القدر المشؤوم
تأليف: سعيدة البحري | الدولة: المغرب
هناك بأعالي الجبال حيث يسكن المنسيون، كتلة مثبتة بقمة الجبل، تظنها على حافة السقوط، منظر مهول ومرعب. وهذا ليس الخطر الوحيد الذي يهددها؛ فقرية كتامة بأعالي جبال الأطلس تحف بالمخاطر، هناك حيث البيوت من طين وقصب، فكيف لا تهددها الأمطار والثلوج وهي زائرهم المخيف الذي يتردد عليهم على مدار السنة.
وكم من روح انتقلت إلى بارئها بعد أن كان البسطاء ملتفين حول المائدة وآنية العصيدة عليها، تمدهم هذه الأخيرة بالدفء بعد الحطب، لتحل الفاجعة من دون سابق إنذار..
هناك الفلاحة مصدر رزق الأنام، من زرع وحصد، كل بقطعته الأرضية، لا أحد يعتدي على حدود الآخر وملكه على الرغم من بساطة عيشهم وأميتهم؛ فالوعي غير مقترن بالأمية.
كتامة هناك، حيث حقوق الطفل لا أثر ولا وقع لها على مسامع الكبار، فما بالك بالصغار، حيث الكتاب مكان تمدرس الصغار من الذكور، منذ تعلمهم نطق بعض الكلمات المتقطعة، تبدأ رحلتهم جيئة وذهابًا إليه، حيث يحفظ لهم القرآن بموازاة مع العمل في الحقول، إلى حين بلوغ سن السادسة عشر؛ موعد فصل الشبل وإبعاده عن أمه وعن بلدته؛ لتقدم له دراهم معدودات لا تسمن ولا تغني من جوع لضمان تنقله إلى المدينة حيث هناك تبدأ رحلته وتسابقه مع الزمن. إنه ذو مسؤولية الآن، بحث عن العمل، نوم في الأزقة وأكل من فتاتها، تتقاذفه الأرجل من ركن لآخر، ضرب وتوبيخ من «المعلم»، لكن لا أحد يسمع أنينه إلا خالقه، يبقى همه الوحيد هو تحضير وإعداد ذلك المبلغ من المال الذي سيقدمه لأبيه حين عودته في كل مناسبة عيد، هذا وإن حصل، فمنهم من غادر وانقطع تيار أخباره.
هكذا تسير حياة البؤساء من الذكور، أما الإناث فذاك حديث آخر ومعضلة أكبر؛ فمنذ بلوغهن سن التاسعة، يستوجب عليهن التعلم، لا تعلم الأرقام أو الحروف أو القرآن على الأقل كي يصلن منزلة الذكور، بل إنه تعلم أشغال المنزل، من طبخ وغسل وكنس إلى رعي وجلب للماء والحطب على بعد أميال وأميال، في القيظ والبرد على السواء.
إنهن بريئات وصغيرات يلعبن بالدمى خشية من أن يراهن أحد فينلن أشد العقاب؛ فقاطنة هذه البقعة من الأرض لا يدركون مفهوم الطفولة، بل إنها محظورة من قواميسهم، صدق من قال «إنهم المنسيون المعذبون.»
إيطو إحدى تلك البائسات، ذات الخمس عشرة سنة، تحظى بجمال كالقمر، من أجمل فتيات القرية، طويلة القامة، معتدلة البنية، ذات عيون عسلية اللون، حواجب مكثفة، شعر رطب وغرة تزيدها لطافة، تعيش بين أكناف عائلتها الصغيرة، أبوها محمد أو الفلاح موحا كما يناديه الجميع؛ رجل يبلغ الخمسين، يعلو الشيبُ لحيته، والغضبُ محياه؛ كيف لا وهو الشخص السلطوي سريع الانفعال.
مي زبيدة تلك الوديعة اللطيفة، في الثلاثينيات من عمرها، تلك التي ضاعت وتبخرت أحلامها منذ يوم حلت على هذه القرية اللعينة، إنها بدورها ضحية ولكن ما بيدها صنعة. لا شيء باستطاعته مخالفة القدر، إنه قدر البائسة.
