مشاهد بلا ألوان
تأليف: أسيل درويش | الدولة: لبنان
كفى اصمتْ يا عقلي..
يجلس على كرسيه ودخان سيجارة يستلّ من روحه قبضة، يودّ أن يقاتل الزمن والبشر والقدر؛ كرسي خشبيّ يتأرجحُ به في عالم من الأحلامِ اللّامتناهيةِ وإذ به يقف متذمرًا غاضبًا، ثم يجلسُ مرة أخرى هادئًا من دون أن ينبسَ ببنتِ شفة.
ينفسُ سيجارةً ويرتعبُ من ذكرياتٍ تعشوشب في الماضي الهجين يتواصل على غيرِ عادة مع ذاك العالم الذي أراده قتيلًا وهو على قيد الحياة.
فهذه المرة الأولى التي أشعرُ فيها أنّني ضائعٌ، وكأنني لاجئٌ بلا هوية ولا أرض فما الصوابُ؟ أن نبيعَ الماضي لنشتريَ الغدَ، أم نترك الغد ليدِ القدرِ، ونحتفظ بالماضي الذي نملكه؟! وكأن الحياةَ تقتنصُ من روحي الغذاءَ المشوبَ بالواقعية المدمرة.
وإذ بدخان ينفض الغبارَ عن الواقعِ المرير الذي يستقرئ من الفقر لونًا ورائحةً، كأي شاب يافع يهرول وخلفه أحزمة الحياة للاتّكاءِ عليها لتأمينِ فتاتٍ من الخبزِ ورشفةِ ماءٍ نظيفةٍ، فمسكنٌ متواضعٌ يقتاتُ به من أسربةِ اللّيلِ المميتةِ، ولكنْ وجدَ الأيامَ تسيرُ به باتجاهٍ معاكسٍ ليصبحَ ذاك الصحفيّ البائسَ الذي طُردَ من عملهِ بسببِ سمّ قلمهِ المميتِ وبتصارع دائم مع عجلة الزّمن والفقر والحاجة.
أهز الكرسي وإذ بدمعةٍ تسقط سهوًا على ورقة في كتاب أحمله بين يدي يدعى «الحلم»، أحقًا من حقّنا أن نحلم؟! فلو حلمنا وتكاثرت أحلامنا ستبقى أحلامًا ما لم يكن هناك عمل وإصرار، لم لا أفعل كبطل الرّواية وأصنعُ قدري من جديد وأحاولُ أن أتخلصَ من تبعيّات الاختيارات الخاطئة؟ وما كان إلّا وأنْ نفدت علبةُ السّجائرِ وهربت الأفكار بعد حضور النّعاس العميق.
- أُرِيدُهَا بنكهةِ الفراولة لَوْ سمحت.
ومَا أَشْهَى المُثلّجات فِي هَذَا الحرِّ الْقَاتِل وخَاصَّةً عِنْدَ أبي بديع أَشْهَر بَائع مُثَلَّجاتٍ فِي الْحَيِّ، إِنَّه عَجُوزٌ ضَئِيلٌ قَضَى حَيَاتَهُ فِي صُنْعِ المثلّجات وبَيْعِ السّكاكر، فَبَعْد اللّيلة الشّاقة والطّويلة الَّتِي مَرَرْتُ بِهَا، أَرَدْتُ السَّيْر قَلِيلًا عَلَى الشَّاطِئِ الْمُثْقَلِ بهمومِ النَّاسِ ودُمُوعِهِم الَّتِي اِنْجَرَفَت مَدًّا وجُزُرًا مَعَ تَقَلّب أَمْواجِ البَحْرِ.
وأَنَا أَسِيرُ عَلَى الرَّصِيفِ الْمُمْتَلِئِ بِالنَّاسِ وعربات الخضارِ والْفَاكِهَةِ، داستْ قَدَمِي عَلَى آلة تصوير وكَأنه وَلَّت عَلَى كيانِها سنين طويلة، فألتقطُها عاهدًا أن أبيعها لتروي عَطَشي وتَسَكّنَ جُوعَي ولَو بشيءٍ بَسِيطٍ.
