مخيلة جامحة.. تتعابث
تأليف: مصطفى آدم | الدولة: السودان
ولكن نوعًا من الإحساس الغامض، أدّى إلى أنين واضطراب صدرِه، نوعًا من الرغبة الجديدة، يجذبُ، يدغدغُ، يُثير مُخيِّلته، ويستدعي على نحو غير محسوس سربًا كاملًا من الأشباح الجديدة. [الليالي البيضاء - فيودور دوستويفسكي] [1]
مُخيِّلَتي العظيمة... عوّدتني دومًا ألّا تُخيِّب ظنّي في فعلِ ما أرومُهُ، متى ما أرومُهُ من غير اعتذارٍ أو تملُّص إلا أن تكونَ مُرهقة. تعبث معي حدّ الهذيان، تبلغُ ذروةَ عبقريّتها عندما أكون في أوجِ غبطتي، وينطفئ قبَسُها حينما أكون في حضيض حُزني، وتتراقص فرحًا عقب احتسائي كوب القهوة الدافئ. نتصورُّ تصوراتٍ مريعة، نختلقُ عوالمَ خاصة بنا، نفترض الافتراضات، نلهو ونمرحُ حدّ العبثِ اللّامعقول.. بالمنطق.
كنتُ في تلك الليلةِ في وضعٍ نفسيٍّ فريد، ليس حزنًا صِرفًا، ليس فرحًا صِرفًا مع بعض اللامبالاة، وقليلٍ من الخلو من المعنى، ليس خلوًّا تعبيرًا عن عبثية أو عدمية هذه الحياة بل خلوًّا طبيعيًّا كضعفٍ بشري يعتري الإنسان من رَهَقِها، يُمكن أن يوصف ذلك الوضع كَكُل باحتشادٍ مشاعري.
جالسًا على كرسيِ المتأرجِح كمهد طفلٍ يُهدهد بأناة، أرقبُ البدر بكلتا مُقلتَي، مُحدِّقًا فيه بثباتٍ وصمتٍ مُريبيْن، هنا من شُرفتي الضاجّة بالسكون هذه كنتُ وكأنّي أطِل على ناصيةِ روحي، أُحرِّك رجلي المنصوبة على ركبتي بعبث، مُقلِبًا معها صفحات دفتر الأيام لأراجع حساباتي - مع نفسي- مُحاولًا ألّا أُكرِر أخطاء ارتكبتُها، ومُتأملًا فيما كان في الإمكانِ فِعلُه، وما فُعِلَ وما سيُفعل.
بإغماضِ عينيّ في لحظاتٍ كتلك، وبالتزامن مع شرابي كميةً مهولة من القهوة الثقيلة، حتمًا سأهرعُ إلى عالمٍ مُوازٍ، وستنتابني حالةُ التقوقع والانغماس في الذات العميقة كما كل احتشادٍ شعوري، فأغدو أكثرَ تخيليّة.
وبالفعل، كان ذهني مُسترخيًا حينها، مستعدًّا لرحلة إلى أقاصي مناطقه المُشِعةِ المدهشة، بعدما خلا من المُنغصات بمفعول الكافيين السحري، رحلةٌ إلى أغوارٍ بعيدة وعصورٍ سحيقة، وربما مستقبلٍ مُتخيّل!
قلتُ لنفسي - أم أنها قالت لي لا أدري؟! فالأمر سيان- شُدّ حزامك، فسنهبِط بعد قليل في جزيرةِ الخيال، وتحدثُ جلَبة. وتقبُع جزيرة الخيال - إذا كنتم لا تعرفون- في لُبِّ العقل، في منتصف المسافة ما بين جزيرة المنطقِ وجزيرة اللامنطق.
قلتُ: حسنًا لا بأس، لا مانع لدي - وهذا من غيرِ صوتٍ طبعًا.
ركبتُ بساطِي الريحي طائفًا وتائهًا ما بين فراغاتٍ وفراغات حتى وصلتُ، مارًّا بعوالم ليست بغرائبيّة - في نظري - حالِكة، من ظلامٍ وفراغ!
لم يرقني بِساط علاء الدينِ هذا، فقلت: فلأُغيّره بشيءٍ آخر.
انزويْتُ في أقرب ركنٍ من أركان الدائرة المخيّة الأربعة إليّ!
دائرةٌ مخيّةٌ بأركان؟ همممم!!!!
ضخّمتُ جسمي، ونبت لي جناحانِ يطيران، من غير رفرفةٍ ولا يُرَيان، طفتُ بهما في الفضاءِ على عجل لاختبر فاعليّتهما.
جلستُ القرفصاء في منتصف مجرتِنا ألتحِفُ دِثارًا ثلجيًّا، يُخفِّفُ عني صقيع الشمس التي أجلس إزاءها، ليُحيله زمهريرًا مع بعض الدفء، أُؤدّي طقوسًا غير مسبوقةٍ ولا معهودة!
تنقّلتُ ما بين المجرات بثورٍ أورق، قرناهُ من زُمُرُّد، ثم بحصانٍ تام الشبه بحصان طروادة، إلا أن هذا ليس خشبيًّا إنما بلّوري، كنتُ أتبخترُ به أمام اللاشيء، حوتُ العنبرِ البلاتيني الذي ظهر أمامنا لم تعجبه هذه البخترة، كاد أن يلتهمني وحصاني، إلا أنني بسيفي الذي استعرته من دون كيشوت، قتلتُه، بطعنةٍ واحدة.
ثم بغتةً، وجدتني أتسابقُ مع السراب في الصحراء على متن غواصة، وكأنّ هُناك صوتًا صادِرًا من جوفِ عقلي سأل: على متن غواصة؟ ما هذا الهُراء! غواصةٌ مائية في الصحراء، لتدرك السراب.
قُلت له: ليس ذنبي، إنهُ وحيُ المُخيِّلة يا صاحبي!