ميمون الأخ الوحيد لإيطو، يبلغ سبعَ عشرةَ سنة، غادر منذ سنة إلى مدينة طنجة للعمل أو بلغة أخرى ليلقى حتفه، فمن يدري؛ هو وقدره.
يامنة التي قدر عليها أن تمضي ما تبقى من عمرها في ظلمة حالكة، إنها ضحية أعالي الجبال، خانها نورُ بصرها، يومها كانت ترعى كعادتها، إلا أن الضباب كان يغطي الجبال؛ لتتعسر بذلك الرؤية لتتعثر ويلتطم رأسها بصخرة؛ حياتها الآن شبيهة بالعدم.
ها هي ذي إيطو تستيقظ من نومها الثقيل على وقع صياح الديكة كالعادة. إنها السادسة صباحا كما تشير عقارب منبهها، لتبدأ يومها بخير ما يكون. إنها صلاة الفجر، بعدها تنطلق لحلب البقرة؛ لتوفير الحليب لوجبة الفطور، وتراها توقد النار في الأثافي مستخدمةً الحطبَ لطهي الحساء والخبز داخل مطبخ تقليدي يملأ السخامُ جدرانه الأربعة.
حول مائدة الإفطار، تجلس الأم رفقة إيطو ويامنة في انتظار انضمام الأب إليهن. بعد طول انتظار ها هو ذا أخيرًا قادم برداء العمل وبيده قفته كالعادة. يجلس القرفصاء، ويبدأ الجميع فطوره دون نبس ببنت شفة، حتى إذا أنهى الجميع فطوره، انصرف كلٌّ منهم لحال سبيله؛ الأب إلى الحقول، الأم لترعى وإيطو بالمنزل تتولى أشغاله، وتلقي بالًا لأختها يامنة التي لم يعد بإمكانها القيام بأي شيء.
مع آذان صلاة العشاء والظلام قد حل بأرجاء المعمورة، اتجه الأب للكتاب لأداء الصلاة بعد أن قضى يومًا شاقًّا في الحقول، إنه موعد تنفس الصعداء بعد أدائهم الصلاة جماعة. ها هو ذا موحا يخرج ليصادف جاره الفلاح حمو أعرج القرية؛ ذا الخمسة والأربعين عامًا. تُوفي والداه منذ أن كان طفلًا؛ جراء انهيار منزلهم، ليبقى وحيدًا يسكن منزلًا بسيطًا بجوار كتَّاب القرية، ورغم بساطته إلا أنه يقيه بردَ الشتاء وحرَّ الصيف.
بادر حمو السيد موحا بنبرة يأس بعد إلقاء التحية:
- كما تعلم يا موحا إني مللت الوحدة حقًّا، طال الزمن وأنا وحيد في هذه القرية، لا والدان ولا أولاد، سأحيا وأموت هنا وحيدًا كأنني لم أكن، لا سلف لي ولا خلف أتركه، لذا فانا بحاجة إلى امرأة تؤنس وحدتي، وتخفف عني أعباء الزمن وأسقامه، ولهذا السبب فإنني قصدتكم لأتقدم بطلب يد ابنتكم إيطو، أجابه موحا وعيناه تعكسان ضوء القمر:
- إنه لشرف لي يا حمو ولن أجد صهرًا أحسن منك.
وفي هذه اللحظة، بدا قلب حمو كأنه ذو أجنحة، يرفرف عاليًا والسعادة تغمره؛ لطالما كان هذا حلمه فها هو ذا أمامه يتحقق، فقال متلعثمًا:
- إذًا، إذًا ليكن موعدنا مساء الغد إن شاء الله، سآتي بمعية الفقيه لقراءة الفاتحة.
في مكان آخر، حيث الأم وابنتاها جالسات حول مائدة العشاء، والعياء يعلو محياهن في انتظار قدوم الأب.
