كبائر صغيرة
تأليف: لبنى صالح | الدولة: السعودية
امتدت يدُ كرم تتناول الأوراق الدافئة التي تلفظها آلة الطباعة أمامه الواحدة تلو الأخرى. تفقدها ليتأكد من اكتمال النسخ الثلاثة التي يحتاجها. في الواقع، هو يحتاج واحدة منها فقط، لكن مبدأه كان دومًا: إذا كان المزيد مجانيًا فلم لا!
تلفت حوله بردة فعل عفوية لكن بغير اكتراث حقيقي على صوت خافت تهيأ له سماعه. المكان خالٍ من أي شخص سواه. لقد غادر الموظفون منذ وقت طويل، وبقي هو مثل كل يوم ينجز بعض الأعمال المهمة.
لم يراوده أدنى شعور بالقلق من ظهور أحد الموظفين أو رئيس قسمه أو حتى مدير المكتب وما قد يثيره تواجده حتى هذا الوقت المتأخر من شكوك أو تساؤلات، فالجميع يَشهدُ له بأنه الموظف المجتهد صاحب العمل الدؤوب والإخلاص المنقطع النظير! هو نفسه لا يكاد يتذكر يومًا لم يتأخر فيه ساعتين أو أكثر بعد انتهاء الدوام من أجل إتمام مزيد من الاعمال.
لقد تم تكريمه الشهر الماضي بصفته موظف الشهر وتم منحه مكافأة مالية، ليست مجزية لكن لا بأس بها!
كان قد بدأ بجمع اغراضه من أجل المغادرة لكن الصوت استوقفه فقد كان واضحًا جليًا هذه المرة، يبدو قادمًا من مكتب المدير المحاذي لغرفة الطباعة.
قادته خطواته نحو المكتب، فتح الباب سريعًا وأضاء الغرفة المظلمة. تفقدها بنظراته المتفحصة التي تنقلت بسرعة علّها تعثر على مصدر الصوت، لكن بحثه هذا لم يسفر عن شيء. الغرفة فارغة تمامًا. أطفأ الضوء وأغلق الباب خلفه. بالكاد تحرك خطوتين مبتعدًا حتى استوقفه صوت يهمس باسمه في أُذنه: «كرم!».
استدار بسرعة آملًا أن يطرد أوهامه بوجود شخص ما. لكنه أطلق صيحة ذعر صغيرة عندما تفاجأ بشاب ضخم عريض الكتفين طويل يقف في مواجهته! من أين ظهر؟! ومتى؟! هل انشقت الأرض وأخرجته من بطنها هكذا بلا مقدمات!
تلعثمت الكلمات في جوفه لتخرج أحرفًا مبعثرة لا معنى لها، وهو يلتفت حوله بسرعة علّه يلتقط شيئًا يدافع به عن نفسه أمام هذا الدخيل بينما أخذ الشاب يحاول تهدئته:
- «لا بأس! اهدأ. أنا هنا لمساعدتك لا تخف مني!».
استجمع كرم شجاعته وهو يقف مواجهًا للغريب متخذًا وضعية التأهب للهجوم وهو يصيح:
- «من أنت وكيف دخلت إلى هنا؟! تكلم بسرعة قبل أن أطلب لك الشرطة أو أقذف بك خارجًا.»
بهدوء تكلم الغريب:
- لن يساعدك ذلك يا كرم ولن يكون في مصلحتك. أنا هنا لنجدتك وإنقاذك من خطر محدق. خطر لن يستطيع حتى رجال الشرطة مواجهته أو التصدي له! إن أردت النجاة عليك أن تأتي معي الآن. ونصيحتي لك: افهم أن الوقت أثمن من أن تضيعه في نقاش أو جدال. وجودك في خطر يا كرم! ولا سبيل للنجاة إلا الطريق الذي أرشدك إليه. أسرع إنهم قادمون، أنا أشعر بهم يقتربون.
كانت ملامح وجه الشاب صاحب الشعر البني الفاتح والعينين العسليتين الواسعتين مسالمة جدًا ومتناسقة رغم ضخامة جثته. في الواقع كان وسيمًا على نحو ملفت! وهندامه مرتب وبسيط اقتصر فقط على قميص أبيض ناصع مع بنطلون جينز باللون الأزرق الغامق.
