شهادة حب
تأليف: عبد الصادق السرواي | الدولة: المغرب
روحي ترفرف وسط فوضى كونية، في عوالم ملغومة، ليست سماء وليست أرضًا، كان عالمًا غامضًا وملغومًا كالسحر. وحيدًا أمضي في هذا الغموض، أخبط خبط عشواء في العتمة ولا شيء أتحسسه من حولي غير العدم. يظهر أمامي فجأة طيف امرأة، امرأة تخفي ملامحها عني، تمشي أمامي في غنج، تمضي على أطراف أصابعها في ثبات، مولية ظهرها عني تجر من ورائها ثوبًا حريريًّا ملائكيًّا مرصعًا بالنجوم المتلألئة. ثم أمضي من ورائها أتبعها، أهرول متلهفًا لاكتشاف ملامحها فلا ألاحقها. أخِرُّ ساقطًا فأحبو على أطرافي الأربعة كرضيع وراء ذلك الطيف الملائكي وهو يبتعد عني، ثم يختفي ليذوب في الظلام فجأة كما ظهر، تتملّكني رغبة جامحة في الصراخ، لأفتح عيني على بياض سقف الغرفة.
أدركت بعدما استرجعت أنفاسي أنني كنت غارقًا في كوابيس مزعجة فلعنت الشّيطان في سرّي. لم أشغل تفكيري بذلك الطيف. تناسيته وجلست على حافة السرير أحاول تصفية مزاجي المخربق هذا الصباح على غير عادتي. عينان ذاويتان وجسدي ثقيل كصخرة صمّاء لا أقوى على تحريكه. نظرتُ إلى السّاعة الحائطية البكماء، لم يتبق عن موعد العمل سوى ساعة إلاّ ربع. فكّرت في أن أجري اتصالًا بمدير مكتب الجريدة أخبره أنّني متعب لن أستطيع الذّهاب إلى العمل هذا الصّباح، غير أني تراجعت عن هذا القرار، وجاهدتُ نفسي على النهوض. بادرت بحمل جسدي الثّقيل بجهد قاهر، قصدت الحمّام، رتّبت هندامي، ارتديت ملابسي في عجل وحملت محفظتي وهممت بالخروج مؤجّلًا وجبة الفطور الخفيفة إلى مقرّ الجريدة.
عند عتبة الباب، وجدت ساعي البريد قد رمى لي من أسفل الباب الحديديّ الصّدئ بظرف ومذكّرة ملفوفة في غلاف جلديّ أنيق ونفيس، لعلّه كَلَّ من طرق باب الغرفة بينما كنت في سبات عميق، غارقًا في تلك الكوابيس الملعونة، فقد اعتاد أن يطرق الباب ليسلّمني رسائلي يده إلى يدي ويلقي عليّ تحيّة الصّباح قبل أن يمضي لبقيّة يومه.
التقطتُ الظّرف والمذكّرة من على الأرض، الظّرف لم يحمل اسم المرسل أو أيّة إشارة تدلّ عليه غير اسمي أنا المرسل إليه وعنوان سكناي. فتحتُ في تطلّع إلى أول صفحة المذكّرة، ليشهد الحبُّ... هكذا كتب العنوان على الصّفحة الأولى بلون أحمر بارز عريض. طفقتُ أبحث على غلاف المذكّرة عن اسمٍ أو توقيع أو إشارة تبيّن مصدر المذكّرة، فلم أعثر على أية إشارة من ذلك غير العنوان اليتيم!
تملّكتني الدّهشة والاستغراب، فبادرت إلى فتح أولى صفحات الكتاب لأقرأ بخطّ ليس غريبًا عنّي:
إهـــــــداء...
هذا كتابي إليك، إليك وحدك، ليشهد الحبّ أنّي كنت مخلصة لك وصادقة في حبّك، وليكون شاهدًا على ذلك أمام التّاريخ وأمام الله...
أحسست بقطعة حديد غُرِزَت في قلبي وأصِبتُ بدوّار خفيف، حاولتُ أن أتماسك جسدي اتّقاء السّقوط. آهٍ يا هاجر، لقد أيقظت جراحًا خلتها قد اندملت، وأشعلت فتيل الذّاكرة بنار مؤجّجة. بعد هذه المدّة التي حاولتُ أن أغيّر مكانك في الذّاكرة، وأن أعيد ترميم دواخلي بالوصفات الطبيّة، وحصص التنويم المغناطسيّ والعلاج النّفسي، وبالأدب والشّعر كي أتناسى؛ لأنّ ما يوشم على الذّاكرة وينقش عليها لا ينسى إلا بالموت، ها ذكراك المدفونة في تابوت الماضي تبعثينها من جديد.
عدتُ أدراجي إلى الغرفة بالسّطح منكسرًا، وضعت المذكّرة والظّرف على الطّاولة، ورميت بجسدي الثّقيل على الأريكة. حين التقطت أنفاسي، أخرجت هاتفي النقّال لأجري اتصالًا بمدير الجريدة أخبره أنني لن أستطيع الحضور للعمل هذا الصّباح، كما فكّرت أوّل ما استيقظت.
هاتفته، وجاء صوته دون طول انتظار:
- صباح الخير سي وديع
- صباح الخير سيّدي المدير
- ما بال صوتك على غير عادته، وكأنّي بك متعب!
- نعم سعادة المدير، أحسّ بتعب شديد، ولهذا اتصلت بك لأخبرك أنني لن أتمكّن من الحضور إلى العمل اليوم.
- كنت انتظر وصولك، لدينا مقالات كثيرة تنتظر التّحرير، لكن راحتك أولى عندنا.
لستُ أدري كيف جاءتني فكرة طلب إجازة استراحة فبادرتُ بالقول:
- لو سمحت سيّدي المدير، أنا في حاجة إلى إجازة، أحسّ نفسي جدّ متعب، أحتاج بضعة أيام للراحة لأجدّد طاقتي وأعيد نشاطي.
تأخّر صوته قليلًا ثم أجاب:
- حقّا لقد اشتغلت شهورًا متواصلة دون أن تطلب إجازة، كنت تعمل في جهد وتتأخر معي في المقرّ، أعلم أنّك تحب عملك كثيرًا، لذلك لن أردّ طلبك رغم حاجتنا الماسّة إليك.
شكرتُ له مدحه وإطراءه الذي لم يحرّك فِيَّ أدنى شعور.
- إذن استرح واستمتع بإجازتك، على ألاَّ تطول، فلم نعد نستطيع الاستغناء عنك، مع السّلامة.
- حسنًا، أشكرك سيّدي المدير، طاب يومك.
هكذا فكّرت في أخذ إجازة، وكأنّي أخرّتها إلى يومها الأَنسب، فالكثير من اللحظات هي ما تختارنا ولسنا نحن من يختارها. وسط هذه الإجازة سأختلي بنفسي بعيدًا عن ضغوطات العمل، لأقرأ كتاب هاجر إليّ. فأنا على علم يقين أنّه سيفتح أمامي نوافذ على شارع الماضي الممتدّ، وسيطلعني على ملفّات من حقائب الذاكرة، وسيوقظ كثيرًا من الجراح النائمة، كما يشي بذلك عنوانه المُثير...
هممت بفتح الظّرف الذي لم يختم هو الآخر باسم المرسلِ غير اسمي أنا المرسل إليه، ثمّ فتحت الورقة المطوية المقبورة داخله، كان الخطّ نفسه الذي كتب به إهداء الكتاب. الكتاب والظرف إذن منك يا هاجر.