بعد ساعات، ها هو ذا يدخل دون إلقاء التحية كعادته، مصوبًا عينيه الممتلئتين حقدًا لابنته إيطو، سرت قشعريرة جسد المسكينة، ظنت أنها اقترفت جرمًا أو ما شابه، لكنها استفاقت من وساوسها حين طلب من أمها بعجرفية أن تقوم وتلحقه إلى المطبخ، حان دورها لتستشعر ما كان يتملك ابنتها قبل لحظات، خاطبها قائلًا ورأسه مستقر في سابع السماوات:
- إن لنا مساء الغد ضيوفًا، وعلى إيطو حسن التصرف.
وغادر المكان بسرعة البرق دون ذكر الموضوع الأهم، وما المبتغى من هذه الضيافة والزيارة.
غدًا مساء، تحت ضوء الشموع تقبع إيطو رفقة أمها في المطبخ وهما منشغلتان بتحضير العشاء، بعد برهة تسلل إلى مسامع إيطو وقع دقات على الباب، إنه حمو وفقيه القرية، إنهما في الموعد، الأب هو من تكفل بكل شيء يخص هذا التضييف، إيطو وأمها اكتفتا بلوازم المطبخ، إلا أن إيطو بذلك الفضول الذي ينحتها ويحدث صراخًا داخل مخيخها، أخذت تتسلل لتسترق السمع عما يدور بينهم، أما بخصوص من يكونون، فهي على علم، فحينما كانوا على العشاء سبق وأن ذهبت وألقت عليهم نظرة من دون أن يروها لتعرف بذلك أنه حمو والفقيه، ويا ليتها لم تكررها للمرة الثانية، فعلى الأقل كانت ستحظى بنوم هنيء تلك الليلة فقط.
قال الفقيه مخاطبًا موحا وحمو:
- وبما أن الطرفين معًا على قبول تام، فاللهم بارك.
التقط منه موحا الكلام فقال:
- والعرس بعد خمسة أيام بإذن المولى، ما رأيك يا حمو؟ فأجابه:
- ليكن ذلك بحول الله تعالى.
تدخل الفقيه:
- إذًا، باسم الله على بركة الله نقرأ الفاتحة.
كلها كلمات وقعت على مسامع البائسة، والتي كانت بمثابة دبابيس تدس في قلبها العفيف، فيا للمسكينة! فكيف لها وهي لا تزال طفلة التعامل مع شخص فرض عليها وهو في عمر أبيها؟ فكيف لطفلة تحمل كامل المسؤولية وهي بنفسها غير مسؤولة عن نفسها بين عشية وضحاها، أعلن عن انهيار أبراج أحلامها والتي كانت تشيد فيها دهرًا مضى، هي تلك الآدمية التي تظل عاكفة تدعو ربها؛ كي لا تلاقي المصيرَ نفسَه الذي لاقته أمُّها وقريناتُها، لكن شاءت الأقدار أن يتم تَكرار السيناريو البئيس نفسُه؛ إنه اغتصاب طفولة بريئة لم تكتمل بعد.
هرولت إيطو إلى أحضان أمها بعد أن أخبرتها بما كان يجري، لتطلق العنان لدموعها، واكتفت الأم بمعانقتها، وهنا استحضرت الأم ذكرياتها؛ جسد أمام أعينها المشهد الأليم نفسَه الذي مرت به هي الأخرى، فتذكرت الآلام والأنين والإحباط لتشارك بهذا ابنتها الدموع وتتحسر على مصير فلذة كبدها.
مرت الأربع أيام كلمح البصر، واقترب موعد حفلة العرس، الكل سعيد ما عدا العروس، إن مررت بها تجدها غارقة في أفكارها، الهالات تحيط بعينيها عسليتي اللون، الذابلتان كذبول زهور الخريف، لا النوم يطرق بابها ولا شهية طعام تحسها.