سرْتُ قَلِيلًا وانْعَطَفَتُ يَسَارًا إلى أَنْ أَصْبَحْتُ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ المِيناءِ، جَلَسْتُ عَلَى الشَّاطِئِ أَتَنَاوَلُ المثلّجات مُشْبِعًا نَظَرِي بزرقةِ الْبَحْر والْعَصَافِيرِ الَّتِي تَحُومُ فَوْقَه مبتعدًا عَن اكْتِظَاظِ النَّاسِ وضَجَّةِ الْمَصَانِع والسَّيَّارَات.
أتيتُ إليك يا بحر لعلّك تنقي فكري كنقائِك وتجعلُ أيّامي متقلبةً باردة كأمواجك ولكن فكيف بك بهذه القوّة والكتمان؟! فأنت محطّة أسرار بعض البشر وبلسم لهمومهم التي تربّعت رفوفًا وصفوفًا على قلوبهم، فما أرقك يا بحر وأنقاك، وما أقذر حكايات بعض البشر!
وَإذْ بِصَوْت خَافتٍ يُتَمْتِمُ «حطمني أرجوك» يَقْطَع خُلْوَتِي الصباحية.
حطمني أَرْجُوكَ يَا هَذَا! فَالصَّوْتُ قَرِيبٌ لَكِنَّ مِنْ أَيْنَ؟
- انظر بجانبك وستعرف.
التفت لجانبيه متسائلًا، فَإِذ بها آلة التصوير توشوشه، يا للهراء كيف بك تتكلمين؟!
- أنا أَتَكَلَّم؟! أَنَا صَامتةٌ مُندهشةٌ مُنْذ وُقُوعِي عَلَى الْأَرْضِ، أُرَاقِب خُطُوَاتِ النَّاسِ، خائفة مِنْ أَنَّ يَرَانِي أَحَدٌ ويلتقطني، فَإِنِّي عَشِقْتُ الشَّارِعَ وانْسَجَمْتُ مَعَ الّْأَرْضِ.
- تبْدُو عَلَى مَلامِح وَجْهِكَ الطَّيِّبَة والثَّقَافَة التي صقلها الطموحُ الْمَحْرّمُ فِي هَذَا الْبَلَدِ.
مَلامِحُ الدَّهْشَةِ والْحِيرَةِ اِحْتَلّتْ وَجْهِي، فَكَيْف لآلة بِالنُّطْقِ؟! أأنا مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ أَتَوْهّمُ وأَصْبَحْتُ مَجْنُونًا؟!
حَاشَاك مِنْ الْجُنُونِ، أَنَا أَنْطَقُ حِينَ أَصْبَحْت لا شيء وبِلا قِيمَةٍ، ورَأَيْت ما خلفَ الستار ولامست أَوْجَاعَ النَّاس وداس عليَّ حِذَاءٌ برجوازي وأيقنتُ أَنَّهُ غَنِيٌّ، وآخر مُهْتَرِئٌ أدركت أَنَّهُ فقيرٌ، فقصّتي بدأت عند أبي مصنع آلات التّصوير، من ثم في معرض جميل ممتلئٍ بأرقى وأغلى البضائع، فبين يد مصور طمّاع يعمل في مجلة وثائقيةٍ، من ثم قبعت في بيت بَائعٍ فَقِيرٍ يَشْكُو مِنْ ضِيق الْحَال وكُلُّ مَا يتقاضاه فِي الدُّكَّانِ لَا يَكْفِي لِإِشْبَاعِ أَطْفَالِه ومَصَارِيف الْعَيْشِ، فبين يد طفل صغير عاشق لتصوير الزّهور وحفظ لحظاتِ حياته السّعيدة وفصولها المليئةِ بالألوان، إلى أَنْ أوقعتني أناملُ أم طِفْلة كفيفةٍ أكملت سيرها دُونَ أَنْ تدري.