يحاول كرم أن يفهم: «من هؤلاء الذين يتحدث عنهم؟! لماذا يريد أي شخص في العالم إيذائي؟! ليس لي عداوة مع أي أحد! ولست أملك ما قد يطمع به شخص عاقل! ثم لماذا أستمع إليه أو أُصدق أي حماقة يتفوه بها؟! أنا لا أعلم من هو وعن أي جحيم يتحدث!!»
لمعت عيناه لجزء من الثانية حتى خُيل لكرم أنه لمح لونًا أحمرًا يشع منهما، قبل أن يغلقهما ويأخذ نفسًا طويلًا ثم يسرع بالقول:
- أنت تضيع الوقت وتعرض حياتك للخطر! استخدم عقلك وفكر لو أردتُ إيذاءك لكنت فعلت! أنا أَصْدُقك القول حين أقول إنهم أشرار جدًا. إنهم الشَّر المُجسد على الأرض! وأنت من يستهدفون! لأنك بارع جدًا فيما تفعله. اسمع، دعنا على الأقل نغادر المكتب فحسب. هذا سيمنحنا دقائق قليلة لكنها ستكون كافية. تعال وسأشرح لك، ولن تندم! لكن أَسرع أرجوك!
سَخرَ في نفسه. ما الذي قد يجعل حياته عُرضة للخطر؟! إنه مهندس يقضي جُل وقته مُنكبًا على طاولة في مكتبه. يُصمم المخططات الإنشائية مع ثلاثة آخرين يؤدون مهامه ذاتها. وهناك من هو أكثر مهارةً وتفوقَا منه. وعمله لا يَمت بصلة إلى تقديم العطاءات والعقود وأي وثائق ماليّة. لذا لا يمكن أن يَستهدفه المنافسون من الشركات الأخرى! ما هذا الجنون! لكنه فكر بسرعة. في جميع الأحوال من الأفضل بالتأكيد الخروج من المكتب. الذهاب إلى مكان آخر فيه بعض البشر. سيكون أكثر أمنًا من البقاء في هذا المكان المقفل. سواء أكان هذا الرجل الواقف أمامه مجنونًا أم قاتلًا مأجورًا أم لصًا أم بطلًا صادقًا يريد إنقاذ حياته أم وَغدًا يُنفذ مقلبًا سخيفًا بالتعاون مع شخص أكثر سماجة من معارفه! في جميع الأحوال الخروج من المكتب أفضل.
حسم كرم أمره بعد تردد وقال:
- سأحضر حاجياتي وأغلق المكتب وستخرج أمامي!
باستسلام أذعن الغريب:
- حسنًا كما تريد. تفضل.
أحضر كرم أوراقه وخرجَ يتقدمه الغريب من المكتب وأغلق الباب وعيناه مستمرة في مراقبة رفيقه. وجسده كله في حالة تأهب للتعامل مع أي حركة مفاجئة قد يقدم عليها زائر المساء هذا.
ضغط زر المصعد الذي فتح بابه على الفور. دخل الغريب وتبعه. ما أن أُغلق باب المصعد حتى امتدت يد كرم نحو لوحة الازرار يريد اختيار الطابق الأرضي لكن يد الغريب استوقفته برفق:
- لا داعي يا كرم، سنخرج من هذا الباب.
التفت كرم نحوه مذهولًا وهو يراقبه يفتح بابًا يظهر منه درج يؤدي إلى الشارع:
- ما هذا؟! من أين ظهر هذا الباب في المصعد؟! وكيف يعقل وجوده اصلًا؟
استغل الغريب صدمته ودفعه برفق لنزول الدرجات القليلة المؤدية إلى الشارع وهو يقول:
- لقد كان دائمًا موجودًا هنا لكنك لم تُعره أي انتباه من قبل.
ما أن خطت قدماه الشارع حتى كان كرم على وشك الانفجار في وجه مرافقه وقد بدأ الخوف يستبد منه. لكن الغريب أسكته وهو يجره بسرعة للاختباء خلف حاوية للقمامة وهو يهمس:
- أغلق فمك إن أردت النجاة! لقد تأخرنا بسبب جدالك العقيم. انظر! لقد حضروا.
وجه كرم نظراته إلى حيث أشار الغريب فرأى سيارة حمراء فارهة تشبه الفيراري ظهرت من العدم أمام المدخل الرئيسي للبناية. خرج منها أربعة من الرجال يرتدون معاطف جلدية طويلة وكأنهم من فيلم «ذا ماتريكس».