أتى اليوم الموعود، النساء في مجمعهن، فئة منهن منشغلة بتحضير الخبز من الفرن الحجري التقليدي، وفئة أخرى تتمتع بما لذ وطاب من الفنون، زغاريد وأهازيج علت المكان، كلها أصوات تسمع لدى إيطو صراخًا وبكاءً، فهذا أشبه بيوم إعدامها لا زواجها، فها هي ذي الجميلة تجلس بين صديقاتها في الغرفة، ها هنا من تزين لها وجهها بمختلف النقوش والإثمد (الكحل)، وأخرى تصفف شعرها وأخرى تخضب رجليها وأياديها بالحناء، إلى أن أنهين تزيينها.
إيطو بجلبابها الأحمر، وبرنسها الأبيض، وبلغتها الصفراء، براءة هي تلك التي تشع من عينيها وتعكسها المرآة، لحظة، دخل الغرفة أخوها ميمون الذي وصل لتوه، نظراتها تحمل من الحزن ما يكفيها، عناق حار هو ذاك الذي استقبلته به، أوشكت دموعها على الإفلات، إلا أن أخاها بادرها قائلًا:
- لا تخافي ولا تحزني، إني أخوك، وهذا العرس لن يكتمل؛ لقد حضرت بنفسي كل شيء، نعم سنهرب؛ نزلت هذه الكلمة بردًا وسلامًا على روح إيطو منكسرة الجناحين فأعادت النبض لحياتها، لم تتردد إيطو ولو لحظة لتجيبه:
- نعم، نعم كنت أعلم أن إلهي سيرسل لي أحدهم، كنت أعلم أنه لن يخذلني.
فأخذ ميمون يشرح لها خطة هروبهما وكيف ومتى ستتم.
هناك بالحَوش، المكان بدا شبه خال من الأنام، إنها الثانية صباحًا، جلهم قد تعب وخلد إلى النوم، دخلت الأم الغرفة لتطمئن على ابنتها، وهنا كانت المفاجأة المأساوية بانتظارها؛ الأم لم تجد إيطو فأخذت تبحث في الأرجاء ظنًّا منها أنها بصحبة رفيقاتها بأحد الأركان فلم تجدها لتهرول البائسة وتخبر موحا فيخرج هذا الأخير رفقة آخرين للبحث عنها في أرجاء القرية، لكن مع الأسف الشديد لم يجدوا لها وقعًا ولا أثرًا.
في مكان آخر، إيطو مستلقية جنب أخيها ميمون في سيارة هوندا وقد علمت أنها الآن في مأمن من الوحوش التي أرادت التهامها، ليطرق النوم بابها بعد تفكير طويل وبكاء مرير، نار فراق أمها وأختها تلتهب روحها الطاهرة، لكن ما عساها تفعل وتصنع؟ استشعرت الطليقة حركة أيادٍ توقظها، فتحت عينتيها البراقتين لتجد أخاها بقربها، وهو يقول بصوت تعلوه الطمأنينة: حمدًا لله على سلامتنا، لقد وصلنا يا أختي إيطو، فهلم بنا.
نزل العصفوران من السيارة، لتندهش إيطو مما تراه أمامها؛ بنايات وعمران، سيارات وقاطرات، أنام يملؤون كل بقعة لاحت إليها بصرها، وكل أعينهم تتجه صوبها، يكادون يخطفونها بنظراتهم، الموجهة لملاك بريء على هيئة إنسان. قبض أخوها بمعصمها وشد عليه لتبدأ رحلتهما تجاه ما خطه لهما حبر الأقدار.
حط ميمون وإيطو رحالهما أمام منزل كبير، محاط بسور وأشجار، وورود تطل من أعلاه، أعجبت إيطو بذلك المنظر وما زاد إعجابها أنه ليس المنزل الوحيد هناك، فيوجد العديد بشكل وعمارة مختلفة، ما لم تره عينا إيطو قط. قاطع إعجابها وذهولها أخوها بصوته الخشن:
- كما ترين إيطو، فأنا ليس بوسعي مرافقتك، فأموري هنا لم تستو بعد، وإنني أخاف عليك، فكلانا غريب هنا، لذا علينا بالصبر إن أردنا بلوغ مبتغانا وفي القريب سنجتمع، ولهذا السبب فأنا بحثت لك عن عمل هنا بهذا الحي المرموق، ستعملين بهذا المنزل (يشير إليه) لدى سيدة طاعنة في السن اسمها أمينة تعيش بمفردها، لا زوج لها ولا أبناء، وإنني أرى سلامتك عندها، فباستقرارك هنا لن أخشى عليك شيئًا ولن ينشغل بالي معك طوال الوقت.