لا أستطيعُ أَنْ أَصِفَ مَا رَأَيْتهُ تَحْتَ سِتَارِ اللَّيْلِ مِنْ جُوعٍ مُتَسَوِّل، وأَطْفَالٍ يسرقون فتات الطَّعَامِ من الحاويةِ وحَسْرَة فتياتٍ يرتدينَ ثيابًا مهترئةً أمام واجهةِ الفساتين المطرزة، فَكَيْف أبوح بلوعتي؟! يَوْمَ غدوت لتصوير الأشياء الشّنيعة، يوم عيناي رمقت صفقات الساسة الممزوجة بحبر الكذب وخَزَائِنهم الْمُتخمة بالدّولار ورفقائه وكروشهم الْمُمْتَلِئَة التي تتقيأ ما لَذّ وطَاب غَيْر مكترثين لأوضاعِ شِعْبِهم الْفَقِير الَّتِي أَكَلَتْ الضَّرَائِبُ والْمَصَارِيفُ الْباهظة مَا تَبَقَّى مِنْ جسدِهم النَّحِيلِ، ونخرت قَصَصَ حَيَاتِهِم التي استحالت وقوفًا على أطلال الأمن والأمان، ويوم عدساتي أرخت قِصَّة الْمَوَاطِنِ الَّذي أَحْرَقَ نَفْسَه تَارِكًا أَطْفَالَهُ يتامى وكفيلهم الزّمن الهجين؟ وجريمة «تخلف الشّرف» لمراهقة لم ترتكبْ من ذنوب سوى أنها أحبّت، قاصرات باتوا شهداء في أكفان تدعى الأقفاص الزّوجية، وفتيات غرس فيهن الاغتصاب أكبر ألم وباتت أجسادًا عارية من دون روح، بشاب متعلمٍ اقتطف ثمارَ البطالةِ وعلّقها على شجرة الهجرة، بمواطن يحتضرُ على عتبةِ الموتِ المجاني، وعيون الطّماعين الجشعين التي لم تكفيها الطبيعة كلّها ولم تملأها، أشتاق لرؤية الشلّالات النقية والزهور الملونة والفراشاتِ الّتي تتراقص بأنوثة دائمة، فيا ليتني ذو سلطة قوية لقتلتُ وحشَ النفايات المستولي على سهول الطبيعة الخضراء والواسعة، أترى هذا المصنع بجانبك؟ فمالكه هو مسؤول كبيرٌ في دولة، ألا ترى ما فعل بصفاء البحر؟! فجميع أنابيبه موجهة إلى جوفه، أيقنت أننا نعيش في عالم خطير فالإنسان حكمَ الطبيعة قبل أن يتعلمَ كيف يحكم نفسه.
في رأْيِك مِنْ بَعْدِ هَذَا الزلزال المهدد لمَعِيشَةِ المواطنين المسحوقة تحت أقدام العبودية المادية، فَمَن السَّبَب: أهم السياسيّون الْفَاسِدون وأطماعهم بالمستقبل، أم قعر التّخلفِ الذي نعيش فيه؟!
رَمَقْت عيناي الْبَاكِيَتان وأكْمَلْت حَدِيثهَا.
لقد خارت قواي يا هذا، أشتاق لصفحات حياتي المعطّرة بالأيام الضّاحكةِ الممزوجةِ بإكليل الحب الصادقِ والروحِ النقيةِ، أشتاق لذلك الزمن عندما كنت أشعر بأنني معرضة لكمينٍ من جمال الطّبيعة الساذج، وعلى أن أحتاط من مكرِ الطبيعة بأرقى الصور وأجملها متأرجحة على سمفونية العصافير الرنّانة، إنني أكبر، لكن هل نضجت بالقدر الذي يستحقه عمري؟ لا أدري، كل ما أعرفه الآن أنّها حياتي، وهذا ما يحدث، فلمَ لم يكن قدري كقدر رفاقي المشبعين نظرهم بواجهة الحياة السعيدة؟! فأولهم تصور حفلات زفاف وتشهدُ على حبٍ طاهر مكللٍ بالزواجِ والحياة الكريمة، وأخرى على خشبة مسارحِ الطلابِ لتكون أولَ من يصفقُ لهم بمباركة لنجاحهم، أما الثانية فتستمتعُ بكل ثانية فهي الآلة الخاصّة لتصوير فخرنا «فيروز» فبين يدِ أب يلتقط أول صورةٍ لطفله الصغير تتربعُ الثالثة، أما الرابعة كابن سينا عاشرت أجناس الكون أجمعين ومتعت فكرها بحضاراتِ الكونِ المختلفة، أما أنا فتصفحت الصفحة الأولى من كتاب الكون وشاء لي الله أن أرافق السّياسة والموت والفقر والتّسول والكذب والخداع.