أمعنتُ النظرَ في القمرِ الذي كُنتُ أرمُقُه من شرفتي الضاجة بالسكون. وبعدما اقتربتُ منه وقابلتُه وجهًا لوجه وسبَرتُ غورهُ وجدتُه قيعانًا ونتوءات وحُفرًا، لا كما يُرى من بعيد، مُكوّرًا مُضيئًا مُتّسِقًا، مضرِبًا للمثل في البهاء، أضحى لي مثَلُه كمثل الشخصِ لا يُعرفُ جوهرُه ما لمْ يُعاشر.
قلتُ: تبًّا إن المظاهِرَ لخدّاعة!
في البقعة التي هبط فيها نيل أرمسترونغ ورفاقه، آثارُ أقدامهم وجدتها كما هي، إذ لا رياح تمحو أثرها، لا سيارات لا أناس يطأونها، لا شيء. رمقتُ هذا المنظر من علٍ، فبزغ المؤمنُ بنظرية المؤامرة داخلي، وقال: لا تصدقهم يا غبي، لا يخدعنّك، كان ذلكَ في صحراء نيڤادا!
أمعنتُ النظر في أفق هذا الكون الممتد أمامي، هذا الكونُ الفسيح، أشعرني تأمُّل تلك النجوم فجأةً بضآلة حجم مشكلتي وكل مآسِي الحياة الأرضية تمامًا كما شعر المسافر عبر آلة زمن هربرت جورج ويلز قَبلي، إلا أنه لا مُشكلةَ لدي.
عدّلتُ قوانيني الفيزيائيةَ مرةً أخرى، فصِرتُ طيفًا شبحيًّا لا لون له ولا رائحة مع إبقائي لخاصيةِ الطيران تِلك، نزلتُ إلى كوكبنا، معقلُ المآسي والمشكلات، طفتُ في الكوكب شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، مررتُ بأُناسٍ كُثُر، رأيتُ الفقر يمشي على رجلينِ هزيلًا بائسًا بين الأزِقة الضيِّقةِ والبؤرِ المُعتمة المُعدمة، والضياعِ الرثّة.
رأيتُ تجسيدات الشرِّ البغيض والظلم والحنق - أُناسًا ومعاني- يمشون في الطرقات، مربِّتين على أكتاف إخوتهم، الغِل والحقد والكراهية، غادونَ جميعهم في زيارة للبؤس والعنت، يقهقهون بصفاقة، بضحكاتٍ سمِجة، ووجوهٍ عابِسة بأجسامٍ من هُلامٍ مُقرِف، يُجسِّدهم أيّما تجسيد.
ذلك الرجل الذي صفعته الحياة بقسوة، وجدته يتلفّت، يمنةً ويسرة، يتأكد من خلو المكان ألّا أحد يراه، يدخل يده خِلسةً، يُخرج شيئًا ما من سلة القمامة. يجلس على الأرض، يسند ظهره إلى الجدار، ثم يشرعُ في الأكل بنهم، يلتهم ما تبقى من فضلات ذلك الطعام المرمي في القمامة.
وتلك العجوز، سألتهُ:
إلى أين نحن ذاهبان؟
ليس المكان بعيدًا يا أمي.
زجّ بحاجيّاتها في صُرّة، رماها في مؤخرة السيارة.
تمرُّ دقائق.
- لم تخبرني يا ولدي، إلى أين نحن ذاهبان؟
- لقد اقتربنا.
فلم تسأله ثانيةً.
توقفت السيارة، دخلا، أجلسها على مقعد منعزلٍ عن بقية الناس.
قال لها:
انتظريني هنا، سآتي بعد قليل.
أكمل ما تبقى من الإجراءات، أشار بإصبعه نحوها.
تحرّكت السيارة مبتعدةً عن المبنى الذي كُتِب على لافتته دار العجزة، ولم يعد الولد بعد ذلك أبدًا.
وفتًى صغير، لم يذهب مع أقرانه إلى الملهى، قال لهم: معدتي تؤلمني، لذا فبإمكانكم الذهاب من دوني.
ولم تكن معدته تؤلمه، إلا أن أباه لم يعطه النقود التي سأله إياها لذلك، وأبوه معذور، فلم يكن ذلك لرفضٍ منه، فقط لأجل أنه لا يملك إلا ما يكفيهم لليومين التاليين، والثالث في علم الغيب.
تلك الجلسة، حينما جمعتهما، يغشى روحها ذلك الحزن الأسود الموجع، الذي يظهر جليًّا على قسمات المُحيّا.
قالت بصوتٍ مكسور: قولا لي الحقيقة؟ هل أنتما أبواي؟
... بكيتُ كثيرًا لكل ذلك، إلا أن عيني الشبحيّتين لم تستطيعا أن تدِرّا دموعًا. ورغم هذا كله رأيتُ الصدقَ والوفاء، العطاء والخير والأمل - أُناسًا ومعاني- في جلسةِ وُدٍّ مع الحُب والفرح يضحكونَ مِلء أفواهِهم، من غير كدَرٍ في صفاءٍ بَهِي.
رسمتُ قوسَ قزحٍ بألوانٍ مغايِرة، غيرَ التي نعهد! والأمطار التي أهطلتُها بالمقلوب، من الأسفل للأعلى لترجع للسحاب، أصابت الناس بالدهشة.
وقفت بقدمٍ واحدة أعلى قمة برج إيفل ورحتُ أدور وأدور، ولو رآني بعضُ الفرنسيين لحسبوني راقصةَ بالية شبحيّة، ولو رآني بعضُ المتصوفة لحسبوني غوثَ الزمان وَوتدَ الأرض، أنثرُ الهداية في أرجاء باريس، أُمطرُ الرحمات في جادة الشانزليزيه. ولو رآني أنصار أطباق روسويل لسارعوا بالتقاط صورٍ لي، جازمين أنّني مخلوقٌ فضائي، أتيت من كوكبي على متن طبقٍ طائر.
الجيد أنهم جميعًا لم يروني.
