إلى ما لا مآل
تأليف: حسين السنبختي | الدولة: مصر
ربما كلُ المساراتِ ذاتَ مآلاتٍ مُفْضِيَةٍ، وربما كلُ الازدحاماتِ ذاتَ نتائجٍ مُقْصِيةٍ، وربما ذاتَ يومٍ تستيقظُ مُجرَّدًا مِنْ كلِ أُعْطيةٍ؛ لِتَمْضية وتَلْبية أبْيَن أُحجية.
يغرق في ظلامٍ قاتمٍ ثقيلٍ كأنه مُنغمِرٌ في قاعِ حوضٍ عميقٍ من القار الكثيف، ويَصُك سمعَه دويُ صفيرٍ غليظٍ مكتومٍ يصاحبه اهتزازٌ طفيفٌ، الهزهزة والهزيز يتزامنان ويزدادن قوةً على نحوٍ تدريجيٍّ، يحس فجأةً بهواءٍ باردٍ يلفح جلده؛ فتسري على إثر ذلك برودةٌ متزايدةٌ في جسده كله، ويدفعه شعورٌ غير مُريحٍ إلى الاستيقاظ، يكابد في محاولة فتح عينيه في نفس الوقت الذي يتفاقم إحساسه بلسعات البرد وهي تتسلل وتتغلغل في أرجاء بدنه وتَصْقَعه بكيفيةٍ مريبةٍ غير مُطَمْئنَةٍ بالمرة، بالإضافة إلى الضجيج الذي ينتظم تردده ويقترب؛ فيشعر وكأن جفنيه ملتزقين بغراء، يحاول مجددًا، وبمجرد انفراجهما قليلًا يُجبرهما الضوء الذي يسطع أمامهما فجأةً على الانغلاق ثانيةً، لكن ارتعادًا وارتجاجًا يعتريان جسده حتى النخاع ويزدادان باضطرادٍ كل لحظةٍ؛ فيحمله ذلك على أن يُرغِم جفنيه على الانفكاك، فتنفتح عيناه على ضياء السماء البعيدة العالية رمادية اللون، وينفغر فوه شاهِقًا، ويتمدد منخاره مُنْفجِمًا، ويقشعر بدنه مُدرِكًا بسرعةٍ سر شعوره بالبرد الذي يجتاحه حين يروح ببصره على طول جسده ليجد نفسه عاريًا تمامًا ومُلقًى على أرضٍ باردةٍ قاسيةٍ تسبب لظهره ألمًا أحس به الآن فجأةً.
يفزع لذلك ويقوم مُنتفِضًا ومُواريًا عورته بيديه الاثنتين، ويدور بجسده يمينًا ويسارًا وببصره في كل الاتجاهات، وبعشوائيةٍ يستمر في فعل ذلك. كان همه الأول ولثوانٍ ليست بقليلةٍ هو البحث عن أعينٍ ربما تتلصص عليه وهو في هكذا عري، ثم أخذه ارتياحًا مُؤقتًا أن لا أحدَ موجودٌ حوله في هذا المكان الذي لا يعلم كيف جيء به إليه. وبمجرد أن أدرك أين هو؛ إذ به يواجه رعبًا كبيرًا حين تُميز أذناه صوت الصفير الذي أفزعه دويه المرتفع ودنا مصدره منه حتى كاد يصمه؛ حيث وجد قطارًا مُنطلِقًا تجاهه على نفس الشريط الذي يقف هو الآن ما بين قضيبيه، ويقترب منه بسرعةٍ كبيرةٍ جدًّا، واستطاع بصعوبةٍ شديدةٍ في اللحظة الأخيرة وقبل أن يدهسه مباشرةً أن يتفاداه بأعجوبةٍ؛ حيث ألقى بجسده بكل ما أوتي من قوة بعيدًا تجاه شريط القضبان المجاور حتى أحس نفسه طائرًا ثم واقعًا على ظهره على الحصى الحجرية الصغيرة المفروشة بين القضبان يصرخ ويتأوه. وبحركةٍ لا إراديةٍ بالغةِ السرعةِ ينقلب منبطحًا واضعًا يديه فوق رأسه في فزعٍ كبيرٍ ومُغْمِضًا عينيه حتى مر القطار بكامل طوله من جانبه بسرعته الجنونية وابتعد هو وصفيره في لمح البصر.. هل هو يحلم؟!