تقدم ثلاثة منهم واخترقوا جدار البناية وكأنهم أشباح. بينما أخذ كرم يهز رأسه غير مصدق ما يراه بأم عينه في هذه الليلة العجيبة التي تأبى أن تنتهي! بينما يحكم الغريب إغلاق فمه بكفه خشية أن يصدر أي صوت يلفت نحوهما الأنظار. لكن الصدمة أخرست كرم فلم ينبس ببنت شفة.
اتسعت عيناه ذُعرًا عندما تكرر المشهد والظلال الثلاثة تخرج من المبنى بنفس الطريقة التي دخلته بها بينما صوت أحدهم يتعالى:
- «لم نعثر عليه! لقد هرب! لا بد أن عز سبقنا وحذره! الحثالة! لن يستسلم بسهولة.»
أجاب الرجل الذي كان في انتظارهم:
- الوغد! تبًا له بل، تبًا لهما! لكن لا بأس، الليلة بأكملها أمامنا وسنمسك بهما لا محالة!
- لن ينجح الأمر! لقد اكتشف اللعين مخبأنا! علينا الهرب. اركض الآن!
صمت قليلا وهو يرفع رأسه وكأنه ذئب يشتم رائحة فريسته العالقة في الهواء قبل أن يبدأ في شن مطاردته. فتح عينيه وهو يقول بلهجة من ضمن الانتصار:
- «أشعر بهما! عز يحاول أن يُخفي حقيقة أنهما في مكان هنا! مكان قريب جدًا!»
أصبحت الظلال الأربعة أشد سوادًا وظُلمة واصطفت كسطر واحد. واشتعلت عيونهم جميعًا بلون النار الأحمر. وأخذوا يتقدمون كصف من الرجال الآليين بخطوات هادئة لكن سريعة نحو مخبأ كرم والغريب عز.
همس عز:
- أخذ يهرول مسرعًا وهو يجر كرم معه، الذي استجابت ساقاه أخيرًا لكمية الأدرنالين التي ضخها جسده. فانطلق يركض بأقصى طاقته حتى أفلت يد الغريب وسبقه بمراحل.
كرات نارية ملتهبة تتطاير من حولهما وصراخ مرافقه يحثه:
- أسرع! لا تنظر خلفك. اتجه نحو المسجد على اليمين.
يهرول، لكن تخونه التفاتة منه للوراء نحو المعركة الدائرة؛ فرقة الظلال السوداء تطلق بكثافة كرات النار الملتهبة بينما يحاول مرافقه بشجاعة وصمود التصدي لهم، وقد شكل بتقاطع ذراعيه ما يشبه الدرع من أشعة حمراء يرتطم به سيل المقذوفات النارية، وقد بدا جليًا أنه لن يصمد طويلًا. زاد كرم من سرعته وهو يعيد نظره إلى الطريق أمامه ويطلق لعنات كثيرة متتالية لا يدري حقًا على من يصبها! بينما تعمل كل خلايا مخه من أجل إصدار الأوامر الكفيلة بإيصال جسده بأسرع وقت ممكن إلى المسجد.
بحركات خرقاء خلع نعليه وضعهما في المكان المخصص للأحذية ودخل المسجد يكاد يقتلع شعره من جذوره وهو يشده بكفيه من شدة توتره. كابوس غبي. أجل ما هذا سوى كابوس سخيف! سيظهر الآن بعض مصاصي الدماء على باب المسجد دون أن يتمكنوا من الدخول لأن أحدًا لن يدعوهم! هو لن يفعل ذلك بالـتأكيد! سيصرخون والدماء تتقاطر من وجوههم المقيتة بعض الوقت ومن ثم سيستيقظ. ويقسم لن يتناول الطعام الدسم على وجبة العشاء بعد هذه الليلة أبدًا أبدًا.
- ليس كابوسًا، ولن ينتهي قريبًا.
أطلق كرم صرخة رعب من أعماق قلبه وهو يلتفت إلى قائل هذه الجملة ليجد عز أمامه:
- هل تريد قتلي؟! كدت تصيبني بأزمة قلبية!