أثناء عبوري بلاد الطليان، لم أتناول البيتزا ولا الإسباڠيتي، بل فعلت ما هو أهم من ذلك؛ أقمتُ برجَ بيزا المائل على استقامته.
لعبت البليارد بأحجار كوستاريكا الدائرية. فصاحَ لي تمثالُ الحُريّةِ أن أقبِل، لتسمع خُطبتي البليغة فلم أُعِرهُ اهتمامًا، ولحُسنِ حظهِ لم يسمع نداءهُ أحدٌ غيري!
أحسست أنه كان يريد أن يقول لي: يا هذا، مياه مانهاتن أصبحت آسنة.
النقديُّ داخلي سألني: التمثال، صاحَ أم صاحت؟
رمقته بازدراء، وقلت له: من حيث هو كيان تمثال، أم من حيثُ هو تمثال امرأة؟
فكّر في الأمر قليلاً، وقال: أنت أدرى بذلك.
قُلتُ له: اصمت إذن.
حكّ فروة رأسه، وابتسامةُ أسنانه ظهرت من غير إرادته، وقال لي: اعذرني.
أجريت تجربة شرودينچر، ما يُريب... أن قطته لم تكن موجودةً داخل الصندوق، لا حيةً ولا ميتة!
الأغرب من ذلك، أنني حينما أقفلت الصندوق، وفتحته مرةً ثانية، وجدت بالصندوق فيلًا!
قرعتُ الجرس لكلاب باڨولوڤ، لم يَسِل لعابهم كاستجابةٍ شرطية، بل تبوّلوا، ولم أقدر أن أعرف أو أحدد، أي نوعٍ من الاستجابات هذه؟
ربّيْتُ ظرابين تطلقُ روائحَ عبِقة، ببغاواتٍ تحاورُ وتناقش، لا تكرر ما يُقال فقط. فرقةً كوميدية من القردة، تُسلّي المهموم، تطلقُ النِكات وترقص رقصاتٍ بهلوانية.
جلستُ أرقُبُ بابا نويل عشيّةَ أعياد الميلاد لأساعده في حمل الهدايا التي تُثقِلُ كاهله، لكني لم أجده، فتشتُ جميع المداخن، في فوهة كلِ مدخنة، كنتُ أنادي:
سانتاا...
يا سانتا...
أين أنت.
رجعت بالزمن بعيدًا، غيرَ عابئٍ بتغييره، ويستحيلُ هذا أصلًا - إلّا في مُخيِّلتي هذه- ولكن مُعتبِرًا بهِ ومتعظًا. أردفني جُحا في حِمارِه، وأمتعني بحكاويه وطرائفه، شاركتُ في بناء الأهرامات لبنةً لبِنة، بعدها تفرغنا لنحت أبي الهول.
في الزمان الجاهلي، في شبه جزيرة العرب، أقمتُ ماراثونًا وشاركتُ فيه، سمّيتهُ ماراثون الصعاليك، جرينا في أرجاء الجزيرة كلها، ملأ غبار عَدْوِنا الجوّ، فجميع الصعاليك شاركوا في الماراثون، وما لا شكّ فيه أني سبقتهم جميعًا. من صمدوا معي حتى النهاية هم أُطيلس وتوجته بالميدالية بالبرونزية، والسليك الذي توجته بالميدالية الفضية، والشنفرى توجته بالميدالية الذهبية.
بعدها عقَدتُ صُلحًا بين نابليون وهتلر!! لإيقاف الحرب بينهما.
سبب نشوب الحرب، أن هتلر تغزل بـجوزفين. وأفردَ لذلك فصلًا في كِفاحه. مهلًا مهلًا يا مُخيلتي باللهِ عليك!، ما الذي جمعَهُم؟!
عدتُ إلى حقب الإغريق الأُول، صعدتُ جبل الأوليمب، مسحتُ المكان جيدًا، بحثت عن الآلهة من كثب، لم أجد زيوس ولا بوسيدون، لا أرتميس ولا آريس، لا أبولو ولا أثينا ولا غيرهم.
يا ربااااااه، إذن هوميروس كان يكذب.
صاح المتخيليُّ داخلي محتجًّا: لم يكن يكذب، لقد كان متخيلًا مريعًا، اختلق كل هذا من محض مخيِّلته. فقدانُه قدرة الإبصار الحِسّي، عُوِّض بإبصارٍ تخيُّلي، خلق كل هذه العوالم والحيوات والآلهة.
استرقتُ السمع لحوار فيلسوفيْن يونانيّيْن، يلبسان أزياءهما العجيبة تلك، ما يهمنا أكثر من أزيائهما، والأزياء عمومًا لا تكشفُ عن الحقيقة، أنهما تطرّقا للكينونة والصيرورة، للكل والجزء، للدال والمدلول، للذاتيّ والموضوعي. وكُلّهُ لم يشفِ غليلي إلا مقصد الحق والخير والجمال، وجملة واحدة قالها أحدهما:
كلُّ ما سيكون هو كائنٌ الآن، وفي أوانٍ سابق، بأشكالٍ أخرى في أطواره الأولية، وكل ما كان هو كائن الآن في أطوارٍ أخرى.
قلتُ مندفعًا: مهلًا.
فتفاجأتُ بالصوت الذي صدر مني وأنا طيفٌ شبحي، لكني لم أعبأ بذلك، فأتبعتُ ما انقطع من حديثي، وقلت: بورخيس، بطريقة ما أشار إلى هذا المعنى بقوله: «في مكتبي في شارع مكسيكو في بيونس آيرس، امتلك الآن لوحة زيتية سيرسمها شخص ما بعد آلاف من السنوات بمواد تتوزع الآن فوق جميع أنحاء الكوكب» (1).
أحسّا بالرهبة من الصوت الذي انبعث من العدم، فنظر الفيلسوف الأول للثاني في وجل، وسأله:
- هل قلتَ أنتَ ذلك.
- كلّا.
- من قالهُ إذن؟!