هكذا تعرّفت على مصدر الكتاب والظّرف من خطّ أناملها الذي حفظته عن ظهر عين، ثمّ طفقتُ أقرأ الورقة والرّعشة تلبسني:
عزيزي وديع،
...أما قبلُ، طالما حملتُ همَّ هذا الكتاب بعد فراقنا. تردّدتُ في كتابته أكثرَ من مرَّة، فكلّما حرّكتني دواخلي لأكتب همَّ ما أحمله تجاهك، أجد شيئًا ما يصدّني عن ذلك، ربما همّ ما أحمله تجاهك أكبر من أن يترجم على بياض الورق! وحين عقدتُ العزم وجاهدت نفسي على ذلك، بدأت مُحاولةَ تخفيفِ هذا الهمّ على بياض الورق لعلّي أنظّف دواخلي من بقاياك التي لا تزال تلازمني، ولعلّي أُشفى من الذّاكرة ولو قليلًا. منك انتقلت إليّ عدوى القراءة ومنك أصابني مسُّ الكتابة يوم دخلت عالمك الغامض، أخذتُ بقولك يوم سألتك لماذا تكتب؟ فأجبت: أكتب كي لا أموت اختناقًا، وأكتب لكي أنظّف دواخلي ولكي أشفى من الذاكرة. هكذا فعلتُ الآن، وأدركتُ كم أنّ المِداد قادر على امتصاص همومنا وأحزاننا، وأنّ البياض أهل لأن نودعه خيباتنا ونكباتنا وأنه قادر على تخفيف ثقل الآلام عنّا. كم كنت تهزئ بي لأنني لم أكتب يومًا ولو نصًّا رغم بعض الخواطر التي كنت أكتبها، لا لشيء إلا لإرضائك. كنتَ تحثّني على مداومة القراءة ومحاولة الكتابة، بفضلك قرأت رواياتٍ كثيرةً، وكم عشقت الرّوايات الرومانسية التي لم تكن تحبّها. أما الكتابة فلم أنشغل بها، كنتَ حينها كلّ شيء بالنّسبة إليّ، لذلك لم أكن أحسّ بنقصان يدفعني للكتابة، وطالما ردّدت أنّ الكتابة تعويض عن الفَقد. أمّا الآن فها أنا أكتب إليك، ليس نصًّا، بل كتابًا بعدما افتقدتك، وأدركت حقًّا أنّ الألم والحرمان والنّقص هو ما يدفعنا إلى الكتابة. فاقرأ كتابي هذا لعلّك تغفر لي ذنبي الذي اقترفتُه في حقّك، وارحم أخطائي وهفواتي، وتقبّل تفاصيلي المملّة وإطنابي الفظيع، هنا ستجد اعترافًا وبوحًا، وأجوبةً عن أسئلةٍ كثيرة طالما أرهقتك، وستجد أسرارًا لم أطلعك عليها يومًا لم تعد الآن سرًّا بالنّسبة إليّ، وهنا أقتبس من أحد نصوصك قولك: «مهما ادعينا من وضوح وشفافيّة، فهناك أشياء نحتفظ بها لذواتنا لا نستطيع البوح بها لأي شخص مهما كان، حتى ولو كان قريبًا منّا، حتّى أنفسنا نخشى أن تخذلنا فتفشيها إلينا...» فخذ منه ما شئت وتغاضى عمّا شئت فكل شيء كتبته إليك. الحاضرة الغائبة هاجر.. إسبانيا: 2014
آآهٍ يا هاجر... أربع سنوات ونصف مرّت على فراقنا، وقد كانت كفيلة بأن ننسى أو بالأحرى نتناسى بعضنا بشكل تدريجيّ كما اتفقنا. ورغم ادّعائي بأني شُفيتُ منكِ فإنني لم أشفَ منك قطّ، فقط غيّرتُ مكانك في القلب والذاّكرة، ثمّ ها أنتِ تؤكّدين لي أنك لم تستطيعي أن تشفي منّي أيضا بأن فكّرت في أن تكتبي إليّ كتابك هذا، بعد أن انقطعت أخبارك وانقطع الاتصال بيننا بالمرّة بعدما انعطف مسارك في الحياة مع رجل آخر وفي بلد أخرى.
نَضوتُ ربطة العنق التي تخنقني، والتي أضعها مكرها لدواعي العمل، وارتديتُ بيجامتي السّوداء الفضفاضة والمريحة، ثمّ حملت الظرف والكتاب ومحفظتي وعلبة السّجائر إلى مكتبي بالغرفة التي أختلي فيها بنفسي لوقت طويل، أمارس فيها طقوسي الخاصة؛ أقرأ وأكتب وأحرّر بعض المقالات على أنغام الموسيقى الهادئة، وبها سأختلي لأقرأ كتاب هاجر إليّ.
أدرك جيّدا أن هذا الكتاب يتطلّب منّي استعدادًا نفسيًّا وذهنيًّا كبيرين، لن أقرأه في نهمٍ كما ألتهم الجرائد كلّ يوم والكتب والروايات والمجاميع القصصيّة كل شهر، فالأمر يتعلّق بفترة مهمّة من فترات حياتي قضيتها مع هاجر، غيّرت كثيرا من مبادئي وأفكاري ونظرتي للحياة وتركتني أردّد: هناك شيئان يستطيعان تغيير الرّجل وقلبُهُ رأسا على عقب؛ الظّروف والأنثى!
سيكون كتابًا مليئًا بالبوح والاعتراف والألم والجراح، كما أشارت في رسالتها، لذا سيحتاج منّي جهدًا كبيرًا ومزاجًا صحوًا لقراءته بتمعّن وتريّث كبيرين، سأتوقّف عند لحظات كثيرة من تاريخ ذاكرة حبٍّ كتبتها هاجر.
أشعلتُ أوّل سيجارةٍ ثمّ فتحت الكتاب على أوّل فصل:
ربيع البداية...
خسرتُ أشياءَ كثيرةً لأربحكِ... وإن خسرتُكِ فقد خسرتُ كلّ َشيء...
أكثر عباراتك التي تحدث بداخلي زلزالًا وتفجّر حمائم البركان في قلبي كلّما تذكّرتها. كانت أول عبارة كتبتها إليّ بعد تعلّقي بك أو تعلّقك بي، لست أدري، المهمّ أنّه تعلّق حدث. أذكر ذلك المساء حين عودتنا من الحديقة بعد جلسة بوح مطوّلة، فدسستَ الورقة في يدي حين صافحتني مودّعًا عند محطّة الباص. حين فتحت الورقة بعدما أخذت مكاني في الحافلة، قرأت عبارتك المكتوبة بلون أحمر غامق وبخط عربي أصيل، قفزت بانفعالية تلقائية كطفل باغته أبوه بلعبة ظلّ يحلم بها. أثرت انتباه بعض الرّكاب من حولي، فحاولت إخفاء دهشتي أمام عبارتك التي تختزل معاني كثيرة...
ظللت خلال طريقي إلى المنزل في غاية الفرح والسّرور، لأنني استطعت بعد صبر طويل أمام كبريائك وشموخك الذي لا يطاق أخيرًا أن تفتح لي قلبك المصون. أخذتُ هاتفي من الحقيبة بعد نزولي من الحافلة وكتبت إليك في رسالة نصية عبارة حاولت أن أحاكي فيها أسلوبك: »ربحتُكَ... إذن ربحتُ كلّ شيء«.
تركتُ الكتاب مفتوحًا على هذه البداية، أزحت نظّارتي فوق عيني، واسترخيت فوق كرسيّ مكتبي مسافرًا إلى فيافي الماضي، أنفث دخّان ما تبقي من السّيجارة أحاول استرجاع تفاصيل هذا اليوم، بدايتي نحو خيبة أخرى.
نعم فكّرت كثيرًا قبل أن ألتقي هاجر ذلك المساء، بتُّ طوال اللّيل ساهدًا بلا نوم، سؤال واحد أرهقني لم أجد له جوابًا: أحبّها نعم، لكن ماذا بعد...؟ نعم هاجر متعلّقة بي جدّا، تهتمّ لكلّ أموري الصّغيرة والكبيرة، وتشاركني كلّ تفاصيلها حتّى التافهة منها، وما تفتأ تسأل عنّي كلّ وقت وحين، ولا تنفكّ تزفّ إليّ كل مرة عبارات الإثراء والاعجاب بشخصيّتي. أنا أيضًا أحسّ بإحساس تجاهها لكنّني أحاول إخفاءه؛ لم أعد أستطيع أن يمرّ يوم دون أن أراها وأتحدّث إليها، جمعتني بها الصّدفة في مرحلة أعاني منها فراغًا عاطفيًّا جامحًا وفي فترة حصدتُ فيها الكثير من الخيبات؛ فترة خسرتُ فيها نفسي وتخلى عنّي فيها حتّى من لم أخلْهُ يوما سيتركني، صديقي الوحيد. أنا أحتاج إليها في هذه المرحلة بالذّات، ولعلّ الأقدار ساقتها إليّ ولم تسقني إليها لترْدُم هذا الفراغ الجامح، ولتخفف عنّي عبء خيباتي التي لا تنقضي. أنا أيضًا متعلّق بها، إذن سأبوح لها بشعوري بعد كلّ هذه المدّة وليكن ما يكون، هكذا انتهى بي التفكير، لكن سؤال: ماذا بعد هذا الحبّ؟ سرعان ما عاد ليطوّق تفكيري ويحاصره.
هذا الـما بعد فتح أمامي باب تفكير على مصراعيه من جديد، أنا الذي يضربُ ألف حساب لأبسط خطوة أنوي خطوها في حياتي التعيسة هذه، كي أتحاشى المزيد من الهزائم. فكّرت بعقلي بدل قلبي، احتمالات كثيرة خطرت ببالي؛ البدايات دائما تكون جميلة، لكن ماذا عن النّهايات؟ هل هي الأخرى جميلة أم أن الجمال خاصيّة للبداية، والحزن والألم سمة خاصة بالنهاية كما حدث مع عائشة؟
حاولت أن أقنع نفسي الثّكلى والمعطوبة بأنّ النهايات أيضًا باستطاعتنا أن نجعلها جميلة كما البدايات. كنتُ متأكدًا أنني سأخسر أشياء كثيرة كي أربحها، سأخسر بعض مبادئي وقناعتي التي لم تعد تصلح فيما أنا سائر إليه، سأخسر بعضًا مّمن حولي، وقد خسرت أكثرهم من قبل، وسأخسر حتى البعض من ذاتي، إنّها معادلة الخسارة والرّبح التي تحكم تجاربنا في هذا الذي نسمّيه زورًا حياة.