أمسك بمقدمة قميصه يجذبه بعنف وهو يهتف بهستيرية:
- عليك اللعنة كيف تظهر هكذا فجأة من العدم! هل نحن في مأمن هنا؟! كيف نجوت منهم! ألا يستطيعون الدخول إلى هنا؟ هل سينصرفون مع شروق الشمس؟! هم ليسوا بشرًا! أليس كذلك؟! هل هذه نهاية العالم؟! هل قضوا على كل الناس وأنا البشريّ الأخير؟!.... لا... لا.... إنه كابوس! سأستيقظ قريبًا وسيختفي كل هذا! وستختفي أنت أيضًا يا مصدر الشؤم أيها اللعين!
مرت ساعة وهو جالس على سجاد المسجد يدعو تارة ويلعن تارة أخرى. يفرك عينيه عل صورة الشؤم المدعو «عز» تختفي من أمامه. لكن في كل مرة يفتح عينيه يراه جالسًا أمامه محافظًا على ثباته صامتًا ينظر إليه فقط بين الفينة والأخرى، يضع يده على صدره ويضغطها ويغلق عينيه لثانية كمن يتألم.
ما سمعه من فم هذا المخلوق فاق أي خيال خطر بباله يومًا.
إنهم مجموعة من الشياطين يلاحقونهما بهدف محدد لا بديل عنه. الحصول على كرم! لماذا؟! وما الذي سيفعلونه به في حال وقع بين براثنهم؟ امتنع عز عن تقديم أي إجابات قائلا بأن لا فائدة سيجنيها الآن من معرفة أي معلومات إضافية.
قطع عز حبل أفكاره الشائكة:
- هذا يكفي. أظن أنك هدأت بما يكفي! لنواصل رحلتنا هيا بنا لقد حان الوقت للذهاب.
- إلى إين سنذهب؟ وهل سنظل نهرب إلى الأبد؟! ألا نستطيع مواجهتهم؟! ألا يملك الملائكة سلاحًا أو قوة خارقة لدحر الشياطين؟! ارتسمت الحيرة على ملامح عز وهو يتساءل:
- عن أي هراء تتحدث؟!
شرح كرم وجهة نظره:
- أنت كملاك لا بد أن يكون لك السلطة واليد العليا في موقف كهذا!
جحظت عينا عز وهو يقول:
- بماذا دعوتني للتو؟!
تراجع كرم إلى الوراء قليلا وهو يرى انزعاج الغريب وقال بصوت منخفض:
- ظننت أن الأمر بديهي إذا كانت هناك فرقة من الشياطين تطاردني وفي المقابل جئت أنت لمساعدتي فأنت ستكون نقيضًا لهم! أي أنك لا محالة ستكون ملا...
قاطعه عز موبخًا:
- دع عنك استنتاجاتك العبقرية هذه. سنقوم بادخارها الآن وسنستمتع بمخرجات عقلك العبقري فيما بعد. لكن صدقني من العلم ما قتل! كلما كان لديك معلومات أقل كنت في مأمن. هيا انهض!
نهض كرم متثاقلًا وأطلق احتجاجًا أخيرا:
- إن كانوا لا يستطيعون دخول المسجد أليس من الأفضل أن نبقى فيه؟!
حثه عز على ارتداء نعله بسرعة:
- أسرع هيّا. أنا لم أقل إنهم لا يستطيعون دخول المسجد أو الكنيسة أو أي دار عبادة إذا رغبوا في ذلك.
استفسر كرم وقد ارتجف قليلًا عندما هبت نسمات آخر الليل الباردة:
- لماذا لم يفعلوا إذا؟!
واستمع إلى إجابة الغريب الذي تسارعت خطواته أمامه حتى اضطر كرم للهرولة من أجل اللحاق به.
- تم استدعاؤهم للعمل. الشياطين منضبطون جدًا فيما يخص ذلك، إنه أمر مقدس بالنسبة لهم. لذا لدينا فسحة من الزمن للهرب الآن، ولن تستمر هذه المهلة إلى الأبد!
بحنق قال كرم:
- «لم أفهم! كيف يكون العمل مقدسًا بالنسبة لهم ويختفون هكذا كي أتمكن من الهرب؟!
أجابه عز ببساطة:
- لستَ مُدرجًا على قائمة العمل النظامي.