- لستُ أدري.
- ومن بورخيس هذا؟
- لم أسمع به.
فقلت لهما: أنا الذي قلتُ ذلك.
في الحين الذي قال فيه الهويّاتي منهما: من أنت؟ قال الشيئيُّ: أين أنت؟
فقلت: أنا أنا، وأنا هنا!
قالا: لكنّنا لا نعرفك، ولا نرى شيئًا.
قال مدعي المعرفة منهما: أنتَ تجلٍ ميتافيزيقي.
قلت: انظرا أيها المتفلسفان وتأملا معي نحن نفكر إذن نحن موجودون. لكن هل الوجود سابقٌ على الماهيّة؟
صمتا طويلًا، وفكرّا.
هِجتُ بهما: ما بكما سكتُّما؟
أصيبا بالذعر من اهتياجي، وقالا لي: أرجوك دعنا وشأننا، ما تقوله لا طاقة لنا به. بربك، قل لنا من أنت؟
فضحكت وقلت: أنا (.....) طاليس.
وعدلت صورتي الفيزيائية، وانبثقت أمامهما من الفراغ، بصورة شبحيّة، لها لون باهت. فقاما من مكانهما على الفور، وجريا بأقصى ما يستطيعان، سقطت الكينونة والصيرورة، المعارف القبْلية والمسلّمات، الحجج المنطقية، وكل ما هو فلسفي [2].
قالت: سمِنتَ، فأين آثارُ الهوى؟
لو كُنتَ تعشقني لكُنتَ نحيلا!
فأجبتُها: كتْمُ الدموعِ عن الورى
قد زادَ من وزني فصِرتُ ثقيلا!
فوّاز اللعبون
الطيورُ تصدحُ بتغريدٍ بدائعي، النسائم الربيعية المتمازجةُ بأريج الزهر، والأغصان المتشابكة على شكل أقواس متداخلة، الماء المتدفق من النافورة الحجرية، والشمس التي شرعت تتوارى عن الأنظار بوقار. في هذه الحديقة الغنّاء، رأيتهم يجلسون مثنى مثنى، يأتي زوجٌ، ويمضي زوج، لكن هُنالكَ زوج حيّرني، فقد أفرط في الأمر وأفرط حدّ البلاهة، انتظرتهما طويلًا لثلاث ساعاتٍ وهما في موضعهما ذاته، لم يبرحاه قيد أنملة، يتّضح جليًّا أنهما عاشقان فائقان - في الغباوة طبعًا- لكن أيّة مرتبة من مراتب الحب هذه؟ أهيَ الولهُ أم التتيم؟ الغرام أم الهيام، الصبابة، الوجد، الشغف؟
ليست من بين هذا كله، هذه مرتبة جديدة، وسأسميها الخبل.
ما يهمنا الآن، أن هذين العاشقيْن المخْبوليْن أحيانًا يصمتان ويظلان يحدقان لبعضهما، كلٌ في عمق حدقتي صاحبه التي تمثل نقطة خارج إطار المكان والزمان ولا يريان في الوجود أحدًا سواهما. وأحيانًا يتحدثان بصوت خفيض أخفض من دبيب النمل بألفي ديسبيل.
أقول لنفسي ماذا يقولان يا ترى؟ فلا أعرف أبدًا ما يقولانه، فتقولُ لي نفسي: لا بد وأنهما يقولان هكذا:
يقول لها:
- حبيبتي، ماذا لو أن البشر الذين معنا في هذا العالم، محضُ أطياف، كائناتٌ لا وجود لها، وأننا نحن فقط، الحقيقة الماثلة.
- يدهشها الكلام اللامنطقيُّ المعسول، فتقول له:
- حبيبي.. أنا أحبك حد الجنون؟
- إني أعشقكِ عشقًا لم يعشقه عاشقٌ لمعشوقٍ قبلُ.
- صدقني، أنا أكثر.
- بل أنا أكثر.
يقطفُ وردةً جوريةً من جيبه!
يقوم من المقعد، يضع رجله اليمنى به واليسرى على الأرض، يضع الوردة قبالة وجهها.
يصيح بأعلى صوته:
- أواااه، سينيوريتّااا.
- يا روحي، ما قيمة هذه الوردة، إذا ما قُورِنت مع جمالك؟ ينتف أوراق الوردة، ويرميها واحدةً تلو أخرى. ما قيمة عشق العاشقين إذا ما قارنّاه مع عشقنا، العشاقُ الأفذاذ، من قال إنهم أفذاذ؟ كُلُّهم كانوا مبتدئين، صدقيني روميو وجولييت، قيسٌ وليلى، مارك أنطونيوس وكليوباترا، عنترة وعبلة، زين وممو، وغيرهم، وغيرهم. كُلُّهم كانوا مبتدئين، أما نحن، نحنُ يا عزيزتي، نحنُ بالأساس، نحنُ من علّمَ الغرامَ الغراما، نحن من أيقظ المشاعر في الأرض.. ومن قبلُ كانت نيامًا، وسنمضي إلى النهاية إنّا، نحن من صيّر الحياة هياما (2)، نحن يا دُنياي، سنسطِّر تاريخًا جديدًا من تواريخ الحب.
وضحكتُ بأعلى صوتي - الذي لم يسمعاه بالتأكيد - وقلتُ: حسبكما، حسبكما. أو بالأصح حسبي، حسبي. ثم أزحتهم عن مرأى عين المخيِّلة.
وما حاجةُ الدنيا إلى صوتِ شاعرٍ
يُعيد معادًا قِيلَ قبلًا مُردّدا
وما الشعرُ إن لم يقتلعنا لبرهةٍ
عن الأرض... إدهاشًا، حضورًا، تمرُّدا
[روضة الحاج] [3]
أنشأت مجمعي الأدبي، دشّنتهُ بمؤتمر عالمي على غرار المؤتمرات العالمية الحديثة، جمعتُ جمعًا غفيرًا من الأدباء من مختلف العصور، تناقشوا عن أدبهم، عن دوره وقضاياه، ورسالته في الحياة. الكلاسيكيون منهم، والرومانسيون، الوجوديون، السرياليون، الواقعيون، الرمزيون، الطبيعيون، ودعاة الفن للفن، واللامنتمون.... وغيرهم.