حين قرّرت أخيرًا أن نعقد لقاء خاصا للتواضح والتّصارح قبل أن أبوح لها بشعوري اتجاهها، كتبت إليها هذه العبارة لتشهد أنّ نوعيّة النّهاية مرتبطة بها، هي من سيجعلها جميلة أو غير ذلك، لغبائي أو لحكمتي لست أدري! خيبتي الأولى رسّخت في الخوف من النهايات، ومن لدغه الثّعبان يخشى الحَبل كما يقال.
قاطع تفكري رنين الهاتف، أطللت على شاشاته وإذا به رقم مدير الجريدة. تناولت السّماعة، وجاء صوته:
- أهلا سي وديع، طمئني عليك.
- لا داعي للقلق سيدي المدير، فقط قليل من التعب وسيزول.
- حسنًا، نسيت أن أسألك عن مدّة الإجازة، لأدبّر الأمر فلدينا كثير من العمل.
- المدّة مرتبطة بدرجة التعب، لكن أظنّ شهرًا يكفيني لأعيد نشاطي.
- حسنًا، أتمنّى ألا تطلب التمديد، فنحن بحاجة إليك، اعتنِ بنفسك واستمتع بإجازتك، ولا تنسَ أن تزور والدتك.
- شكرًا على اهتمامك سعادة المدير، إلى اللقاء.
أنهيت المكالمة وقرّرت أن أغلق الهاتف، هذا الجهاز المزعج الذي أكثر من منافعه يتسبب لنا في مشاكل عديدة، حتّى أستمتع بإجازتي وأتفرّغ لقراءة كتاب هاجر.
ثم عدتُ مرّة أخرى إلى الكتاب لأتمم القراءة:
كانت تلك الجلسة المسائية طافحة بالاعتراف، كنتَ فيها شفّافًا وواضحًا كالزّجاج، وكأنكَ جعلتها تمهيدًا لعلاقة حب قرّرت أخيرًا أن تربطها معي، وقد هيّأت تلك الورقة سلفًا. كنت منشدّة إليك وأنت تتحدّث عن ماضيك ومشاكلك، حسبت ذلك سينفرني منك، وكأنّك تضعني أمام خيّار، لكن ما كان لكل ما حكيته لي إلا أن زاد من اقترابي منك، فحين نحب شخصًا نحبّه بكلّ ما فيه، بعيوبه ومحاسنه، بهزائمه وانتصاراته.
أذكر سؤالك الذي استفتحت به حديثنا: لماذا أنتِ متعلّقة بي إلى هذا الحد؟
كنتُ قد قرأتُ في عينيك هذا السؤال قبل اليوم، ولأنك طرحته عليّ اليوم مباشرة، فقد أجبتك أنني أطرح السؤال نفسه على نفسي ولا أجد لهُ جوابًا، شيء فيك يجذبني إليك لا أدري ما هو. فنحن لا نكبح جماح أنفسنا حين تجذبنا الأشياء إليها، ولا نستطيع لجم قلوبنا حين تدفعنا إلى شخص آخر، هذه خصائص إنسانية معقّدة جدًّا يستعصي تفسيرها مهما ادعينا القدرة على ذلك.
ثمّ باغتتني بسؤال آخر وقفتُ عاجزة عن إيجاد جواب له: ما «الحبّ» بالنسبة إليك؟
صمت لبرهة أبحث في طيّات ذاكرتي عن تعريف يليق بمستواك ويناسب المقام، غير أنني لم أجد غير تعاريف سطحيّة، فحاولت أن أقدّم إليك تعريفًا من عندي فقلتُ: «الحبّ شعور غريب يصعب وصفه، فهو إحساس تجاه شخص ما يشدّك إليه شيء ما قد تجهل طبيعته.»
ابتسمتَ وحسبتك تسخر من تعريفي هذا، أعرف أنني لم أقدّم تعريفًا دقيقًا ومقنعًا، لكنّك باغتني بالقول:
تعريفك هذا قريب شيئًا ما إلى تعريف ابن حزم الذي يعتبر معاني الحبّ دقيقة وجليلة يصعب وصفها، ولا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. كنتُ أعرف أنّك تكبرني ثقافة ومعرفة لاطلاعك الواسع، وكنتُ متيقّنة أن في ذاكرتك تعاريف أخرى لفلاسفة وشعراء ومتصوّفة، لذلك لم أطرح عليك السّؤال نفسه، رغم اندفاعي وقتها إلى ذلك.
هكذا جعلت أرضيّة الحديث عن هذا الموضوع المستعصي الشائك فأجبت دون أن أسألك: الحبّ بالنسبة إليّ شعور مقدّس يعاش ولا يقال، فالمُحبّ هو من يفعل وليس من يقول، وليس كل من يقول كلمة أحبّك فهو فعلا يحبّك؛ فالذي يحبّك يعبّر لك عن حبه من خلال تصرّفاته وأفعاله، يسأل عنك، ويغار عليك، يهتّم لأمورك الصّغيرة والكبيرة، يحسّ ما تحسّه، يكون لك وطنًا وملجأً حين تضيق بك الدّنيا، وهذا في تقديري الخاص عين الصّواب. لم أستغرب حينها من قولك هذا لأني عهدت فيك نظرتك المخالفة للأشياء.
بهذه الطريقة اخترت أن تطلعني على شخصيتك الفريدة وماضيك الأليم، أدركت أن مبادئك ثابتة ومعدنك نفيس، تأكّد لي ذلك حين حدثني عن طفولتك الصعبة التي عشتها، وعن الخيبات التي تجرّعت مرارتها، حدّثني عن انتحار أبيك الذي تجهل تفاصيله، وعن غرق أختك الوحيدة ومرض أمّك المزمن وعن خصومات عائلتك، فكأني بك تبني صرحًا متينًا لعلاقتنا كي أفهمك جيدًا، وأن توضح لي أن شخصيتك نتاج واقع عشته، أكّدت لي قول ألفريد دي موسيه أن لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم، وكم كنت عظيمًا في عيني يا وديع.
ستجدني أذنًا صاغية إليك منذ اليوم، وبئرًا لحفظ أسرارك، فأنا مستعدّة لمشاركتك هذا الهمّ إن أذنت لي، ومصرّة على اقتحام عوالمك يا وديع، لعلّني أمنحك القليل ممّا افتقدته. هكذا أجبتك مكسّرة أفق انتظارك من ردّة فعلي. انخرطتَ في صمت لا عمر له، احتضنتُ يدك بشّدة ونظرت في عينيك وقلتُ بكلّ جرأة وكل ما أوتيتُ من حبٍّ: أحبّك يا وديع. سألتك وعيناي في عينيك وأنت؟ نظرت إليَّ بنظرات تقول أشياء كثيرة، انتظرت كلمة أحبّك تخرج من قلبك، لتخرج بعد تردّد كالمحتضر ينطق الشّهادة أخيرًا: وأنا أحبّك أيضًا يا هاجر. انشرح صدري وتفتّح قلبي، وتمنّيت لو التحمنا لحظتها وانخرطنا في عناق لا نهاية له...
هكذا بدأت علاقة حبّنا بعد أشهر من الرفقة والصداقة.
صادقة يا وديع أعترف لك أنّي لم أستفد شيئًا من هذه الشّعبة التي تسجّلت بها مكرهة غير تعرّفي عليك، وكأنّ القدر ساقني إليها لأجلك، ولعمري هذا أكبر فضل ربحته منها، بل وفي كلّ حياتي الدّراسية.
بعد تكرار سنة الباكالوريا، حصلتُ على تلك الشهادة التي لم تكن لها قيمة بالنسبة إليّ. احترت فيما سأفعله بها، بعد تفكير ليس بالطّويل، قرّرت أن أتسجّل بكلية الحقوق لأدرس القانون. لم يكن هدفي من ذلك الحصول على وظيفة، فقط أردت أن أدرس القانون حبًّا ورغبة كما كنتُ مدمنة على متابعة مسلسل «مداولة»، وعلى الانصات للمشاكل الزوجية والعائلية التي تبث على إذاعات الرّاديو، وقصص المشاكل العائلية والخصام بين الأزواج وكلّ ما تحكيه الجارات لأمي أو التي أستمع إليها من صديقاتي. غير أن أخي الأكبر الذي كانت له سلطة علينا نحن أخواته الثلاث الأصغر منه منعني من ذلك، وقرّر أن يسجّلني بكلية الآداب بشعبة اللغة العربية التي درس بها هو أيضًا، مع أنّه تخرّج فيها واشتغل في وظيفة لا علاقة لها بهذه الشعبة. وما أصعب أن يُفرضَ عليك شيء لم تختره، كان هذا سببًا في عدم اهتمامي وفي إخفاقي المتكرّر لأنّ اختيار الشيء عن حبّ وقناعة أساس في إتقانه والنجاح فيه.