فأرجوك أعدني الى أحضان الطبيعة أو حطمني، فباتَ تلوثي أكبر من تلوثِ الأرض نفسها، أفلا تعلم أن الراقي فقط ينطق لغة الطّبيعة؟ تلك اللغة المشتركة مفعمة بالحياة تتجاوز الحدود السياسية والاجتماعية، فالإنسان ينشرح صدره في أحضان الطبيعة ويرفرف خياله مع أجنحة الطيور ليفتح للوصف ألف ألف باب، سئمت من قذارة هذا الواقع وتكحّلت عيناي بأوجاع المواطنين المرة.
- احتكرتني هذه المشاهد، وللأسف كُلُّ مَا أَراه على شاشات التّضليل الإعلامي من خطابات للحكام سنحاول، سنؤمن الكهرباء، عاش البلد، كلنا للوطن، وما يصاحبُ ذلك من قهقهات الشَّعْب الصفراءِ، فَيَا أَيُّهَا الطَّيِّب، ارْمَنِي فِي هَذَا الْبَحْرَ عَسَى عَذَابِي يستسلمُ في أفواهِ هذه القمامة المرمية عشاءً أخيرًا.
- قِصَّتُك يَا آلة هِيَ جُزْءٌ مِنْ معاناتي ووَاقِعي المُعاش، فَأَنَا شَابٌّ تخرجّتُ بِامْتِياز دون عكّازٍ أتّكئُ عليه لأداوي أبي المريض الَّذِي لَمْ يَتَعَالَجْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مضمونًا ويوم وجدتُ وظيفةً اعتُقلت فقط لأن حبر قلمي ممزوجٌ بطعمِ الحقِّ وحذفوا اسمي من النّقابة، وأَنَا عَاشِقٌ أنهشَه الفراق بأنيابِ العوزِ والحاجة، فلقد غادرتُ وتركتُ في وتين قلبي غصة تنهشني ليغدوَ عمري وكأنه ورقة خريف ذابلة، يا آلة، سئمت النّظرَ في المرآة ورؤية المستقبل في عينين سوداوين وأن أمشي كالّلقيط أرهقته ألاعيب القدر، فشبحُ سلمى يطارد سكينتي دائمًا. فإنني لا أطيق النّظر إلى عينيها الغائرتين في هذا الزمن الذي جلدَ حبّنا بسياط الخيانة، وغرقت في دوّامة المال وقدمت جسدها كعروس باهتةٍ تشبه الشّريرات في قصصِ الحبِّ، بعد أن قدمتُ عمري قربانًا بين يديها أصابت قلبي بسهم مازال ينزف جرحهُ حتى اليوم، ومع ذلك لم أستطع أن أكرهَها وظلّت في قلبي كتمثال يكفّر عن ذنوبه، فلقد مضى يومٌ وشهور وسنواتٌ ولم أشعر بعمري التي أهلكته متطلباتُ الحياةِ إلا وقد أصبحَ مدفونًا في عداد الأحلامِ الميتة، فأنا مَوَاطِن من بلدٍ عربيٍّ أُصارعُ الْحَيَاةَ وَالحياة تُصارعني!