ومن ضمن فعاليات هذا المؤتمر، كان سوق عكاظ، حضره شعراء من أزمان شتى، ألبستهم ألبسةً أنيقة، بذوقٍ رفيع يتواءم مع طراز المجمع الفخم، ولم أنسَ ربطات العنق بالتأكيد، حتى للأجلاف منهم.
أنشدوني شعرًا كثيرًا، شمل كل بحور الشعر. جاريتُ شعراء كثيرين، وفي ليلةٍ بهيّة، جاريْتُ المتنبي في بلاط أعد خصيصًا لذلك، جعلته كبلاطِ سيفِ الدولة، وبعد أن تفوقت عليه في المجاراة أكثر من مرة، قلت له: وداعًا تيسَ سيفِ الدولة. بدت بعض الدموع في عينيه، وقال لي:
- أخزاك الله، لم أكن تيسه.
- لكنك مدحته بما ليس فيه.
قال: في هذه صدقت.
وسكتَ، وغادر مجْمعنا.
أثناء سوقي العكاظية الحديثة هذه، تبيّن لي أن الشعر كُلَّهُ من لدُن أوّلِ شاعر في هذه الأرض إلى من يكتب أبيات شعرٍ الآن في هذه اللحظة، لا جديد فيه، لا شيء يختلف. يدور ويدور، يعاد ويعاد بصور شتى، لكي يحاول في نهاية المطاف أن يتصيد ذلك البيت الفريد، سر الشعر المنشود، تلك البيوت البديعة، التي تجسد الإبداع البشري، تمثل حالة تفرد، تحمل آلافًا مؤلفة من المعاني.
في أثناء ما ينشد الشعراء شعرهم، أتى أحدهم لينشد شعرًا، كما ينشد الآخرون، أذعن له الناس فبدأ ينشد، استغرب الحضور كلهم. ما هذا الذي يتفوه به هذا الرجل؟
لم يرقهم شعره أبدًا. قالوا له:
- أأنتَ واثقٌ أنّ هذا شعر.
- نعم، هذه ما تعرف بقصيدة النثر.
ففتحنا أرشيف إلهامات الشعر؛ قصيدةُ النثرِ الأولى. وجدناها على شكل حكاية، وهذا ما جاء فيها:
هل تعلمون أن المعلّقات السبع (3)، في الأصل ثمانية، نعم إنها كذلك...
في زمانٍ غابر، في بلاد الشام، في السوق خيامٌ متراصةٌ على امتداد الطرقات الضيقة، قناديل معلّقة، وبضائع شتّى، أُناس كُثُر يزحمون المكان، نساءٌ سافرات، وأخريات متبرقعات، ورجالٌ ذوو سحناتٍ متباينة، ومبانٍ عتيقة، ما صمَدَ منها في وجه عداوة الدهر، يعتبر اليوم آثارًا.
يصيح منادٍ بصوتٍ عالٍ: سمنٌ وعسل، سمنٌ وعسل.
ويصيح آخر: بقلٌ وشعيرٌ وبُر، زيتونٌ وزبيب وكل ما طاب يا أحباب، متاعُنا نِعمَ المتاع، وسنملأُ لك الصاع.
وآخر: أوانٍ فضيّة وحُليٌّ ذهبية، هلمّوا هلمّوا، أقمشةٌ فارسية، ديباج، قطائفُ مخمليّة.
ابتاع التجار بضاعتهم وحمّلوها القوافل، ثم قفلوا عائدين إلى باديتهم، طريق العودة شاقٌ ومقفر، صحاري تمتد على مد البصر، سرابٌ يلوح في الأفق، وكثبان الرمل تتسيّدُ المشهد، القوافلُ تسير خلف بعضها متهاديةً مع ترانيم حاديها.
الناثري، التاجرُ النجدي، كان في مؤخرة هذه القوافل، لم يدُر بِخلَده أنّه حينما يعود من هذه الرحلة، سوف يأتي بنوع جديد من الشعر.
قرروا أن يتوقفوا لبعض الوقت، قبيل المغيب، ثم يواصلوا المسير ليلًا ليستجموا قليلًا، هُم ودوابهم أناخوا مطاياهم واستراحوا.
حينما عاودوا المسير، كانت دابةُ الناثري تبطئ في مشيها على غير العادة، قليلًا قليلًا، إلى أن بركت على الأرض، وأبت أن تتحرك، ظل يراودها عن نفسها لتقوم، فأبت إلى أن قامت بمحض إرادتها عندما يئس منها تمامًا، بعد مُضِيِّ فترة غير قصيرة من الوقت.
حينما أراد اللحاق بالركب الذي لم يفقده، أضاع الطريق، ظل يهيم في الصحراء، يترنم بأبيات من الشعر الركيك الذي يجيدُه، ولم يعلم أنه ولج وادي عبقر.
في ذلك الليل الأدعج، بدأ يتراءى له بوضوح، شيء ما يتشكّل أمامه، تتصاعدُ أبخرة ودواخين، يظهرُ أمامه مخلوقٌ له قرنان، وله ذنب. ذُعِر الناثري.
قال له:
- لا تَخَف؛ فأنا نثرون، لا أؤذي أحدًا. خصوصًا وأنّي أُعجبت بشِعرك.
فتماسك الناثريُّ وسأله:
- حقًّا.
- بلى.
- -لكنك: جني وأنا إنسيّ.
- نعم، لكن أنا نثرون، من آل شاعرونَ ناثرون.. وأنت ناثِري، من بني شِعر بن نثر.
- كيف عرفت اسمي؟!
- دعنا من هذا.