لا أحبّ هذه المادة مذ كنت تلميذة، أكره الشّعر وتعقيداته، أكره النّحو والصرف كثيرًا. لكن بعد تعرّفي عليك أصبحتُ أحبّها وأحبّ الشعر والرواية والقصّة بفضلك، وأحببت النحو أكثر، لا لشيء إلا لكونه السّبب في التعرّف عليك والجلوس إليك أول مرّة، فله الشّكر جزاءَ ذلك.
أتذكر أول لقاء بيننا يا وديع؟ كل شيء يجري بقدر، وكي يحدث هذا المقدّر يُحدِثُ القدر لذلك سببًا.
لعلّك تذكر، كان صباح اثنينٍ إبريل، قصدتُ الخزانة البلدية لأنجز بحثًا حول النّحو التوليدي كلّفنا به أستاذ اللسانيات. هي المرّة الثانية التي أقصد فيها هذه الخزانة، لا أقصدها للمطالعة أو حبًّا في القراءة، وإنما لأجل جمع معلومات متفرقة من الكتب لأنجز بعض العروض يكلفنا بها الأساتذة، والتّكليف بالنسبة إليّ إكراه لذلك يثقل كاهلي كثيرًا.
دخلت الخزانة، كانت في ذلك الصّباح ما تزال خالية من القرّاء غيرك وطالبين والقائمين عليها. ألقيت تحيّة صباحية منخفضة حفاظًا على هدوء القاعة، وشرعتُ أجوب بين الرّفوف. وقفتَ وذهبت مباشرة إلى رفّ وقصدت كتابًا مباشرة بخفة دون عناء بحث. أثارت حركتك الخفيفة تلك انتباهي، فتقدّمت إليك إلى الطاولة حيث تجلس، وطلبت منك أن تدلّني على كتاب خاص بالنحو التوليدي، قبلت طلبي، لم تبتسم وكأني أزعجتك، قصدت الجناح الخاص باللسانيات، ولم أكن أعلم أن لكل حقل معرفي جناح، قصدت رفًّا مميّزًا برقم وأخرجت من بين الكتب كتاب نعوم تشومسكي وأشرت إلى كتب أخرى إلى جانبه. أدركت حينها أنك طالب جادّ مطلع على الكتب وحافظ لرفوف الخزانة الواسعة جدًّا.
لا أخفيك يا وديع، لم تجذبني إليك صورتك ولا شكل هندامك. جذبتني إليك معرفتك بهذا الفضاء الذي أدوخ حين ألج إليه، أتساءل في كلّ مرّة ما حاجتنا إلى هذا السّخط المتراكم من الكتب الذي يغطّي كلّ هذا الفضاء! تقدّمت إليك بعدما قلّبت صفحات الكتاب الذي كان مقزّزًا لأنّي أبحث عن شيء أهرب منه، وطلبت منك بخجل، لأنك تبدو جديًّا وأكثر صرامة، ولم تتصدّق عليّ بابتسامة حتّى طلبت منك أن تساعدني في تشجير جملة. لم ترد طلبي، أخذت الجملة وأعربتها أولًا إعرابًا تامًّا بخفة ودقة متناهية وأنا مشدودة إليك، ثمّ شرعت في تشجير الجملة بتلك الرّموز التي تبدو لي كطلسم ملغوم. قرأتَ دهشتي في عينيّ، فشرحت لي كيف أنّ النحو سهل وممتع جدًّا، فقط بسبب نظرتنا القدحيّة له وهروبنا منه وأحكامنا المُسبقة عنه يبدو شيئًا معقدًا وهو ليس كذلك. أعجبت كثيرًا بطريقة شرحك في تلك اللحظة الوجيزة، وطلبتك أن تراجع معي بعض الدّروس في مادة النحو والتركيب. قبلت طلبي بعد لحظة صمت قصيرة، لست أدري ماذا دار فيها بينك وبين نفسك، ثم حددت لنا موعدًا يوم غد بقاعة المطالعة الجماعية في الجناح الثّاني للخزانة.
بعد حلول الموعد الذي ضربته لي، بتُّ أفكر فيك، قلتُ أنبت الله في طريقي من يأخذ بيدي ويعينني على أمور الدّراسة حتّى أستطيع الخروج من هذه المتاهة التي دخلتُ فيها رغمًا عنّي، اتقاء سخط أخي الأكبر وأسرتي، واتقاء شرّ ألسنة الناس. ولم أكن أعلم وقتها أن صنفين من الطّلبة يجذبان الطّالبات إليهما: الوسيم والمجتهد!
وجدتك حاضرًا قبلي إلى الخزانة وركنتَ إلى كتبك وحاسوبك في ركن القاعة، شخصت أمامك، لم تقف، فقط صافحتني جالسًا وأمرتني بأن أتفضل بالجلوس. قبل أن نبدأ المراجعة بادرتُ بتعريف نفسي دون أن تطلب ذلك: اسمي هاجر متوكل، هذه سنتي الثانية بالجامعة في شعبة اللغة العربية. أظنّك أيضًا في الشّعبة نفسها. أجبت في ثبات وباقتصاد: أنا وديع مِفضال، مجاز في الأدب العربي، طالب باحث بالسّنة الأولى من سلك الماستر تخصّص مهن الكتابة والصّحافة.
بعد ساعتين تتبعت فيهما شرحك المفصل والمفيد، استفدت منه ما لم أستفده من أستاذ المادة المحاضر في مدرجات الكلية المزدحمة، استأذنتك في الانصراف بعد شكري وامتناني لك كي لا يفوتني موعد الحافلة التي أستقلها من البيت إلى الكلية. قبل أن أنصرف فكّرت، وطلبت منك أن أرافقك في طريقك إلى الخزانة في المرّة القادمة وأن ألجأ إليك بين الفينة والأخرى لتساعدني إن احتجت مساعدة، قبلت طلبي بصدر رحب وأطلعتني على برنامجك اليومي الذي خصّصته للخزانة. اكتشفت من خلاله أنّك طالب منظم ونبيه، تحمل كلمة طالب بما تتضمنه من معنى، وهذا سرّ تفوّقك كما تأكّد لي بعد ذلك. كانت لتلك المسافة التي نقطعها كل ثلاثة أيام في الأسبوع بين الكلية والخزانة فضل كبير في أن أستفيد منك، وأن أتقرّب منك كثيرًا.
كنت حينها لا تتحدّثُ إلا عن الدراسة والكتب وشؤون الثقافة، وكم كنتُ أكرهها؟ لكن حبّي لك يتركني أستسيغ الأمر. أخبرتني ذات نقاش أنك مولع بالأدب وأن لك محاولات في كتابة القصّة والمقالة، تنشر بعضها على صفحة فيسبوكيّة خاصّة بك، وبعضها في جرائد ومجلات وطنية وعربيّة.
سألتك ذات مرّة ونحن في طريق العودة من الخزانة عن سبب اختيارك لشعبة اللغة العربيّة فأجبت: كنت مولعًا بهذه المادة مذ كنت تلميذًا في الابتدائية، كان معلّم اللغة العربية يحثّنا على القراءة، يأتينا كلّ يوم بقصص جحا، ومجلّة العربي الصّغير ومجلة ماجد، نتبادل المجموعة والأعداد فيما بيننا نحن تلاميذ الفصل، كنت مولعًا بالأفلام التاريخية والرّسوم المتحرّكة باللغة العربية. وفي السّلك الاعدادي حظيت بالتّلمذة على يد أستاذ للغة العربية كان لي قدوة في الأخلاق والعلم. منذ هذه الفترة وأنا أحلم أن أصير مدرّسًا للغة العربية رغم أن مستواي فيها لم يكن بالجيّد، لكن حبّي لها كان عظيمًا، وبعد حصولي على الباكالوريا تسجّلت بشعبة اللغة العربيّة لأحقّق حلمي. والأولى من كلّ هذا أنّ الأدب كان سببًا في ترميم دواخلي التي تهشّمت ذات عمر، فقرّرت أن أدرس الأدب وأبحر فيه.
أدركت حينها أن هذا سرّ من أسرار تفّوقك ونجاحك، فاختيار مسار ما عن حبّ وقناعة خطوة أولى نحو النّجاح فيه، وهذا ما لم يحصل معي للأسف.
بهذه الشّخصيّة الفريدة أصبحت لغزًا بالنّسبة لي يا وديع، أصبحت لغزًا لأنّك تدسّ في أجوبتك أشياء تخفي من ورائها الكثير، أدركت حينها أنّك لست شخصًا عاديًّا، لهذا أخذت زمام المغامرة لسبر أغوارك والنفاذ إلى أعماقك لأعرف عنك الكثير، ولم أكن أعلم أن هذه المغامرة ستجرّني إلى متاهات لن أستطيع الخروج منها.
لست أدري كيف فكّرت في أن أتجسّس على صفحتك في الفيسبوك لأتتبع كتاباتك، ولم أكن أعلم حينها أن الكتابة هي العالم الأقرب لذات الكاتب، وأنّ القراءة طريق لاكتشاف فلسفته ورؤيته للأشياء وللعالم. لم يكن شيئا من هذا غير الفضول.