- ولَكِن أأرميكِ لترتاحي؟ أَم أرجعكَ للشّارع؟ فَأَنْت حلمٌ لعاشق الألوان ونقمةٌ على هؤلاء المخادعين الذينَ أباحوا الطّمع في لعبةِ الشّطرنج، استطاعت عدساتك أن تؤرخَ فصلًا جديدًا في حكايات الساسة ومطامعهم ولكنكَ أنتَ آلة ولم تقوي على العيش في بلدنا ولا الغوص في واقعِنا، فيا ليتني آلة مثلك صغيرة الحجم، لا تريد سوى إشباع نظرها بجمال الطّبيعةِ وأسرارِها، فهلْ يوجد مفر من واقعي؟ فهل سنظلُّ بأقنعةِ الخداعِ والكذبِ مرتدين قبعات حزبيةٍ لمصالحِ الشخصيةِ، فحتّى الألوان في بلدنا لم تعد ألوانًا، بل رموزًا للتعريفِ عن كتلة، اختفت بهجةُ الحياةِ يا آلة، فلو تربّعت الأيام على عرشِ الأعيادِ لرأينا الفقيرَ ينظرُ للمطاعم وأولاده يبكون، فأنا كمواطن ما اقترفته من ذنب سوى أنّني أردتُ أن ألامسَ أوجاعَ الناس؟
أن يصفعهم قلمي تلك الصفعةَ الموقظة لضميرهم من جديد، يُقال «الساكت عن الحقّ شيطان أخرس»، فما حال الشّياطيين المتزايدة في يومنا هذا؟ فلا أعرف منذ متى وأنت حية لكن أنا على يقينٍ أنني قضيت ثمانية عشر عامًا وأنا أتوعّد لغد أفضلَ كما قالوا لنا، وأن نبنيَ وطنًا يصمد من جيل إلى جيل، أفلسنا كلّنا للوطن؟ أم أنّه أنشودة ملحنها ذاق طعمَ الفقرِ والمرارة وأراد ذاك الغدَ الجميل! تريدين السّلام يا آلة! ماذا نقول نحن البشر؟! الذي نهش الفقر عظامَنا؟! هل ذقت طعم الجوع من قبل؟! وأن تنامي وبطنك مربوطة بمنديلٍ لتخفّفي ألمَ الجوع؟! أو أن تفقدي أعز ما يملكه قلبك ومن سيف لك؟! هل وقفتِ في طابورِ المعاملات الرسميةِ ساعاتٍ وأن يحتلّ صاحب الواسطة دوركِ؟ هل ركبت الباص العام وتحملت الاكتظاظَ والروائحَ من أجلِ لقمةِ العيشِ الشريفةِ؟ فلقدْ رأيتُ أختي الصغيرةَ الّتي قضيتُ معها نصف عمري معلقةً على الشرفةِ تاركةً أطفالَها لأبيهم المعنفِ مسلمةً تاركةً روحهَا في قبضةِ الله، لقد عاشتْ دقائقَ حياتها كلّها بوجعٍ، إذلال، إهانة، ضرب وكان صمتُها لأنّ الطّلاق عيب يحفزه على جلد جسدِها وروحها أكثر فأكثر إلى أن يصلَ صوتُها لسابعِ سماء، وأن يتخدّرَ جسدُها النّحيل من كثرة الضربِ، فأختي قالتْ لي ذاتَ مرةٍ أنّه يجبُرها على قول أنا فقط امرأة، أنت الأقوى، أنت الأقوى! فقط للإحساس بأنه رجلٌ وقوّام عليها، فأنا يا آلة لم يبقَ لي من فتاتِ أختي سوى قبر مظلم دفنت فيه شهيدة الأمومة آه... آه يا آلة، ما أجملها عروس لا تشبهُ أحدًا بفستانِها الأبيضِ، يا ليتني مزّقت قيود التقاليدِ والمحرماتِ فلما كانت الآن ترقد في قبرها، فهي تخشى الظّلام، كم أودّ أن أقبّلَ تراب قبرها خجلًا، فمنذ انتحارها وأنا لا أسامح نفسي فماذا كانت تطلبُ منّي؟ الحريّة؟ وأن تبعث الروح والمشاعر الممزوجة بالحياة اللائقة من جديد.