جن جنونه وهتف:
- ماذا يعني هراء الجحيم هذا؟ اسأل كي أفهم فتدخلني في متاهة جديدة! هل أنا لست مُهمًا كفاية لإدراجي على قائمة عملهم اللعين الرسميّ! لماذا هذه المطاردة إذا؟
أراد عز إنهاء الحوار:
- إذًا افهم هذا فقط، أنت مطارد من قبل شياطين خارجين على القانون المقدس للشياطين! فتخيل حجم الجحيم الذي ينتظرك إذا وقعت بين براثنهم! نقطة وانتهى الأمر.
تضرع كرم:
- يا الله! ارحمني يا رب! ما لنا غير الدعاء في هذه الليلة!
تباطأت خطوات عز قليلا وبدا لثانية كمن يترنح، فأسرع كرم نحوه ومد ذراعيه نحوه يريد أن يسنده:
- هل أنت بخير؟ هل أصابوك؟ هل يؤلمك شيء؟
انفجر عز وهو يبعده عنه بحركة فظة:
- لا يؤلمني سوى صحبة غبيّ كثير الثرثرة مثلك! اغلق فمك واتبعني فقط!
أغلق كرم فمه جيدًا بعد هذا التوبيخ المباشر الصريح وسار وراء عز الذي قاده في أزقة مظلمة تخلو إلا من عدد قليل من المارة، الذين تجاهلوهما وكأنهما غير مرئييّن -وربما كانا كذلك فعلا في هذه الليلة العجيبة- واستسلم للصمت بعد أن يئس من الحصول على إجابة على أسئلته المتزايدة.
تقودهما خطواتهما إلى بناية قديمة. أخذ كرم يتبعه في صعود الدرج الذي بدا وكأنه يمتد إلى ما لا نهاية. بالتأكيد حظه العاثر سيجلبه إلى بناية دون مصعد! أخيرًا وصلا إلى سطح البناية المظلم. وقف عند باب السطح يلهث من التعب يحاول التقاط أنفاسه وعز يهمس له:
- انظر هناك.
التفت كرم حيث أشار فوجد ظلًا لرجل يجلس على حافة السطح. أخذ عز يشرح هامسًا:
هذا رجل بائس ضاقت عليه الحياة ويريد إنهاء حياته الليلة، وعليك إنقاذه.
ردد كرم بذكاء:
- رجل يريد القفز!
توقف عندما نبهه عز طالبًا منه أن يخفض صوته ففعل وتابع:
- رجل يريد القفز وإنهاء حياته وعليّ أنا إنقاذه! أنا الذي تطاردني الشياطين المتوحشة اللعينة عليّ الذهاب وانقاذه! ماذا أفعل؟ أنقضُ عليه وأجره بعيدًا عن الحافة بعد أن أُشبِعه ضربًا يُنهك قواه! أم أهوي بشيء ثقيل على رأسه فأفقده وعيه ثم أسحبه إلى مكان آمن! وفي كلتا الحالتين هناك نسبة تسعين بالمئة أن يجرني هو معه فنسقط كلانا وتتهشم جمجمتي في هذه الليلة اللعينة! وإن نجحت بمعجزة ما وأنقذته الليلة فهنالك احتمال مئة بالمئة أن يعاود المحاولة غدًا أو بعد غد! وهكذا ترى أن اقتراحك لي بالتدخل عبث محض! أنا أصلًا لا أتدخل في شؤون الاخرين.. هذا ليس من شِيَمي!
تكلم عز وكأنه لم يسمع شيئا:
- لا تستخدم القوة ولا العنف. عليك إنقاذه عن طريق إقناعه بأنه إنسان محبوب له قيمة وحياته تعني شيئًا؛ فله هدف وغاية.
ازدادت ملامح الغباء على وجه كرم وهو يتذمر:
- عن طريق إقناعه! أنت تعلم أنه قد يكون اتخذ هذا القرار قبل عشر سنوات. وتريد مني أنا... أنا، شخص غريب لم يره قبل اليوم، أن اذهب اليه وأبتسم قائلًا: مرحبًا أنت لا تعرفني... لكن لا تقتل نفسك! فأنت شخص محبوب وحياتك التافهة لها قيمة وهدف! صحيح أنك لم تجده لحد الآن، لكن عليك أن تبحث بجد أكثر وستجد في النهاية كل الهراء الذي تريد! ظننتك قلت أنْ لا وقت لدينا نضيعه لإنقاذ حياتي أنا! هل تذكرتني؟!! أنا في خطر! تطاردني الشياطين، تلك المخلوقات المرعبة السوداء التي تطلق كرات النار!