أخذت الصفحة طريقًا إليك، وفي نصوصك أبحث عن مفتاح لولوجك. رغم أنني طالبة بشعبة اللغة العربية، فإنّني لم أقرأ قط كتابًا أو رواية أو ديوانًا شعريًّا أو حتى جريدة، عدا نصوص المطالعة التي كنت أقرأها في المقررات الدراسية كما أخبرتك ذات لقاء. حتّى الروايات التي تكون مقررة في مختلف الأسلاك الدّراسية لم أكن أقرأها، وأكتفي فقط ببعض الملخصات التي تعجّ بها مواقع الشبكة العنكبوتية، هذه الآفة التي أسهمت في «تكليخنا!»
انسقتُ وراء نصوصكَ التي ألهمتني كثيرًا، التهمها في نهم، أتابع تغريداتكَ بفضول كبير. كان جلّها يلفه الحزن والألم وقليل من التفاؤل والأمل بين الفينة والأخرى. لا زلت أذكر بعض عناوين نصوصكَ أو مقتطفات منها: جراح لن تندمل، الوجع، مخاض عسير، طفولة يتيمة، الأُفُول، وليمة بكاء، خيوط الشمس، على شفى الحلم... أدركت من خلال هذه النّصوص الشائكة الشائقة حجم الخراب الذي عشته، وشدّة الحزن الذي عشعش بداخلك. كنت أجد صعوبة كبيرة في فهم معانيها وفكّ رموزها ربما لعدم تمرّسي على قراءة النصوص ومحاورتها، أو لصعوبة أسلوبك المعقّد الذي تكتب فيه كثيرًا بضمير الغائب، وبالإشارات والرّموز، كانت تتطلّب منّي جهدًا كبيرًا، أقرأ وأعيد لعلّني أجد فيها رأس خيط السرّ أو مفتاحًا لولوجك.
أخبرتك أنني سجّلت إعجابي بصفحتك وأنّني أطلع على محاولاتك في الكتابة. أبديت لك إعجابي بها، وأنها نصوص تستحق القراءة، يمكن اعتبارها كتابات لها وزنها وليس محاولة كما صرّحت. كانت ربّما مجاملة منّي، لست أدري، فحمّلتني ما لا طاقة لي به أن طلبت منّي تدوين ملاحظاتي وارتساماتي عن نصوصك التي قرأت. لا أخفيك كم أربكْتَنِي يا وديع، دائمًا أرفض القيام بشيء يُفرض عليّ، ثمّ إنني كنت أجد صعوبة كبيرة منذ سنوات الدّراسة في تحليل النصوص الأدبيّة والتعليق عليها أو انتقادها، كنت أعتمد على الحفظ والتّقليد كالببّغاء دون أي إبداع أو نقد أو تعبير عن رأي شخصي، وهذا ما ربّتنا عليها المناهج الدراسية الكميّة ومؤسساتنا التعليمية العقيمة. رغم هذا، ولأنك شخص مميّز بالنسبة لي، تقبّلت طلبك رغم ثقله عليَّ؛ لأنني أبدو نملة أمام ثقافتك.
لجأت إلى طريقة سهلة بالنّسبة إليَّ، مفيدة بالنسبة إليك، أقرأ وأدوّن أسئلة، أناقشك فيها بين الفينة والأخرى كلّما كنا في طريقنا إلى الخزانة، لم تكن نيّتي من ذلك انتقادك أو مناقشتك، وأنا متأكدّة أنك كنت تعلم هذا؛ لأن مثل هذه الأمور لا تخفى على أمثالك، وإنّما كان هدفي معرفة بعض الأشياء عنك. أذكر أنّ أول سؤال استفتحتك به كان: لماذا تحتفي جلّ كتاباتك بتِيمَتيْ الحزن والألم؟
وقفت صامتًا أمام هذا السّؤال، كنت أعرف أن صمتك ليس عجزًا، لكن كما كنت تقول: كثير من الأسئلة لا تسعفنا اللغة في صياغة أجوبة دقيقة لها. بعد قليل من الصمت أجبت: ليس بالضّرورة كل ما أكتب يعبّر عنّي، أحيانًا أكتب عمّا أحسّ به بارتداء أقنعة، وفي أحايين كثيرة أكتب بصوت من لا صوت لهم؛ فالكاتب أولًا هو حامل همّ وصاحب قضيّة.
كنت بالنّسبة لي ظاهرة وليس قضية، ظاهرة اجتماعية ونفسية وأنثروبولوجية تستعصي على الفهم، وكم ضحكت؟ وقليلًا ما كنت تضحك، حين قلت لك مازحة: سأجعلك موضوع بحثي لنيل الإجازة.
شيء ما أثار انتباهي بعد تقرّبي إليك، ففكّرت أكثر من مرّة أن أسألك لماذا تذهب وتجيء وحيدًا، لا يصحبك صديق أو صديقة في الدّراسة وكأنك لا تملك أصدقاء! وحين قرأت مقطعًا من نص نشرته على صفحتك بعنوان أنيس الوحدة، تأكّد لي أن سؤالي وجيه وعليّ طرحه رغم ما يحمله من فضول.
أخبرتني أنّك عبدٌ للوحدة، ليس لك أصدقاء رغم كثرة الذين تعرفهم، وأنك لم تعد تثق في أحد! تسرّب إليّ ظن بأنك تعرّضت لخيانة من أحد أصدقائك أو أقاربك، لم تبح لي بشيء، فقط أخبرتني أنّ الوحدة والعزلة تلهمك. حين ألححتُ عليك في السؤال، لماذا لم تتخذ من معارفك أصدقاء لك؟ أخبرتني عن صديقك الوحيد الذي خذلك فابتعد عنك، إن حقًّا لك أن تعتبره خذلانًا.
تذكّرت صديقي الذي لست أدري أين قذفت به أمواج الحياة؟ كان صديقي الوحيد الذي وهبه لي رحم الحياة. أحد أبناء قريتي الصّغيرة تعرّفت عليه في المرحلة الابتدائية، ثمّ واصلنا مسيرتنا الدّراسيّة معا جنبًا إلى جنب نحتل الرتب الأولى على التوالي حتى بلغنا الجامعة دون أن نفترق يومًا. تسجلنا في الشعبة نفسها في كلية واحدة بمدينة واحدة، يقاسمني كلّ كبيرة وصغيرة، ينصحني إذا هاويت، ويأخذ بيدي إذا ضللت، ويمد لي يد المساعدة إذا سقطت، وأنا كذلك، كان توأم روحي وكاتم أسراري. مررنا خلال سنوات الجامعة الأولى بفترات عصيبة بعد بعدنا عن القرية والأهل لضيق الحال وقّلة الشيء. ورغم نقاشاتنا المتكرّرة كما يحدث بين الأصدقاء، بل بين الأزواج والإخوة والآباء والأبناء، فلم تفرّق السّبل بيننا. فجأة وبدون سابق إخبار، بدأت أحس محاولة ابتعاده عنّي، حاولت أن أكشف عن شيء ربمّا اقترفته في حقّه دفع به إلى الاشمئزاز منّي. حين فشلت في ذلك، سألته عن سبب جفائه، فاكتفى بالتبرير أنّه يمرّ من فترة عصيبة وسيتجاوزها. تفهّمت الأمر لأنّنا أحيانًا نحتاج الهروب إلى ذواتنا بعيدًا عن العالم لنتصالح مع أنفسنا ونعيد ترتيب الكثير من الأوراق. بعد ثلاثة أيّام لم ألتقه على غير العادة، مدّني بورقة بعد خروجنا من المسرح بعد مشاهدة عرض مسرحي وقال لي: هنا تجد جوابًا عن كلّ الأسئلة التي سألتني، ثم انصرف بمفرده متأبطًا قلقه.
قرأت رسالته في الطّريق دون انتظار بكل حزن وأسى، أدركت من خلالها أنّه كلّ من مرافقتي، وأنّي أحرمه من أشياء كثيرة، كما جاء في رسالته التي ما زلت أحتفظ بها: لا يكون لاختياري وهروبي إلى عالم الوحدة ركبًا للإهمال والنسيان، بل رحت أبحث عن نفسي، عن الحلقة المفقودة في الحياة، رحت أبحث عن الذي يمكن يومًا أن أخسره غدًا.
بعدها لم نعد نلتقي إلا في بعض المناسبات القليلة، نكتفي بالسلام والسؤال عن الأحوال ولا نتعداه إلى السؤال عن شيء آخر، وبعدها غاب بالمرّة شاقًّا طريقه نحو الوجهة التي اختارها. أذكر وعدنا الذي قطعناه معا ألا نفترق عن بعضنا حتّى نحقّق أحلامنا التي رسمناها معًا، وألا تفرّق بيننا فتاة مهما بلغ الأمر، كنّا نسمع من الذين سبقونا أن علاقات الحبّ والعشق متاحة بسهولة هنا بالمدينة وفي فضاء الجامعة، فقطعنا مع هذه الأشياء منذ البداية، تواضعنا عليها كي لا نفتح بابًا يمكن أن يبعدنا عن بعضنا أو أن يصرفنا عمّا نحن مغتربين لأجله، لكنّه نقض العهد.