، دائمًا ما يتكرر ظهور القطارات وقضبانها في الأحلام والكوابيس، كان هذا ما يتمناه وهو يفتح عينيه بعد برهة آمِلًا أن يكون في حلم أو كابوس ما على وشك أن ينجلي بعد أن يفتح عينيه، إلا أنه يتأكد من كونه واعيًا مُستيقظًا لا يحلم، لأن ما حدث للتو يُخلِّف طنينًا رهيبًا بأذنيه وارتعاشًا مُستشرِيًا ببدنه، وتخدشاتٍ وكدماتٍ متفرقةً بجُلّ جسده، وتضربه آلامٌ مبرحةٌ كانت فائدتها الوحيدة أنها أنْسته عُريه والبرد المترتب على ذلك. كل ما حوله واقعيٌ ومحسوسٌ جدًّا للدرجة التي يستحيل معها أن يكون في حُلمٍ ما. بدأ يتساءل مُشوَشًا من إثر الصداع الذي يضرب دماغه كمطرقةٍ ثقيلةٍ في أي مأزقٍ هو! ببطءٍ شديدٍ وتألمٍ عديدٍ يقف على قدميه دون أن ينتصب بالكامل، يلتقط أنفاسه ناهِجًا، يلتفت حوله بخوف وحذر، وبحركة تلقائية يخبئ عورته بكلتا يديه، ثم يجول بصره في أرجاء المكان ويحدق في امتداده مشتتًا مرة أخرى. لا أحد موجود، لكن تلك المرة يتملكه رعب كبير، يتفحص المكان الذي يقف فيه مُستجمِعًا تركيزه وقوته؛ سكةٌ حديديةٌ ممتدةٌ أمامه باستقامة على طول بصره، أو هكذا بدت له، مكونةٌ من أربعة شرائط؛ ثمانية من القضبان الفولاذية، عَدَّهم من حيث يقف من أقصى يمينه حتى يساره، والآن هو يقف في المسافة بين الشريط الثالث والشريط الرابع الأخير الذي عن يساره وإلى حيث يتحرك مُقتربًا من قضيبه الطرفي الأخير. ويرتفع سورٌ شاهق العلو إلى حد مبالغ فيه تسبب في ذهوله وانقباضه في نفس الوقت، بالإضافة إلى ألم في قفاه بسبب كدمة أوجعته وهو يثني رقبته إلى أعلى ليعاين ارتفاع السور ويتأكد مما هو موجود أعلى قمته البعيدة. يدقق النظر، إنها أسلاك ومسامير شائكة، من النوع المُجلفَن على ما يبدو، مُثبتةً هناك بالأعلى بطول سطح السور بالكامل وتتفرع أيضًا على الجانبين، ومن الأسفل يلتصق بالسور زرعاتٌ كثيفةٌ لنبات الصبار الشوكي، تشغل المسافة العرضية بين السور والقضيب الطرفي الأخير وتكاد تلامسه، وتمتد بطول السور على مد بصره.
ينظر على الجانب الآخر ليجد سورًا آخرَ على نفس الهيئة بالتمام، ينقبض قلبه باحثًا ببصره فيما وراء السور البعيد عن بناياتٍ سكنيةٍ ربما يراه أحد منها، أو يرى أحدًا فيها فيطلب المساعدة، فلا يجد أي بناياتٍ فيقول في نفسه ربما الارتفاع البالغ للسور يحجب بيوتًا أقل طولًا منه، ما الذي أتى به إلى هذا المكان؟! ولماذا هو عارٍ بلا شيءٍ يستره؟!
يعتصر ذاكرته فلا يتذكر أي شيء، ولا تذهب به ذاكرته إلى أبعد من لحظات وعيه التي سبقت استيقاظه مباشرةً، وكأن ما قبل ذلك هو اللاشيء واللاوجود في صورةٍ نقيةٍ مجردةٍ خاليةٍ من أي ملمحٍ أو تفصيلٍ، تجوب عيناه باحثةً عن خرقةٍ يستر بها عورته فلا يجد، لا أحدَ موجودٌ الآن، لكن سيكون من المريح له لو وارى عورته بشيءٍ ما، حتى إذا ما خرج من هذا المكان أو قابله أحد كان مستورًا.