بهدوء وضح عز وهو يدفعه برفق باتجاه الرجل:
- سيكون هذا عملًا فيه خير عظيم وإيثار، وهذا سيكون سلاحًا مفيدًا لنا جدًا في معركتنا ضد الشياطين. ورغم أنني لن أستطيع شرح آلية عمل منظومة الشياطين، لكن ثق بي. علينا أن نفعل ذلك. أنا لن أستطيع المساعدة في هذا. عليك إقناعه لوحدك!
خطا كرم عدة خطوات وهو يثرثر مع نفسه باعتراض: «ماذا يتوجب عليّ قوله؟!! أنا مهندس إنشائيّ لست طبيبًا نفسيًّا! عقلي مصمم لإرشادي كيفية أداء المهمة بطريقة أسرع ومضمونة النتائج أكثر وأبسط!» التفت فجأة نحو عز وهو يرجوه:
- ألا يمكنني فقط ضربه على رأسه وإفقاده وعيه!
بحزم همس عز:
- اذهب، الوقت يمضي!
تحرك كرم وأخذ يقترب ببطء من الظل الذي كان يقف الآن على حافة البناء. كان يسترجع عبثًا في رأسه كل المواقف الدرامية المؤثرة التي شاهدها يومًا على الشاشة، عله يجد فيها ضالته من الكلمات المفيدة في موقف كهذا.
صدر صوت تهشم شيء ما تحت قدمه اليمنى كان كافيًا لجذب انتباه الرجل الذي استدار بسرعة وسأل بعنف:
- مَن هناك، وماذا تريد؟
تجمدت خطوات كرم وهو يتحدث بخفوت:
- أنا لا أحد! مجرد عابر سبيل مسكين أرسله الله اليك في هذه الليلة لغاية ما!
نهره الرجل:
- ابتعد! ارحل ولا تتدخل فيما لا يعنيك!
جلس كرم على الأرض مقابلًا له وهو يتحدث بحرارة:
- أقسم لك بكل ما هو مقدس لديّ ولديك لا أحب على قلبي في هذه اللحظة من الرحيل والابتعاد والهرب من كل شيء. لكنني لا أستطيع!
ظهر التأثر جليا على ملامح الرجل:
- ضميرك أيّها الغريب يمنعك من تركي ألاقي حتفي! يا لك من إنسان طيب حتى تأبه لأمر إنسان لا تعرفه!
كان كرم غارقًا في التفكير من أجل العثور على حلول سريعة غير مكترث أصلًا بما يظنه أو يقوله الرجل البائس، لذا قال وهو يهز رأسه:
- أجل... أجل...
حثه الرجل بصوت حزين:
اذهب أيها الرجل الطيب! ارحل! لقد انتهى الأمر! لا يوجد ما تستطيع فعله حيال ذلك!
أجابه كرم:
أخبرتك أنني لا أستطيع فعل ذلك! لذا ربما لو تحدثت معي بعض الوقت سنـ...
قاطعه الرجل بصوت مرتجف ينذر بأنه على وشك البكاء:
- لا! لا... مللت من الكلام وتعبت! لن أخوض في عذاباتي مجددًا مع أي أحد!
أخذ كرم يرجوه:
- إذا اسمعني فحسب! أنا سأتكلم... سأقول بضع كلمات لن تأخذ من وقتك الكثير ولن أؤخرك عن تنفيذ ما ستقرر فعله. في نهاية المطاف، إنها حياتك أنت، لكن ربما تسمح لي أن أنبهك إلى أمور قد تكون غائبة عنك! بالطبع هناك احتمال لا بأس به بأن هذه السقطة قد لا تقتلك، وإنما تتركك بأضرار بالغة في جمجمتك وعمودك الفقري! لينتهي بك الامر مُقعدًا على كرسي أو مصابًا بشلل رباعي، لا تستطيع مغادرة السرير طوال عمرك، ما سيجعل حياتك البائسة أكثر بؤسًا! وهناك بالتأكيد طرق أسرع وأسهل وأقل ألمًا، ومضمونة النتائج أكثر. وبالتأكيد لن نناقش هذه الطرق الآن لأن الوقت ليس مناسبًا! لكن ما أريد قوله هو أنك إنسان محبوب ولك قيمة وحياتك لها هدف ومعنى. لذا لا تقفز هذه الليلة! عد إلى بيتك وتناول كوب حليب دافئ واستلق في سريرك وتشبث بالغطاء جيدًا وغدًا صباحًا عندما تستيقظ اذهب لزيارة أحبائك وسيكون كل شيء أفضل! لذا هيا بنا!