علّمتني كل المواقف التي وضعتني فيها الحياة أن أجعل في كلّ علاقاتي بين الذين تفرضهم الظروف علينا الالتقاء بهم أن أترك مسافة أمان واسعة؛ لأنها تقينا الكثير من الصّدمات، وهي قابلة للتقصير أو التّطويل، أطوّلها كلّما أحسست بخطر مُحذق، وأقصرها كلّما اطمأننت لذلك. لهذا جعلت في البداية بيني وبين هاجر مسافة أمان رغم ادعائي من قربي لها، ولذلك كنت أتحاشى اطلاعها على كلّ شيء لفقداني الثّقة في أقربائي، وبعدما اطمأننت إليها وقرّبني منها الفقدان والحاجة، بدأت أخبرها بكلّ شيء، رغم أن أشياء كثيرة أحتفظ بها لنفسي ولا أبديها لها.
أعلم يا وديع أن الطيبين حين يخذلون ينصرفون بجرحهم في صمت دون ضجيج مرّة واحدة فقط، دون ترك فرصة أخرى للخذلان أن ينال منهم... هنا بدأت أشفق عليك وأخشى عليك من سلطان الوحدة الذي أسرك، فقرّرت محاولة انتشالك منها لعلّني أستطيع إلى ذلك سبيلًا. كانت هذه أول كوّة ضوء ظهرت لي على سورك الحصين، ستساعدني لكي أطلّ على أعماقك وأكتشف ما بدواخلك.
كان هدفي مرسومًا، وكنت مشروعي الذي بات يشغل تفكيري أكثر من أي شيء آخر. لتنفيذ قراري، اقترحت عليك أن نلتقي خارج أسوار الخزانة وأن نخرج بين الفينة والأخرى من مستنقع الكتب والدراسة ونقاشاتها التي لا تكلّ منها ولا تملّ. تردّدت في البداية بحجّة واهية هي أن برنامجك اليومي كثيف، وأن وآخر أيام الأسبوع تخصصها لشؤون البيت أو مشاهدة بعض الأفلام بالمنزل. أعلم أنّك تتهرب من ذلك لأنك اتخذت موقفًا سابقًا، والذي كنت أحاول أن أوصله إليك أن بعض المواقف تحتّم علينا أن نعيد النظر في بعض القناعات والمبادئ التي نتّخذها وهذا ما لم ترد أن تستوعبه. حاولت معك أكثر من مرّة لتعطي لنفسك حقّها من الراحة وتروح عنها وتجدّد من حيويتها، ثم دلّلت كبرياءك أخيرًا بعد إلحاح طويل وقبلت طلبي.
آه كم كنت تتعبني في إقناعك بشيء يا وديع، كنت أمرّغ وجهي في التراب كي أقنعك، لم أجد أكثر منك عنادًا وأكبر منك رفضًا.
بدأنا نخرج بعيدًا عن أسوار الخزانة التي تجمعنا وطريقها الذي يحتضن نقاشاتنا. عرّفتك على أماكنَ في المدينة لم تطأها قدمك قط، رغم مكوثك الطويل بها وتردّدنا على حدائق كثيرة لم تكن تحسب أنها موجودة بها. اعترفت لي أن ذلك يكسبك نفسًا جديدًا للتأمل والكتابة، رغم أنّك تكون أكثر إلهامًا في حضرة الوحدة. أكّدت لي بهذا الاعتراف أنني في الطريق الصحيح إليك وأني باستطاعتي الوصول إليك. أصبحت أنت أول اهتماماتي وأهم شيء بالنسبة لي، حتى من تلك الشهادة التي أنا مقبلة عليها.
بعد لقاءات قليلة خارج إطار الدراسة والكتب والبحث، بدأت ألمح انعطافًا واضحًا في كتاباتك التي تنشر مقاطع منها على صفحتك في الفيسبوك، وأضحت لقاءاتنا وأحاديثنا أيضًا من أهم موضوعاتك وأبرز تيمات نصوصك.
قرأت ذات اطلاع على صفحتك مقتطفًا من نص لم تضع له عنوانًا كعادتك، حملت نفسي على صبر أغواره علّني أجد فيه خيطًا لفهم شعورك. كنت تتحدث فيه بلغة فلسفية استعصى عليّ فهمها، لكن وجدت عبارة فهمت من خلالها أنّك عشت قصّة حبّ قديمة لايزال أثرها في قلبك محفورًا.
سافرت إلى فيافي الذّاكرة لعلني أتذكر هذا النص الذي استوقف هاجر يومها أكثر من غيره. تذكرت مذكرتي التي كنت أسوّد بياض صفحاتها ببعض الخواطر التي كنت أحشر فيها بعض مواقفي وتأملاتي، وأدسّ فيها بعض أحاسيسي ومشاعري بين الفينة والأخرى، أحتفظ بها لنفسي ولا أطلع عليها أحدًا، فقط أودعها البياض؛ لأنه أهل للائتمان عليها.
وضعت الكتاب على المكتب وقصدت قمطرًا أسفل خزانتي خبّأت فيه بعض الذكريات؛ صور لبعض ذكريات الطفولة، وبعض التذكارات وقارورات العطر وأشياء أخرى، كانت هدايا رمزية من هاجر. أخرجت تلك المذكرة التي حشرتها مع هذه الذّكريات بعدما كنتُ أتحاشاها حين تركتني هاجر؛ لأنها تبعث من رماد الماضي ذكريات أصبحت مؤلمة بالنسبة لي، ولا تبعث إلا على الحنين واليأس والنّدم...
طفقت أبحث عن هذا النص الذي ذكرته هاجر لأقرأ تفاصيله بدقة. كان نصًا كتبته إلى طيف عائشة الذي لا يفارقني في كلّ وقت وحين، رسالة كتبتها إلى طيفها أخبرها فيه أنني تورّطت في شيء ما يشبه الحبّ وأعلن لها أنني في طريقي إلى نقض ذلك العهد القديم الذي قطعناه معا رغم أنها نقضته قبلي ومنذ زمن بعيد.
عائشة هذه، كانت أول فتاة أحببتها بصدق، خطفت قلبي من أول نظرة إليها في ساحة المدرسة، كان حبًّا طفوليًّا بريئًا لكنه صادق، ظللت أكتمه في قلبي ست سنوات، ست سنوات من الألم والانتظار والكتمان، أنظر إليها وأتأملها من بعيد ولا أستطيع أن أكلّمها حتّى. فتاة بدوية وديعة، تأسرني عيناها كلما سرقت نظرة إلى وجهها الصّبوح. كانت نظراتها تشبه نظرات أختي الوحيدة التي ماتت غرقًا أمام عيني في سنّها الثالثة على ضفاف الوادي القريب إلى منزلنا الطيني بالقرية. أذكر آخر نظرة رشقتني بها وهي تستنجدني والمياه تجرفها إلى العمق إلى أن توارت عن ناظري ولم أستطع فعل شيء غير الصّراخ.
حين كبرت قليلًا، وكبرت عائشة أيضًا، لم أعد أستطيع كتم ما أحسّه تجاهها، كتبت أول رسالة حب صادقة حشدت بها مشاعري تجاه عائشة، لكن لم أستطع أن أمدّ إليها الرسالة أو حتى أن أقترب منها، فظلت الرسالة معي أحملها في جيبي كلما قصدت المدرسة ثم أرجعها وأدسها وسط حقيبة ملابسي حتى لا يعثر عليها أحد. أذكر أنني تشاجرت مع أخي الأكبر شجارًا عنيفًا ذات مرة حيث وجدته يفتش ملابسي. مزّقت تلك الرسالة بعدما ذبلت تلك الورقة ولم أجد سبيلًا لأبوح بحبّي لعائشة. ما مرّة فكّرت أن أجعل إحدى صديقاتها أو أحد أصدقائي رسولًا بيننا، لكن أي خوف هذا الذي يتملكني تجاهها؟
عثا فِيَّ كتمان حب عائشة لسنوات طوال فسادًا، فقرّرت أن أطلع أمّي على سري بعدما تردّدت أكثر من مرّة. لم أتوقّع جوابها خصوصًا في هذا الموضوع الذي كان عليها أن تكون حكيمة في التعامل معي، وما أكثرها العقد النفسية التي تربت فينا منذ الصغر بمجرّد خطأ بسيط في التواصل أو بسبب غياب ثقافة الحوار وكيفية التعاطي مع المواضيع والقضايا الحسّاسة. خاطبتني أمّي خطابًا عنيفًا، لست أدري أَلِحِرْصها على مصلحتي أم أن ذلك كان عقابًا بسبب ذنب عظيم اقترفته أو سأقترفه!؟ أكّدت لي أن كتمان حبّي لعائشة والخوف من نتائج البوح به كان سيجرّني نحو متاهات كبيرة في هذا المجتمع المريض الذي يعتبر الحبّ جريمة والعلاقة بين الذكر والأنثى عيبًا وعارًا إن هي خرجت عن نطاق الزواج. أي مجتمع هذا الذي يكرّس فينا منذ الصّغر هذه الثقافة التي تصيبنا بإعاقة في الأحاسيس والمشاعر بذريعة العيب والـحشمة. صرخت أمّي في وجهي ووبختني لأبتعد عن هذه الخزعبلات وأركّز على دراستي لأنها لا تقدر على مشكل أو فضيحة، بدعوى أنني لم أصل بعد سنًّا تسمح لي التعاطي مع مثل هذه المواضيع، وكنت أتساءل وقتها ما علاقة السن بالمشاعر؟ أمرتني أن أنسى أمرها منذ ذلك اليوم، وطمأنتني بأنها ستزوجني أحسن فتاة ستنسيني هذه الـ «العائشة».