يهم بالمشي دافعًا بخطواته إلى الأمام بصعوبةٍ واتقاءٍ، ويبدو وهو يسير بهكذا اختلال كأن جهازيه العضلي والعصبي قد نسيا كيفية المشي، أو كمن يخطو لأول مرةٍ بمخافةٍ وهوجٍ. تُصبح المهمة أكثر توعرًا بسبب الحصى الحجرية القاسية التي أضافت إلى مشقته تألمًا وعرجًا. يجاهد المشي مُنتقيًا العوارض الخرسانية التي تربط ما بين القضيبين وتظهر أحيانًا غير مُغطاةٍ بالأحجار، يدوس عليها مُتقدمًا ببطءٍ وحذرٍ وهو يفتش عن أي شيءٍ يصلح لأن يكون سروالًا أو لباسًا، وفي نفس الوقت يرتقب بكل أملٍ رؤية أي بوابةِ مزلقان أو معبرٍ للمشاة والسيارات يقطع السكة الحديدية لينفذ منه إلى خارج هذين السورين. وبعد أن مشى لوقتٍ طويلٍ يتمكن منه التعب والإجهاد ويصيبه خدر في قدميه الحافيتين دون أن يجد خرقةً ودون أن يظهر كائنًا أو بيتًا من وراء السورين، فيتوقف من أجل أن يستريح ويريح قدميه ويلتقط أنفاسه، ينظر عن يساره إلى نباتات الصبار الشائكة باحثًا عن مكانٍ خالٍ بينها بجوار السور ليجلس فيه، فيجدها كثيفةً للدرجة التي تبدو وكأنها هي التي تحاول تجاوز القضيب الطرفي للشريط الرابع، يتناهى إلى سمعه صدى صفير قطار، ينظر وراءه وقبالته بقلقٍ واضطرابٍ، يستمر صفير القطار في الوصول إلى أذنه بانتظامٍ وازديادٍ، يتملكه رعبًا فينتقل من شريطٍ إلى آخرٍ وهو يحدق إلى الخلف والأمام بسرعة محاولًا معرفة من أين يأتي الصوت أو رؤية مقدمة القطار من أجل أن يتفاداه، يظل على حركته الدائبة بين الشرائط والقضبان، والتفاتاته المرتبكة للوراء والأمام وخوفه واحتراسه الشديدين من الدهس والاصطدام حتى يلمح أخيرًا وبعيدًا مقدمة القطار، وما إن ظهرت هناك حتى وجد القطار قد قرب منه سريعًا بسبب سرعته الجنونية المخيفة، ولكنه كان قد استطاع بسبب انتقاله ما بين القضبان بمواظبةٍ واحتياطٍ أن يبتعد بوقت ليس بكبير عن مسار القطار الذي قَدَّره فسارع ذاهبًا وقاصدًا أول قضيب على الجانب البعيد الأيمن حين عرف، بينما يراوح مكانه بين الشرائط أن القطار قادمٌ على الشريط الرابع المجاور للسور الأيسر حيث كان يقف، وحين يصل إلى جانب السور الأيمن يقف على القضيب الأول المجاور للسور مُبتعدًا كثيرًا عن القطار الذي يمر بسرعةٍ مُحدِثًا صخبًا ورجًّا عظيمًا، ومنعه من أن يلتصق بالسور وجود نباتات الصبار الشائكة الكثيفة التي تكاد تلامس جلده في موضعه الحالي. يقطع القطار المسافة والفراغ في غمضة عين حتى يتلاشى كأن لم يكن، بينما يستمر هو في مكانه مُتسمّرًا يعلو صدره ويهبط بسرعةٍ وقوةٍ ولا يعلم هل تلك الرجرجة التي تعتري جسده مَردها إلى أثر القطار أم إلى ضربات قلبه الذي يخفق بصوتٍ عالٍ مسموعٍ ونبضٍ سارٍ محسوسٍ في كل جسده من رأسه حتى أخمص قدميه.
