يكترث بالنبرة الغاضبة التي جاءته من مكان غير بعيد، فقد أرهف السمع لأحد يتكلم ممن كانوا هناك في الساحة معه، ممن لم يستطع رؤيتهم ولا سماع صوتهم، ممن حكم عليهم جورًا مثله، واقتيدوا ضد رغباتهم لهذا المكان النائي المنعزل، حيث سيستشهدونهم دون أن يدركوا أن لفعلهم تجاههم رد فعل.
تردد الصوت الحازم بنبرة منخفضة، متعبة وحزينة، ترددت الأنشودة التي حفظها منذ أعوام طوال تعيده لطفولته، ولم يعرف معناها إلا وهو يقبل على الموت، والتعب ينخر جسده نخرًا.
- استعدوا.
صوت خشن ارتفع من مكان ليس ببعيد، يوجه أمره لصف من الجنود الواقفين خلف صف من المحكوم عليهم ظلمًا.
- سيحمل متاعه فوق ظهره، وسيسير راحلًا، هاربًا، راكضًا، لكنه سيعود في ليلة شتوية، محملًا بوعود وأحلام.
تردد الصوت مجددًا، بادئًا الأنشودة من جديد، مكررًا كلماتها وهو يتغنى باستمتاع مغاير هذه المرة.
- صوبوا.
- سيبني بيته فوق الهضبة، وسيفرد جناحيه لحلم هارب من أصله، ثم سينتظر وينتظر، حتى تعود الطيور من مهجرها.
- أطلقوا.
وانطلق وابل الرصاص ليقبع في خمسة أجساد متوازية الوقوف، متشابهة المصير، مختلفة الأحلام.
انتفض جسده للحظة قبل أن يقع على الأرض الندية، سقط غطاء الرأس عنه حين جاؤوا يتأكدون من موته، تدفقت الدماء من شفتيه حين حاول أن يبتسم، أعجزه الألم، أخرسته سكرات الموت، لكنه لم يتوقف عن جهاده الصامت وبريق ابتسامة متشققة ترتسم على شفتيه، بينما دمعة خائنة تنزل من مقلته، وتذوب على الأرض المعشوشبة كأنها لم تكن، ثم انتظر لحظة حتى توقف الألم قبل أن يغمض عينيه، ويستسلم لنوم أبدي رائق، وصدى صوت الأنشودة يتردد في الساحة المضرجة بالدماء.
«حتى تعود الطيور من مهجرها، حتى تعود الطيور من مهجرها».
حتى يعود المناضل لوطنه...