تأكّد لي حينها أن الحب في قريتنا غير متاح وأن لا مجال للتعبير عن المشاعر تجاه أنثى فيها. شكَّل لي هذا الكتمان وهذا الألم عقدة نفسية ظلّت تلازمني وتكبر معي حتّى اليوم. جرّاء كلّ هذا حملت نفسي على أن أعلن حبّي لعائشة ثورة على هذه التقاليد التي تجرّم الحبّ وتقمع المشاعر. تعرضت لعائشة ذات مساء حين عودتها من المدرسة بعد أن اقتنصت فرصة تفرّدها، وبُحتُ لها بإحساسي تجاهها. وما انتظرت أنها كانت تبادلني الشّعور نفسه وأنها تكتم مشاعر الحب تجاهي، هي أيضًا وطالما انتظرت بوحي إليها لكوني ذكرًا؛ فالذّكور قوّامون على الإناث حتّى في البوح بالمشاعر. أحسست حينها بالنّدم على كل هذه الفترة التي لم أجرؤ على البوح بصدق ما أكنّه لها من حبّ. كانت تدرك حجم الخسارة التي ستنالنا لو ذاع سرّنا في القرية. لذلك اشترطت أن نكتم ما بيننا وأن يكون حبّنا حبًّا سريًّا.
بعد ذلك المساء، سرقنا موعدًا خاطفًا بعد العودة من المدرسة بعيدًا عن القرية تحت شجرة طلح وارفة الظّلال، شامخة تصارع جفاف أديم الأرض القاحلة، علمتُ أنّ هذا اللّقاء تحت هذه الطّلحة الشّوكيّة مؤشِّر على حياة مفترشة بالأشواك والعقبات، وقد حدث فعلًا. أمعنّا النّظر إلى بعضنا، بعدها طبعت عائشة قبلة حبّ على يدي، كانت أول قبلة حبّ وأول حبّ، لم أجرؤ يومها على طبع قبلة على يدها كما فعلت، ولست أدري ما الذي وقف حاجزًا حينها أمام ذلك؟ أهو الخوف أم الخجل أم الحياء أم صدقُ الحب؟ غمرتني أمنًا وهي تضمّ يدي إلى صدرها، وزرعت في بذور الأمل وقطعت لي وعدًا بأن نكون لبعضنا مهما طال الزمن، وتواعدنا بأن لا يخون الواحد منّا الآخر.
بعد هذه اللحظة التي ظلّت موشومة في ذاكرتي بكل تفاصيلها، لم تكن سوى لقاءات العين وخطاب الإشارة في ساحة المدرسة بين أقراننا من أطفال القرية الذين يترصدون كل هفوة من أجل أن يذيعونها بين آبائهم وأمهاتهم لتنتشر في أهل القرية كانتشار النار في الهشيم. تصيّد زلاّت الآخرين وتتبع عيوبهم والبحث بفضول في شؤونهم أشياء تُربّى فينا منذ الصّغر، وذنبنا أنّنا ضحيّة مجتمع مريض فرض علينا ثقافته وعاداته الفاسدة التي ابتدعها وأقرّها دستور يعتبر الخروج عن سننه جريمة، يكونون لها بالمرصاد ويعيشونك في العذاب الأليم، أخفّه لوك الألسنة عنك.
كثير من الخطوات التي قد نقبل عليها في هذه الحياة قد نؤذي بها الآخرين ونتركهم في جحيم لا يطاق مدى حياتهم دون أن نعي ذلك. حين بلغت عائشة سنها السادسة عشرة، أي بعد سنتين من ذلك اللقاء الذي ظل محفورًا في ذاكرتي بأدقّ تفاصيله، زفّها أبوها زوجة إلى ابن أخيه دون علم منها أو مشاورتها حتى، فسلطة الأب في القرية لا تعلوها سلطة، وأي أمر دبّره ولو فيه ضرر للعالمين أجمع عليه أن ينفّذ، وهو من يقرّر مصير كل أبناء صلبه وأحفاده، وكل من نصّب نفسه إلهًا عليهم، فأي تجبر وتسلط بعد هذا؟!! في قريتنا، بإمكان الأب وأخيه أو صديقه، أو الأم أو أختها وصديقتها أو جارتها أن يطبخا طبخة في زريبة داخل سوق أو داخل بستان أو في المراح على صينيّة شاي تخصّ مصير أبنائهم وبناتهم تحت ذريعة هم أدرى بمصلحتهم! أو تحت ذريعة خيرنا لنا لا لغيرنا وإن كان في ذلك قبر لحياتهم، يا للحماقة!!
ذاع الخبر في القرية، وغادرت عائشة مقاعد الدراسة حيث كنا ننظر إلى بعضنا ونطمئن على حبنا الذي لا يعلمه أحد سوانا. رُتّبت الأمور في الخفاء على نحو سريع، وأقيم حفل زفاف عائشة. في الليلة المشؤومة تلك، وقد كنت وقتها أهذي جراء شرّ ألمّ بي لا أستطيع وصفه، قرّرت عائشة أن تضع حدًّا لحياتها لتقلب حفل زفافها موكب عزاء بعد أن أدركت أنّها ستعيش في جحيم مع رجل فُرض عليها قسرًا ولم تختره، فاختارت العيش في جحيم الآخرة على جحيم الدّنيا.
كانت أسوأ ليلة في حياتي بعد اليوم الأسود الذي جرفت فيه سيول الوادي جسد أختي مريم. تفاقمت أزمتي ليلتها بعدما وصلني خبر الفاجعة، دخلت على إثرها في أزمة نفسية حادة غبت بسببها عن هذا العالم، ولم أذكر شيئًا مما حدث في تلك الليلة بعد الفاجعة. كانت ثاني أزمة نفسية أمر بها بعد فاجعة مريم، غادرت بسببها مقاعد الدّراسة، وجعلت النّاس يقولون إنّي صرتُ أحمق أو أنني أصبت بمسّ من الجن دون أن يدرك أحد ما كان بيني وبين عائشة غير أمّي التي جمعت أشلائي وطفقت تجوب بي الأضرحة والفقهاء والأولياء الصالحين رفقة جدّتي طلبا لشفاء مرضي.
كثيرًا من الخيبات التي نمرّ بها تدفعنا للكفر بكثير من المبادئ التي كنا نؤمن بها. بعد شهور لست أدري ماذا حل بي خلالها نتيجة الصّدمة، استعدت عافيّتي وعدت في الموسم الآخر إلى صفوف الدراسة شخصًا آخر غير الذي كنته. تشكّلت لدي عقد نفسية تجاه ثقافة المجتمع الذي أعيش فيه، وعقد نفسيّة تجاه الجنس الآخر.
بعد حبّ عائشة، لم يمِلْ قلبي إلى فتاة غيرها. رغم موتها، لازال قلبي يحمل الشعور نفسه اتجاهها، ظلت صورتها الممزوجة بصورة مريم لا تفارق عيني، ولازال العهد الذي قطعته إليها يثقل كاهلي. رغم الوساوس التي كبرت معي ولا تفارقني، لم أعتبر انتحار عائشة هروبًا من جحيم حياة ستعيشها، بل اعتبرته أرقى وفاء للعهد الذي كان بيني وبينها، حتّى وإن كان خطأً، كنت أوهم نفسي بعكس ذلك؛ لأن الوهم أحيانًا يكون جرعات مساعدة على التخلص من كثير من الحقائق...
حملتني هذه العاصفة التي مرّت بي على رفض ثقافة قريتي التي عشت فيها أيامًا لا رحمة الله عليها. ودفعتني بذلك إلى تغيير الّأفكار الفاسدة التي عششت في فكري، فاقتحمت عالم الكتب وجعلته طريقًا أسلكها لفهم كثير من الظواهر الاجتماعية والنفسية لتغيير ذاتي. هنا بدأت علاقتي مع الكتب، قرأت الشّعر والفلسفة وعلم الاجتماع، وعشقت الفنّ والموسيقى. وجدت في شعر مجنون بني عامر أنيسًا مؤنسًا، حفظت الكثير من شعره عن ظهر قلب، أردده وكأنه دواء يعالج سقمي. ألتهم شعره كل مرة وأعيده دون كلل ولا ملل، أحببت شعره؛ لأنه يتحدث بشعوري بدلًا عنّي ويشاركني ما أحسّه، دفع بي حبّ شعره إلى مطالعة قصّته، أدركت كم أنّ الحبّ الصادق كثيرًا ما يواجه بالرفض، وأنّه لا يجلب سوى المتاعب، فالإنسان مجبول على حبّ الكذب والنّفاق. عشقت فكر هذا الرجل كضحية مجتمع يجرّم الحب الصادق ولا يقدّر المشاعر الإنسانيّة كما حصل معي، مجتمع لا يرى في الحبّ إلا النّكاح في إطار علاقة تقنّن بعقد يبرّر هذه الممارسة ويزيل عنها صفة الاغتصاب، وهو اغتصاب للطفولة وللحياة أولًا قبل شيء آخر.