لقد صغتُ معلقةً جديدة، انتهيت منها للتو، وبعدما سمعتُ شعرك، آمنت أنك أحق الناس بها، اسمع:
في أوج الهجير، يحسبُ الناس الرمضاء، العُقاب فوقنا، كان الختن والنجل وكانت العقيلة، ما بسويداء الفؤاد، تخثّر، أما إن الحزّ والغمط والوهاد، آهٍ من ليثٍ غضنفر، ذاك.. لله درُّه. أتعذلني؟ الخَوْدُ، ما الخَوْدُ وما الخريدة، الفتاة العُطبل، أتحسبني، هرق الماء، الجون، الكرى، أصطلي بنار العذاب، مع الشفق، ثم الغسق، هب أنني.... إلخ
يا ألله، ما أبدعك! حقًّا أنا أحق الناس بها، وسأعجزُ بها قومي.
بعدما وُهِبَ الناثري، معلّقةَ نثرون، قال له نثرون: امتطِ الدابة يا ناثري، ففعل، وسأله: أَأُرجِعُك على متن غيمة، أم أحملك حملًا؟
- أُفضّل أن تحملني.
وضع الجني الدابة في باطن كفّه، طار به قريبًا من الديار، وأنزله هناك، ودّعه واختفى.
حينما رجع الناثريُّ إلى الديار، حمدتْ عشيرتُه اللَّهَ على عودته، وفي الصباح جمع وجاهات القوم، لينشدهُم شعره الجديد، أذعنوا له أسماعهم.
وبدأ ينشد...
في أوج الهجير، يحسبُ الناس الرمضاء، العقاب فوقهم، ....
بدت علامات الريبة على وجوههم، تبادلوا النظرات، ضرب كل واحد منهم، كفاً بكف. قال أشعرهم: ما هذا يا ناثري؟ تاالله ما هذا بشعر.
صاح القوم ودار اللغط بينهم. قال أحدهم مزمجرًا: فضّ فوك، واللات والعزى، هذه هرطقةٌ شعرية.
استلّ أرعنُ القوم سيفه من غِمده، قال له: ثكلتكَ أُمُّك، أتريدُ أن تعيِّرنا العرب؟ فأرداه قتيلًا.
قد تقولون إذن فقد مات بموته ذلك النوع من الشعر، لكنه لسوء الحظ، لم يمُت بموته، فالناثري كان قد كتبه في رقعةٍ من الجلد، توارثها الوارثون جيلًا بعد جيل، إلى أن انبعث للحياة في هذا العصر هذا النوع من القصائد.
انقضت أيام المؤتمر، وانفضّ أدباء المجمع الذين دعوتهم. عدتُ بالزمن إلى زمانيَ الذي جئتُ منه، ثم همَمْت بمغادرة الكوكب مجددًا، كان الوقت ليلًا، ليلٌ ساكنٌ هادئ، بينما أنا صاعدٌ إلى الأعلى، جذبتني جسيمات الضوء المنهالة في الفراغ، لم أعرف مصدرَها، لكنها كانت تنتهي عند نافذة ما، فتتبعتها.
نظرتُ عبر النافذة، رغم الإضاءة الخافتة، رأيتُ أن جسيمات الضوء تنتهي عند أسطرٍ في ورقة! تعجّبت، أهذا السناء والبهاء، يُحال إلى كلمات؟!
فاستدركت: آااهاااا، لا بدّ وأنه الإلهام الذي يحكون عنه.
عبرتُ زجاج النافذة - فمَاهيّتي شفيفة - كان ذلك الشابُ يكتُب بشغف، بلهفة، يراعُ الرصاص يصدر صريرًا على الإضبارة المكتظة بالكلمات المبعثرة على جنبات الورقة، والعبارات المشطوبة والملغية. لكيلا تفلت الأفكار، تحدثه نفسه أن هذا هو النص المنشود الذي يبحث عنه.
قرأت نصه المزعوم هذا، لاحظتُ أنه يحوي تفردًا ما، ولجت إلى عقله، وقلت له: نصوصُك بديعة. وحينما ذهب إلى الفراش، وآوى إلى النوم، دخلتُ مركزَ الأحلام لديه، وصنعتُ لهُ حلمًا؛ شكّلتُ أشباح أبرع الكتاب الذين قرأ لهم، الكتابُ العِظام، حشدتهم أمامه، أجلستهم على طاولةٍ مستديرة، وجعلته يحدثهم وجهًا لوجه، بفيضٍ من الغبطة والسرور، سألهم عن أسئلةٍ كثيرةٍ تشغل باله، من ضمن ما قاله لهم: أنتُم يا سادتي تكتُبون، ونحن نحاولُ جاهدين أن نفقه كُنْه الجمال الذي تكتبون به. بربكم أيّة حالٍ تعتريكم وأنتم تمسكون اليراع؟ أتكونون في حالةٍ جسمانية مادية مثلَنا؟ أم أن أرواحكم ترتقي وتحلق إلى آفاق بعيدة؟
قالوا له: بالطبع، تلك درجة عالية، تلك التي نكتب بها، وتلك حالٌ فريدة، لا يتأتّى إلّا بشِقِّ الأنفُس، وسُمُوِّ الأنفُس.
وسألهم أيضًا، أخبِروني، لم نحن نكتب؟
قال الإنسانيُّ فيهم: نحنُ إذ نكتُب؛ ننشدُ الجمال، جمال الكونِ والكائنات، جمالَ الأحياءِ والأشياء، جمال الأنفُسِ والسرائر، نقتفي أثره، في طيّات الوجود، نقطفه أزهارًا يانعة من بساتين الحياة.
لنترقّى في المدارج حتى نصل إلى كُنه المعنى، معنى الحياة الماتع، لنرسي دعائم اليوتوبيا في هذه الأرض، لنعيش بنيرڤانا الروح، ونمسكَ لُحيظات الفرح.