بعد تردد، أجابته إيطو وجرحها يزداد عمقًا:
- يا أسفاه، في الأول ابتعدت عن أمي وأختي وقريتي، والآن يحين دورك أنت أيضًا. آمنت بالله وبقدره خيره وشره، وكلت أمري لله.
وبعد أن تبادلا العناق، وقبل أن يغادر ميمون خاطبها قائلًا:
- لا تخشي عليّ شيئًا، وإن شاء الله سأزورك على الدوام ما استطعت ورسم ابتسامة على شفتيه مسترسلًا:
- كوني مطيعة كما ألفتك، دمت في رعاية الخالق.
وهكذا أمضت إيطو عامها الأول لدى السيدة أمينة، والتي كانت لها خير أم قبل أن تكون لها سيدة، توفر لها العطف والحب والحنان والأمان قبل المأكل والمشرب والملبس، لم توبخها قط، بل كانت لها الرفيقة والمؤنسة التي تعلمت منها الشيء الكثير، وستتعلم المزيد في فترة مكوثها عندها، فها هي ذي إيطو تتقن مهارتي القراءة والكتابة، وما هذا إلا بفضل خالقها وبمساعدة من أمها الثانية والتي سخرها الله إليها. كانت إيطو كلما شعرت بالحزن والحنين والاشتياق لأمها وأختها، تتلو آيات من الذكر الحكيم؛ شفاء الروح والقلب، وبلسم الهموم إلى أن يذهب عنها الهم والغم، وكانت دائمًا ما تدون على مذكراتها والسيدة أمينة تأخذ بيدها وتصحح لها الأخطاء إن وجدت، وكانت تفتخر بها دومًا وتهنئها على خفتها وفطنتها وذكائها، وكانت سعادة إيطو تكتمل إن أتى ميمون لزيارتها، إنها شبيهة العصفورة المحلقة في أعالي السماء.
لكن بعد عامها هذا، أصبحت زيارات أخيها لها تتقلص يومًا بعد يوم إلى أن انقطعت عنها أخباره. مرت سنة ومرت سنتان، لكن لا أخبار عنه ولا وقع ولا أثر له، لتدخل إيطو دوامة حزن وإحباط ويزداد حزنها مع ازدياد مرض وسوء صحة السيدة أمينة؛ فها هي ذي تلزم الفراش ولا حركة.
أتى اليوم الذي غيرت فيه المياه مجراها لتغير بذلك إيطو طريقها رغمًا عنها؛ يوم وفاة السيدة أمينة، بعد صراع طويل مع المرض لينتصر هذا الأخير وتستولي الدولة على ممتلكاتها، وتجد إيطو نفسها بين عشية وضحاها عرضة للشارع بنفسية مدمرة وروح منكسرة بين شخوص ووجوه تجهلها. لا ملجأ، ولا مسكن لها، ولا شخص يأخذ بيدها ويرشدها كأخيها، لكن سرعان ما تفطنت لأمر، ستذهب وتبحث عن عمل عند عائلة أخرى، وهو ما حدث بالفعل؛ استأنفت إيطو العمل لدى عائلة المختاري بالحي نفسِه الذي كانت تقطنه هي والسيدة أمينة؛ عائلة المختاري المكونة من زوجين، رشيد وزوجته كوثر وابنيهما إسراء وياسين اللذان تعلقا بإيطو أيما تعلق، وحلت محل أختهم الكبرى التي تمازحهم وتداعبهم وترشدهم لما يحبه الله ويرضاه، وكذا السيد رشيد الذي اعتبرها ابنته قبل أن تكون خادمته. أبدت إيطو عن وقار واحترام كبيرين تجاه كل أفراد هذه العائلة، إلا أن تلك المسماة كوثر لم تحبها يومًا ولم تقبل وجودها بينهم، فكانت دائمًا ما توبخها وتنعتها بأغلظ الألفاظ في غياب زوجها وأولادها، لكن إيطو كانت تتذكر قول أخيها لها:
- «كوني مطيعة كما ألفتك»
وتقول:
- صبرًا جميلًا يا نفس، فصبر جميل اللهم إليك فوضت أمري.