ظلت عائشة تسكن روحي ووجداني كلّما تقدّم بي العمر، لا يفارقني طيفها في كل وقت وحين. أشكو إلى طيفها آلامي كل وقت وأكتب إليها رغم أنّ ما أكتبه إليها لا يصلها وكأنّها تسمع أنّاتي وتحسّ آلامي.
بعد عائشة، لم أستطع أن أحبّ فتاة أخرى، وكأنها أوصدت أبواب قلبي يوم دخلته بسبب تلك النظرة التي تذكرني بمريم دائمًا وانصرفت إلى مثواها الأخير. رغم رحيلها عن هذا العالم المشؤوم، لم يفارقني طيفها. كنت أخال نفسي مريضًا، وأحاول تفسير هذا الشّعور الذي يؤرقني ويقض مضجعي حتّى وجدت في قول ألبير كامي الذي أحببت كتاباته جوابًا لسؤالي: الإنسان يعشق مرّة واحدة بصدق فقط، غيرها لا يمكن أن يحبّ بالدّرجة نفسها ولو ادعى ذلك.
الوعد الذي قطعته لعائشة ظل كجبل على رقبتي لم أستطع نقضه؛ لأنها ضحّت بحياتها وفاء للعهد. كلما أقدم على التفكير في نقضه أتذكر ذلك اللقاء وتلك القبلة فأعود إلى صوابي أو حمقي، لست أدري! لذلك قرّرت أن أصوم عن الحبّ رغم رحلتي الطويلة في القراءة عن الحب وعن العشق وقصص العاشقين والمحبين في مختلف الثقافات.
لست ملاكًا حتّى أدعي أنه لا يحرّكني شعور تجاه أنثى، كثيرات هنّ اللواتي تجذبني إليهن العين إما لجمالهنّ أو خلقهنّ، لكن مرّة واحدة فقط نحبّ بصدق، بعدها لا يعدو ذلك سوى ادّعاء وكذب ولو تظاهرنا بغير ذلك، وأوّل حبّ صادق لعائشة، فأي حبّ بعده سيكون؟
كنت أردد دائمًا إلى متى سأظلّ وفيًّا لعهد عائشة؟ وهل هو حقّ عهد بهذا الحجم وهذا الجلل الذي أتصوّره؟ كلّما تقدّم بي العُمرُ يكبر معي هذا السّؤال، وأعمّق التفكير فيه أكثر من المرّات السابقة.
شققت طريقي وحيدًا مهزومًا مكلومًا ورافضًا لكل ما يُفرض علينا، نأتي إلى هذا العالم الذي يملأه الشؤم صفحة بيضاء لكن المجتمع الذي نعيش فيه يربي فينا كثيرًا من الحقد واليأس والألم والكفر ويفسد صفاءنا ونقاءنا. خلال هذه الفترة بعد خيباتي الكبيرة، غرق مريم وزواج عائشة ومرض أمّي، وقبلها انتحار أبي بعدما قذفني في رحم أمّي، لم أجد غير صديقي الوحيد الذي كنت أشاركه بعضًا من همومي وأسئلتي الفلسفية المحيّرة. عدا صديقي هذا لم تكن علاقتي بكل المحيطين بي سوى علاقة سطحية بينها مسافة أمان طويلة، طالما آمنت أنّ البعد عن أسود الرّأس يقينًا كثيرًا من المشاكل. حين ابتعد عنّي صديقي الذي عاش أيضًا خيبات وهزائم مثلي، واصلت الطريق نحو حلمي الذي سأهزم به كثيرًا من العادات الفاسدة كما كنتُ أتوهّم، وفي قلبي هكذا هزائم وخيبات.
مرضت بالسّؤال أكثر من أي وقت مضى، ابتعدت عن العالم الذي عشته فيه اليأس والحرمان وأصبت فيه بأزمات نفسية تفاقمت وخلّفت في نفسي حمَمًا من البركان. أمام مرضي بالسّؤال هذا، وأمام فراق صديقي وتفكيري الكبير في وفائي لعهد عائشة الذي يثقل كاهلي ومرض أمّي المزمن، انبثقت هاجر في طريقي وكأنّ القدر ساقها إلي لتقلب حياتي رأسًا على عقب وتؤكد لي أنني ما خلقت إلا لأهزم، وأن كثيرًا من الخيبات لا تزال تلاحقني.
ذلك النصّ الذي كتبته، والذي ذكرته هاجر في كتابها، كان نتيجة هذه الأزمة التي مررت بها، كنت في حاجة إلى من يخفّف عنّي حُزَم الهموم التي أثقلت كاهلي. وأمام خوفي الذي ظل يلاحقني منذ انتحار عائشة، كتبت إلى طيفها رسالة فلسفية بأسلوب الرافعي الذي تعلّمنا من كتاباته، أستنجدها وأنا على وشك أن أنقض العهد الذي بيننا؛ لأنني لم أعد أطيق كلّ هذا الجحيم وهذا النّحس الذي يلازمني، لا أخت لي تحن عليّ ولا أم منذ ابتعدتُ عنها إثر أزمتي النفسيّة تجفّف دموعي، ولا أخ تربطني به علاقة أخوّة صادقة، لا حليبَ ثديٍ كالتي بيني وبين أخي الوحيد، ولا خليل لي بعدما خذلني صديقي الذي كنت ألجأ إليه كلّما أحسست بضيق. ولأنني أحسست باهتمام من هاجر بعدما جمعتنا الصّدفة أو القدرة الإلهية أو إرادة الطبيعة، لست أدري، بسبب ذلك العرض حول النحو التوليدي، اهتمامًا لم توله إلي من حملت بي تسعة أشهر، مال قلبي إليها، والنّفس تميل لمن تدلّلها وكم كانت هاجر تدلّلني؟
بعد كل هذا الجحيم الذي مررت به، كانت هاجر تسألني كلّ مرة عن سبب شرودي الكثير، وعن سبب وجهي العبوس الذي لا تعرف الابتسامة إليه طريقًا إلا لمامًا.
أعدت قراءة هذا النصّ الذي أشعل فتيل الذاكرة بداخلي، ودفعني إلى تصفّح ملفّات قديمة في قِمطر الذاكرة، واكتشفت فيه أشياء لم أحسّها يوم كتبته، ثمّ عدتُ لأتمم كتاب هاجر حيث توقّفت:
لم أسألك مباشرة هل كانت لك علاقة حبّ بأنثى من قبل؟ بل جعلت السؤال مهذبًا فسألتك عن نظرتك للأنثى أو إلى الجنس اللطيف، بعدما استرجعت التعريف المختلف الذي قدّمته للحب. بعد صمت طويل، كعادتك، والذي أحاول دائما تفسير سببه، أجبت: الأنثى وطن نلجأ إليه حين يضيق بنا الوطن، وملجأ نهرب إليه حين تلاحقنا الهزائم، ودواء يرمّم دواخلنا حين تتهشّم ويجبر جدار أرواحنا حين تتكسّر، لهذا أعتبره جبان كل من يخدش مشاعرها أو يعبث بها، أو يكون سببًا في سكب دموعها.
فاجأني رأيك هذا، وتركني أتساءل هل كل من تحمل تاء التأنيث أنثى ينطبق عليها قولك؟ هل تتحدث بصفة عامة أم أنك رسمت لرأيك إطارًا محدّدًا حشرتني فيه؟ فهل لي من أبجديات التحليل النّفسي ما يفسّر وجهة نظرك؟ ورغم ذلك طمأنني قولك هذا أنّك تقصدني وتحتاجني وطنًا وملجأً إليك، وقد كنتُ لك كلّ هذا يا وديع.
مع ذلك لم ينجل شكّي ولم تنطفئ شرارة السؤّال بداخلي، ألححت عليك أكثر من أي وقت مضى بأن تخبرني عن سبب كتابة ذلك النّص الفائض بجراح الماضي المفتوحة التي لم تضمّدها الأيام، لكنّك اتخذت المراوغة وسيلة لثنائي وقد نجحت في ذلك.
ليتك يا هاجر قرأت قول مولانا جلال الدّين الرّومي حين نطق بالحكمة فقال: «ليس كلّ ما في القلب قابل للبوح...هناك ما يولد ويموت، ولا يُفصح عنه».