القفزةُ بين النجوم لا تتم على الفور ما دامت سرعة الضوء محدودة. لا يمكن للحياة أن تستمر... المادةُ والطاقة في هذه الصورة لا يمكنهما الوجود في الالتواءِ الفضائي. [أنا روبوت - إسحق أسيموف] [4]
رجعت بالزمن مجددًا لحِقب الحياة القديمة، راصدًا تطوُّرَ أساليبِ الإنسانِ المعيشية، منذ إنسانها البُدائيِّ الأول إلى إنسانها المدنيّ الأخير، واستشرفتُ آفاق المستقبل الذي لم يُشابِههُ أيّ عصر من العصور التي مضت.
نشبت حربٌ عالميّةٌ ثالثة، فأخمدتُها قبل أن تستعِر. كانت حربًا بيولوجيّةً نوويةً مُرعبة، القنابلُ الذرية، والصواريخُ المحمّلة بناقلات العدوى، والأخرى المحملة بالسموم، أشعرتني بالرهبة.
وذُعِرت جدًّا ممّا ستؤولُ إليها الحالُ على هذا المنوال؛ فالناس هنالكَ في مستقبلٍ قريب كانوا أناسًا يعيشون فقط، لا يحيون، وبئس حياةٍ لا حياةَ فيها.
وضعتُ عدة سيناريوهات لنهاية العالم؛ الشمس التي انطفأت، وقودُنا الحيوي، فهلكنا جراء ذلك. أو تحولها إلى مستعرٍ أعظم وهلاكنا جراء إشعاعها الشديد، أو ارتطام جرمٍ ضخم بالأرض. وسيناريوهات أخرى، لكن السيناريو الأكثر تخيلية ظهور ماردٌ كونيٌّ في نظامنا الشمسي من رحم ثقب أسود، يعيث بالمجرة فسادًا.
مهلًا!!!!
لكنهم قالوا إنه ليس هناك شيء في هذا الوجود - حتى الضوء - يمكنه أن يفلت من شَرَك الثقب الأسود!
هذا لا ينطبق على المردة يا مُخيِّلَتي؛ فالثقوب السوداء بالنسبة للمردة أماكن مألوفة، هي ليست بوابات مكانية ولا بوابات زمنية، فهي لا تذهب بهم للمستقبل أو تُرجعهم للماضي كمساحات ينثقب فيها نسيج الزمكان فتتيح الانتقال لأمنكةٍ مُتعدّدة، وأزمنة متعددة، عبر طي المسافة بينها، بالأخذ في الحسبان، زمان أو مكان نقطة الانطلاق.
إنما هي مساكن المردة، بيوتُها.
ماذا؟!
مساكنُ المردة؟!
كيف هذا يا مخيِّلتي؟!
حسنًا.
حينما يريد المردة أن يأووا إلى منازلهم، بعد يومِ عملٍ مرهق، يقفزون في أفق الحدث، كسباحين ماهرين، يواصلون العوم حتى يصلوا إلى قاع الثقب عند المتفردة (4)، يتكورون على أنفسهم، يتحولون إلى جسيمات بالغة الصغر فيمتزجون بالمتفردة، ويقبعون هنالك في صورةٍ جسيميةٍ دون ذريّة.
قلتُ: حقًّا؟!!
صمتت المخيِّلة لأول مرة.
وطال الصمت.
فقالت: دعنا من ذلك. ولنواصل ما افترضناه بخصوص المارد.
هذا المارد.. فريدٌ من نوعه، وهوَ ليس كـميكروميڠاس ڤولتير، الذي يتنقلُ من كوكبٍ إلى كوكب، كالطائرِ من غصنٍ إلى غصن ويعبر المجرة بوقتٍ قصير، بل هو أحذقُ منه، ولا يساوي ميكروميڠاس أمامه شيئًا.
لم يرَ هذا المارد درب التبانة منذ زمن طويل؛ فقد كان في سباتٍ عميق دام ملايين السنين، داخل ثقبٍ في حافة المجرة، آخرُ ظهورٍ له كان برفقة أخيه الأكبر، وجد تغيّراتٍ كثيرة قد طرأت، كواكب كثيرة انمحقت، ونجومٌ ضخمة فنَت.
أحسّ ببعض الجوع من قبيل ذلك الذي تشعر به الحيوانات التي تتخذ بيوتًا شتويًّا، فلم يجد طبقًا أشهى من المشتري في مائدة درب التبانة الممددة أمامه. فأخذهُ بإصبعيهِ السبابة والإبهام ورماه في جوفهِ كحبة سكاكر، لكنه وجد صعوبةً بالغةً في ابتلاعه، لكِبر حجمه.
ولم يشبع فأعقبه بالمريخ، فهدأ روْع جوعه قليلًا، وبعدها تجشّأ فاضطربت المجرة كلها.
لمّا أحسّ بالملل، قرر العبث واللهو لبعض الوقت، لعب بعطارد ككرة الطاولة بين كفيه ثم ركله بقدمه - ككرة قدم - بقوة خارج المجرة، وأحرز هدفاً في شِباك المرأة المسلسلة.
آاه، مسيكنٌ ميركوري!
أحدثت سرعة التحرك بالكوكب احتراقًا، فصار كشهابٍ ضخم يسري في السماء ويُرى بوضوح من الأرض، ويكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
ازداد ملل المارد مع مرور الوقت فأخذ بلوتو وقذفه في الزهرة، فحدثت موجةُ صدمية حرارية، جراء الفرق الهائل في درجة الحرارة بين الكوكبين فتفتتا وصارا هشيمًا تذروهما الرياح الكونية.
حينما قرر الرحيل أخيرًا، رمق زحل بنظرة غيرة، تلك التي لا نشهدها إلا بين الفتيات الأغرار، فاقتلع منه حلقته الجميلة تلك [5]. ولبسها خاتمًا في إصبعه الجسيم.
لم يجرؤ على المساس بالأرض لرهبةٍ شديدة سرَت بجسده لم يدر ما سببها؟ ولو سألني لأخبرته أن القشعريرة التي سرت في أوصاله، إنما هي ........