على كلٍّ فقد اختفى القطار تمامًا من أمام ناظريه ويحاول أن يكرر ذلك على نفسه حتى يُهدِّأ من رَوعها واضطرابها وإن كان لا يزال يسمع صدى صفير القطار يتردد في أذنيه وكأن دهاليزهما وأنفاقهما وقنواتهما احتوت اهتزازات الصوت واحتفظت بموجاته وراحت تذبذبهم فيما بينها وبين رأسه دون خروج، ربما هذا هو أزيز أذنيه الذي يستمر حتى تلك اللحظات على نحو متقطع! لماذا إذن لا يهدأ أو يخبو ويستمر في كونه مثل صفير قطارٍ مزعجٍ أكثر ما هو طنين أُذن؟ لما يزداد ولا يقل؟ هل أصاب أذنه شيءٌ؟
من حسن حظه أنه علم الإجابة في الوقت المناسب، ومن سوئه أنه كان في الموضع غير المناسب، هل يمكن أن يكون المرء حَسن الحظ وسيِّئ الحظ في آنٍ واحد؟! ربما يكون الأمر على هذا النحو إذا اعتُبِر حسن حظه يتعلق بإفلاته من ضررٍ بالغٍ جدًّا، وفي نفس الوقت لم يكن حظه جيدًا بالدرجة الكافية التي تمنعه من بعض الضرر غير البالغ جدًّا بالمقارنة. بعد أن وضع طرف سبابته على زنمة أذنه مُرجْرِجها بفتحها وإغلاقها بغرض تسليكها دون جدوى، راوده شكٌ فالتف بجسده نصف لفةٍ فلمح بطرف عينه في فزعٍ كبيرٍ قطارًا قادمًا من خلفه بالسرعة الجنونية المعتادة على نفس الشريط الذي يقف على قضيبه الطرفي المجاور للسور الأيمن، لم يكن أمامه مُتسع من الوقت والمسافة لينجو إلا بأن يلقي بنفسه ناحية السور، وهكذا فعل.
كان الاصطدام القوي لجسده بالسور هو أهون وأبسط ما في الأمر برمته إذا ما قورن بوقوعه على نباتات الصبار الشوكية التي انغرز شوكها الشرس في جلده بقوةٍ وعمقٍ، ثم ما برح أن تكسر تاركا نباته وباقيًا في جسده كأنه ينتهز فرصة للتحرر وذلك في أثناء تدحرجه نصف لفة من ردة فعل الارتطام بالسور، ثم سرعان ما عاثت أشواك جديدة مُنغرسةً ببطءٍ وعمقٍ وتشبثٍ في مناطق جديدة من جسده حائلةً دون استكمال تدحرجه الذي لو حدث لكان انتهى بجسده أسفل عجلات القطار القريبة جدًّا والتي تصطك مع قضبانها صارخةً ومزمجرةً بقوةٍ ورعبٍ كأنها أضراس وحشٍ جائعٍ تريد أن تمضغ هذا الجسد السائغ.
أما عنه في تلك اللحظات؛ فهو على الأرجح يظن أن صوت صراخه المرتفع جدًّا والناتج عن الآلام الباغية على جسده المرتعش والذي أدمته الأشواك وكَدَمته قساوة الارتطام بالسور، بالإضافة إلى الرعب الطاغي الذي مسه من مفاجأة القطار له ووضعه الحالي؛ لابد لهذا الصريخ بسبب تواصله وعلوه المتزايد أن يخترق السور ويُسمِع أحدًّا، إن لم يُسمع الموتى أنفسهم، لم يضع احتمالية طغيان صوت القطار بصفيره وضجيجه في حسبانه وهو يفترض أنه حتمًا قد أوصل مكانه ومعاناته وفزعه إلى هؤلاء الموجودين فيما وراء السورين الشاهقين، بل لم يفكر في احتمالية قدوم قطاراتٍ أخرى وهو يظن أن شيئًا أسوأ من ذلك لا يمكن أن يحدث، وأنه من المؤكد أن التالي هو شيءٌ حسنٌ مثاليٌ. عليه أن يتوقف عن التفكير الممزوج بالعويل والألم ويقوم الآن وسريعًا بعدما ذهب القطار دون أن يَذهب عن أذنيه صفيرٌ وتشوشٌ وطنينٌ وانسدادٌ لابد أنهم سيلازمونه حتى الموت بعد كل ذلك، حسبما غلب على ظنه، عليه أن يفعل شيئًا حيال تلك الشوكات التي يحسها تغوص في لحمه مثل سن خِياط، وعليه أن يستعد لأن أحدًا لابد وأن سمع زعيقه وسيأتي