رفض الرجل يد كرم الممدودة له وصاح:
- هل أنت مجنون! لا يوجد أحد يحبني! الجميع يكرهني! سأريح العالم أجمع من وجودي الكريه البائس الذي لا يأبه به أحد أصلًا! أنا نكرة لا يهتم أحد بشأني! الجميع يتمنى موتي! الجميع بلا استثناء!
تراجع كرم قليلًا نحو الوراء جراء انفجار الرجل في وجهه لكنه تماسك سريعًا:
- ربما هذا صحيح، أعني كونك مخلوقٌ مقيتٌ مثيرٌ للشفقة لا أحد يحبه! أعني أنت أعلم بهذا مني! وربما لا يوجد هناك أشخاص سيبكون ويحزنون على موتك المفاجئ بهذه الطريقة التقليدية الشنيعة. لكن صدقني هناك بالتأكيد الأوغاد الذين يكرهونك! الذين سيشمتون بموتك وسيذهبون إلى مطعمك المفضل ويستمتعون بتناول طبقك المفضل وستصبح حياتهم أفضل عند رحيلك! وأنا أعتقد أنه لا يمكنك منحهم هذا! لن يكون عدلًا أن يكون شخص حساس مميز مثلك تحت الثرى تلتهم جسده الديدان، بينما هم يستمتعون بحياتهم! عليك أن تبقى حيًا من أجل أن تُنغص عليهم حياتهم اللعينة! أنت مدين بهذا لنفسك أمام جميع الذين يكرهونك!
بعد ربع ساعة كان كرم ينزل الدرج وخطواته تتسارع كأنه على وشك الطيران بشكل عجائبي، فقد نجح في مهمته وترك الرجل وقد قرر أنه لن ينتحر. بل سيسخر كل دقيقة من عمره المتبقي من أجل الانتقام من الجميع!
كان كرم يثرثر بزهو وفخر:
- لقد نجحت! أظنني فهمت المغزى من الأمر أخيرًا! الموضوع بسيط جدًا! الشياطين تضعف قوتها أمامي عندما أقوم بأعمال صالحة! أنا إنسان جوهره الخير المُجرد، ولذا أنا مستهدف من قبل قوى الشر والظلام الممثلة بالشياطين اللعينة!
كانت أشعة الشمس الوليدة قد بدأت في محو ظلام آخر الليل المحتضر. قطع عز ثرثرة كرم:
- توقف واتبعني، سنذهب من هنا.
تبعه كرم وهو ما زال غارقًا في نشوة نجاحه:
- كما تريد أيها القائد!
سارا في طرق غريبة لم يدرك كرم وجودها من قبل قط، من جدار ما كان يفتح عز بابًا يقودهم إلى جدار آخر ويظهر باب آخر وهكذا، حتى انتهى بهما المطاف في مكان مهجور ينتشر فيه عدد من المباني المتهالكة.
صعدا الدرج الضيق وجلسا على آخر درجة في أعلاه عند باب غرفة ضيقة ذات نافذة وحيدة، وقد بدت علامات الإرهاق والتعب جلية على ملامح عز.
سأله كرم:
- وجهك يبدو شاحبًا جدًا، هل أنت مريض؟
تحامل عز على نفسه بصعوبة:
- يبدو أن هذه نهاية رحلتنا. أخطأت في تقدير قوتي أمام قوتهم... سأنهار قريبا...