عذرًا، لستُ أدري ما سببُها؟!
اسألوا مختصًّا بعلم نفسِ المردة!
بعدها عاد إلى الثقب الذي خرج منه، ورحل غير مودِّع.
أدّى جوعُه ولَعِبُه الصبياني، لحدوث انبعاجات في النسيج الكوني - أو فلنسمِّه الزمكان الآينشتايني- وزلازل وعواصف، وصواعق رعدية من رزم الطاقة واستعارٍ في لهيب الشمس أثناء ذلك اللعب وبعده استمر لعدة سنوات.
اضطربت أجواء الأرض اضطرابًا شديدًا بفعل تقلبات درجات الحرارة، شيء من خسوفٍ يعقبه كسوف، وشيء من احتباسٍ حراري مفرط تعقبه عواصف ثلجيةٌ مريعة.
حدثت ظواهر طبيعية جديدة، لم تسبق أن حصلت ولم تُرصد من قبل، بعدما زاد قرب الأرض من الشمس، صارت السنين تمر كأنها عدة أشهر، وكانت الأرض تعوي عواءً، انفجرت البراكين، طغى الماء على اليابسة، وظنّ أهلُها أن قيامتهم قد قامت وأنّ الكوكب سينفجر أو تبتلعه الشمس، أو أية نهاية أخرى من هذا القبيل المأساوي، ولو لم يكن الكوكب الأحمر في معدة المارد الآن، لكان وجهتهم الأولى.
لحسن الحظ أحدَثتْ الدمعات التي نزلت من عينيه عندما سرَت بجسده تلك الرهبة، خمودًا كبيرًا بوهج الشمس ولهيبها وإلا لما استطاع الجنس البشري البقاء على قيد الحياة في ذلك الحين.
ورغم كل هذا اللغط وكلِ هذه الفوضى الكونية، ثمة أمران يستحقان الوقوف عندهما، الأول أن المشهد كان موثّقًا؛ فالإعلاميّون مهما يكن لا يُوفوِّتون شيئًا.
والثاني أنّ فئةً من العلماء وبعض الفلاسفة، جُنّ جنونهم، إذ ظلّت تدور في أذهانهم أسئلة كثيرة، نشِطَت بصورةٍ هيستيرية في أذهانهم بظهور المارد، أرادوا أن يسألوه عنها، لكن لم يتسنّ لهم ذلك. تلك الأسئلة من قبيل، هل بإمكاننا تجاوز سرعة الضوء؟
ماذا يوجد داخل الثقب الأسود؟
وهل هُنالك شيء بعد المفردة؟
ماهيّةُ السماوات السبع؟
ألهذا الكون نهاية؟ فالتوسّع المستمر لهذا الكون يرجح بشدة فكرة أن تكون له حدود وتكون له نهاية.
ولو كان كذلك ماذا بعد هذه الحدود؟
هل ما وراءه العدم؟
وأسئلة كثيرةٌ جدًّا لا حصر لها.
لكن الأهم، سؤالٌ واحد فقط، الهاجس الذي يشغلهم، ويشغلنا، طوال الوقت في كل عصرٍ من العصور؛ هل من كائناتٍ حيّةٍ أخرى تعيشُ معنا في هذا الكون المهيب؟
والخاتمةُ النهائيّة هي أننا نعرفُ القليلَ جدًّا، ومع ذلك فمن الغريب أن هذا القليل جدًّا كثير، وأغرب من ذلك أن هذه المعرفةَ القليلة جدًّا يمكن أن تعطينا كل هذه القوة. [ألف باء النسبية - برتراند رَسِل] [5]
من قلب الفوضى ينبعثُ النظام، وحينما نعبثُ بالأشياء تتضح لنا أشياءُ جديدة، نلمحُ لمحاتٍ من الصورة الكاملة.. من زوايا عدة، نشهدُ المشهد البانورامي. من جزيئات الفسيفساء المبعثرة التي لا توحي بشيءٍ وحدها، تبزغُ لوحةٌ أخّاذة.
نُجرِّب ونُجرِّب.. بِكُلِّ الاحتمالات الممكنة، حتى نصل إلى النتيجة الأكثر قربًا. من يعبثُ يصل للنظام، بطريقة مشابهة، لِـ من يُخطئ يصل إلى الحقيقة، كما أقر دوستويفسكي في جريمته وعقابه: إنّ الخطأ هو الميزةُ الوحيدة التي يمتاز بها الكائن الإنساني على سائر الكائنات الحيّة. من يُخطئ يصل إلى الحقيقة.
على طرق هذه الأفكار أبواب عقلي، صحوتُ من تطوافي الخياليِّ المريع بعدَ أن حططتُ رحالي في جزيرةِ اللاعبث مكتفيًا بهذا القدر من العبث! بالتزامن مع آخِر قطراتٍ من وقود الإيمّاجينولين الذي يُشعِلُ مُخيّلتي شطحًا، كادَ عقلي أن يصدر صوتًا ضاحِكًا بشدة، لما أحدثتُه من عبثٍ ولهوٍ واضطراب في مراكز المنطق لديه، وأن يفكر في كل ما دار بِرَحاهُ، وأن يبكي أيضًا، وأن يتأمّل، وأن يسلك عدة مسالك، ويتصرف عدة تصرفات، لكنه كان متعبًا، فألقى بكل ذلك في لاوعيه ليختمر ببطء، وأوكل له كل المهام التي أراد أن يقوم بها، وذهب ليستريح.
أما أنا فقد لُذتُ بالفرار إلى الفراش لكي ينام عقلي هانئًا، وعلّني حين أستيقِظ يكونُ خزانُ وقُودِي ذاكَ قد أُعيد ملؤُه لأعبثَ وأتخيل، وأفترض وأفتعل من جديد. نِمتُ وكأنّ شيئًا من كلُ ذلك -البتّةَ- لمْ يكُن.