في إحدى الليالي الممطرة، كانت إيطو تجلس قرب الصغيرين أمام النافذة، مستنيرين بشعاع البرق وصوت الرعد يتسلل إلى مسامع الصغيرين فيفزعهما لتحتضنهما إيطو كما تفعل الدجاجة لصغارها، إنه موعد قص الحكايات قبل الخلود للنوم.
نام الصغيران، فحملت إيطو كليهما إلى فراشه لتتجه إلى الدور السفلي حيث توجد غرفتها، لكنها تفاجأت بصراخ السيدة كوثر وزوجها بقربها في البهو. أسرعت إيطو تجاهها لترى ما خطبها لتتلقى هجومًا شنيعًا من كوثر، انتهى بأن صفعتها على وجهها وطرحتها أرضًا مرددة:
- أرأيتَ يا رشيد كم كنت غبية يومها حين وقيتها شر الشوارع، وأدخلتها منزلنا وأمنتها على أولادنا! ثم التفتت لإيطو قائلة:
- أهكذا تجازيننا وتسدي إلينا معروفًا؟ تسرقين مجوهراتي ونقودي يا منافقة؟! هيا اغربي عن وجهي، لا أريد أن أراك مجددًا هنا.
كانت إيطو تبلغ منزلة الابنة لدى رشيد؛ لهذا كان ينتظر منها ردًّا وتفسيرًا، لكن بصمتها وسكوتها تيقن من أنها حقا الفاعلة، علاوة على ذلك، لن يكذب زوجته ويصدق فتاة استأنفت العمل لديهم بضع شهور مضت.
سقطت البائسة أرضًا من هول الصدمة، ولم تستطع أن تنطق ولو بكلمة لتدافع عن نفسها، إنها بريئة براءة الذئب من دم يوسف، لكن بسكوتها هذا ستزداد الشكوك والملابسات تجاهها، لكنها لا تستطيع. شعرت وكأن لسانها لم يعد مكانه، قد ابتلعته. اكتفت بذرف دموعها كالشلال لا أقل ولا أكثر، فكيف لها أن تسرق وهي أمينة وذات أخلاق ومبادئ؟ كيف لها أن تطعن سيدتها وتضع نفسها بموقف محرج كهذا؟
لم تكن إيطو يومًا ناكرة للخير ولا تغريها الأموال ومتاع الدنيا، إنه جور وطغيان، إنها حيلة من نسج كوثر لإبعادها عنهم؛ فهو حلها الوحيد، ها هي ذي كوثر تشد على كتفها وتطردها؛ فتحت باب المنزل لتدفعها بكل ما آتاها الله من قوة دون رحمة ولا شفقة لتخرج للشارع والأمطار تبللها، وكان هذا آخر كلام عندها قبل أن تغلق عليها الباب وتقول لها:
- الشارع، هنا منبتك وهنا مرجعك.
امتزجت دمعات البريئة بقطرات المطر التي كادت تبللها بالكامل، أخذت تسير وسط الشارع، وحيدة، بائسة، شاردة الذهن لا صوت الرعد يوقظها من غياباتها ولا صوت السيارات القادمة نحوها بسرعة خيالية حرك فيها ساكنًا لتدهسها ويفر صاحبها، ودماء البريئة تسيل تحت رحمة الرحمن.