- أعلم يا آلة أنّنا قد نصادف قصصًا تُبكي الحجرَ، فالدّموعُ بخار الرّوح المتألّمة والطّاهرة، عجبًا فأنتِ مرهفة الإحساسِ أكثر من بعضِ البشر!!
عجيب! ما كان موقف أمّكِ من مقتل أختك؟! واحسرتاه على شبابِها المخضرمِ بالإهانات والضربِ، كيف سمحتَ لها؟! ألستَ أخاها الكبير؟!
اغرورقت دموعها قبل أن تنطقَ كلمتها الأخيرة.
كفى يا آلة، أرجوك، فبينَ القبورِ الهادئة هناك روح أحبّها رحلتْ إلى الأجل البعيدِ، وأنا في السابعة من عمري تدعى أمّي، كانت تعيش حياتها من قلة الموتِ، أذكر جيدًا يوم كانت تجمعنا على سفرة الطعامِ بابتسامة بهيّةٍ وحتّى يوميَ هذا أشعر بأنامِلها تداعبُ شعري، أمّا قصصها المشوقة بصوتِها النّاعم.....
موت أمّي أيقظَ في مشاعرَ لم أعهدْها من قبل، فأيقنتُ أن الموتَ الحقيقيّ هو موتُ القلوبِ الحيةِ الفائضةِ بالمشاعرِ ولا أريد من الحياةِ سوى الموت في بلدٍ غريبٍ، على أرض بعيدةٍ، وأن يأكلَني الطيرُ وتمطرَ على فتات جثتي، ألمْ أقلْ لك أن الحياةَ أقسى مما تتصورين؟! أأرميكِ لترتاحي؟ فالعيشُ معنا موجعٌ أكثر من الموت، فما بالك تعيشينَ بنصفِ مر وعجلة المرضِ والموتِ يلاحقنك؟ فأنت آلة بسيطةٌ أرادتْ أن تشبعَ نظرهَا ببدائعِ الخالقِ ولوحاتِه الزاهيةِ، سوف أرميكِ عسى عذابك ينتهي، فالبحرُ عالمٌ نقيٌّ لا يغوصُ فيه سوى من فهمَ رموز الحياةِ، لا لا! لن أرمي.
يا «أفندي»، أنا رجلٌ بسيطٌ لديّ طفلٌ مريضٌ مهووس بتصوير الطيورِ والجبالِ كما الزهور وتراني أراه لا يفارقُ آلته بتاتًا ليؤرخَ في صحيفةِ ذكرياتهِ ذكرياتنا السعيدة، ولكن أشهدُه اليومَ في حزنٍ دائمٍ بعدما بعتُ آلته لأمِّ طفلةٍ كفيفةٍ، فلم يكن باليدِ حيلة، فصوتُ أفواهِ صغاري الجائعة نخرت جدران المنزلِ، ولكن عاهدتُ نفسي أن أعيدَ له آلته، ولم يتسنَّ لي شراؤُها بسبب ضيقِ حالي، وقبلَ أن يكملَ حديثَهُ قفزتْ آلةُ التصويرِ فرحةً وبدأتْ ترقصُ قائلةً: هذا سمير عاشقي الصغير، وداعًا لمشاهدَ بلا ألوان!
أكملتُ سيري إلى البيتِ بعينينِ مكحلتينِ بدموع الأملِ لأكملَ قراءةَ رواية الحلم أتمتم: وداعًا لمشاهدَ بلا ألوان!
Text - HTML . com
Convert your visual text documents to HTML code instantly. Edit and clean your markup with a couple of clicks.
How to use the Text to HTML converter?
- Paste a visual document to the left to convert it to HTML
- Paste your HTML code it the right to preview the document
Press the Clean button to execute the checked HTML cleaning options.
Erase the page to get started.