بذعر هتف كرم:
- لا! أرجوك تماسك.. لا يمكنك الانهيار الآن! أنا لست في أمان! ماذا سأفعل من دونك؟! ألا يمكنك إرسال أحد يحل مكانك؟
قال عز محذرًا:
- إنهم قادمون. لقد نفد الوقت! لا مجال لمزيد من الألاعيب والحيل! عز هو اختصار لاسمي الحقيقي... عزازيل! هل سمعت بهذا الاسم من قبل! لا؟ إنه اسم دارج جدا في عالم الشياطين الذي أنتمي إليه. أنت كنت وظيفتي التي كنت مميزًا بها! أنت مميز! أنت تجرد الخطايا من جوهر الذنب أمام نفسك! تجد المبررات والأعذار حتى صارت الذنوب نظام حياتك اليومية! لقد قضيت على مفهوم التوبة عندما أقنعت نفسك بأنك لا ترتكب ذنوبًا! فكل شيء مبرر وكل خطيئة صغيرة لها غاية نبيلة ودور في إحقاق العدل بطرق ملتوية، لكن في شريعتك لا بأس في ذلك! كنت أجلس بينما تزداد نقاطي في العمل دون أن أبذل أدنى مجهود يُذكر! وأنت تمارس حياتك اليومية بصورة عادية، لا أحتاج إلى إعداد خطط للتقدم في عملي وحصد النجاح! وأنت أخذت تنشر مبادئك بين البشر ومع تعليقاتك الألمعية على مواقع التواصل الاجتماعي تضاعفت نقاطي، ترقية تلو ترقية، أحصدها وأنا أُخفي سرك عن البقية بتقارير عن مقدار الجهود الجبارة التي بذلتها وأبذلها معك لأساعدك في الوصول إلى ما أنت عليه. منزلتي تعلو والحقد عليّ بين بقية الشياطين المنافسين لي يزيد وينتشر. ثم اجتمع أولئك الأنجاس الأربعة من أجل هدف واحد، وهو الحصول عليك وإثبات شكوكهم حولي بأن مصدر التميز أنت بطبعك المتأصل فيك، لا أنا بعملي واجتهادي! هم شياطين بالطبع، لن تنطلي عليهم الخدعة إلى الأبد! كان عليّ أن أدفعك لتقلب الآية ولو مؤقتًا. أن أُرشدك إلى طريق الهداية علك تقترف بعض الأعمال الخيرة ليزيد رصيدك من الحسنات، فأواجه رؤسائي بها في السجلات وعندها أستطيع إقناعهم بأنني ضحية مؤامرة! وكيف أن تدخل الشياطين ومحاولتهم الانقلاب علي نسفت مجهود عمل دؤوب لي امتد سنوات، وها أنت عدت إنسانًا صالحًا من جديد عندما قاموا بتعطيل عملي!
انا أضعف يا كرم، لأنني أسير في طريق ليس لي! طريق يخالف ماهيتي! أنا مثل جميع المخلوقات إذا خرجت من بيئتها التي تناسبها ضعفت وشارفت على الهلاك. إلا أنت أيها الانسان اللعين! كلما تجردت من احتياجاتك وقاومت غرائزك ورغباتك أصبحت أقوى وأصلب! لن أستطيع حمايتك بعد الآن! لن أستطيع مرافقتك. أنا ضعيف جدا! يمكنك أن تسلم نفسك لهم برضاك مقابل توفير الحماية لي. هذا الإيثار سيكون طوق نجاة لي ولك. هم لا يعرفون أنك تدرك حقيقتي وحقيقتهم. افعل ذلك الآن.
فكر كرم بسرعة يحاول استيعاب ما تفوه به عز أو عزازيل، أيًا كان اسمه، ولعنه الله في جميع الأحوال. ثم فجأة، ركله بقوة، فأخذ جسده يتدحرج نزولًا على الدرج للأسفل بينما قفز من النافذة الضيقة وسار على السطح حتى وصل حافته واستعان بالمواسير المثبتة على جدار المبنى في الهبوط بسرعة، وما إن لامست قدماه الأرض حتى انطلق هاربًا يسابق الريح. وهو يفكر بأنه أدرك النجاة أخيرًا! بما فعل سيرجح كفة الأنجاس الأربعة كما دعاهم عز وستنتهي هذه المطاردة، وهذا هو ما يهمه. فليذهب عز إلى الجحيم، هو يستحق ذلك بالتأكيد!
فتح عزازيل عينيه ليجد أربعة أزواج من الأحذية السوداء اللامعة التي يعرفها جيدًا، رفع رأسه لتلاقي نظراته وجوه إخوته الأعداء ونظراتهم الساخرة: «ألقى بك بعد كل هذا العناء في سبيل إنقاذه! يا له من عمل شيطاني!
ابتسم عزازيل وهو يهز رأسه: إنه تحفة فنية! وغد لعين رائع! أليس كذلك؟