ليساعده، حسبما يظن مُتفائلًا رغم ما يمر به، عليه أن ينتصب ويقف الآن وفورًا، لكن كيف سيتحرك ويفعل هذا وسط كل تلك الأشواك النافذة في لحمه، وكثافة الأخرى التي تتربص به ومُصَوَّبة تجاهه كنصل سكينٍ مدببٍ يتَوعَّده بطعناتٍ وشيكةٍ! يفتح عينيه التي أجبرهما الرعب والألم على الانغلاق فيصعق؛ إن كانت إلا بضعةَ سنتيمترات فإذا هو مُساوَى بالقضيب، لقد كان أقرب إلى عجلات القطار مما كان يتصور. يتيح له قربه من القضبان التفكير في مد يديه ورجليه ناحية القضيب القريب جدا ليتسنى له الاستناد عليهما ليقف دون مزيدٍ من التحرك أو التقلب على الأشواك الغريسة أو الجديدة، وحين يفعل وتلمس يده القضيب تلسعها حرارته فيتألم ويعيد يده سريعًا، يمكن ليديه من مكانه أن تتجاوز القضيب مستندًا على ما بعدها من الحصى الحجرية ولكنها ليست بالثبات والارتفاع اللذين سيساعدانه، وهو على الأغلب لن يستطيع تجنيب يديه لمس القضيب الساخن إذا فعل؛ لذا يضطر إلى أن ينتظر على وضعه قليلًا مُختبِرًا حرارة القضيب بين الفينة والأخرى حتى يتأكد من فقدانه بعض حرارته للدرجة التي تمكنه من تحمل لمسه.
يضع يديه الآن ويحرك رجليه بدورهما ناحية القضيب ويرتكز عليهما ويرفع جسده عن الصبار والأشواك صارخًا ومُتألِمًا، ثم يلقي بجسده في منتصف الشريط الأول ويحتمل كل الآلام التي بدأت بالظهور وبالتفاقم ويقف سريعًا ومُلتفِتًا بكل ألمٍ وقلقٍ ورعبٍ في كل اتجاهٍ خائفًا من ظهور قطارٍ جديدٍ وهو الذي ما زال يسمع صفيرًا بأذنيه ولا يثق في كونه من الخارج أم من الداخل، يشعر بتعبٍ وألمٍ شديدين، ووَدّ لو يستطيع الجلوس، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك؛ ليس فقط لأنه لا يأمن قدوم قطار؛ بل أيضًا بسبب انتشار الأشواك في مؤخرته وفي مناطق متفرقة من جسده حتى صار جلده كمصفاةٍ يمتلئ بالثقوب التي يتساقط من خلالها الدماء وكأن قلبه يعتصر.
حاول أن يزيل عنه الأشواك ولم يستطع أن يصل إلى جميعها، إلا تلك التي كانت غير مُنغرِزةٍ بعمقٍ وتطل برأسها خارج جلده من أمامه، وما طالته يده من خلفه، وفي كل مرةٍ كان ينتزع شوكةً كان يصرخ بقوةٍ ويتوقف لهُنَيْهةٍ حتى يخف عنه الألم ودون أن يُنسيه رعبه وقلقه الالتفات كل لحظةٍ والنظر بعيدًا أمامه وخلفه خشيةَ أن يهاجمه قطارٌ.
يستطيع الآن أن يجلس، ليس لأنه يريد ذلك ولكن قدماه لا تقوى على حمله، ويجب عليه أن يجلس من أجل أن يفكر -رغم أن جروحه تفرض عليه العكس؛ أن يفكر قبل أني يجلس- فهي لن تكون بالجلسة المريحة كما يأمل ويتمنى في ظل نزيف وتألم مؤخرته من آثار الأشواك التي انتزعها. وفي ظل برودة القضيب المعدني وإحساسه بالبرد الذي بدأ يجتاح جسده كله بسبب دمائه التي فقدها بكثرة حتى أصبحت عورته وجسده العاري لا يحتاجان إلى ستر بفضل تبقعه بتلك الطبقة البنية التي تكونت من امتزاج دمائه والتراب وكَست جُلّ جسده للدرجة التي ستُحيِّر كل من يراه من بعيد وتجعله يدقق النظر ويتساءل: هل هذا الإنسان عارٍ أم يرتدي زيًّا مُمَوَّهًا؟! ولكن هل يأتي أحدٌ؟!، هل يظهر أي شخصٍ؟! يفكر في أثناء جلوسه المؤلم فاقدًا الأمل في مجيء أحد بعدما مر بعض الوقت على صراخه المُدَوِّي الكبير ومُفكِرًا كيف سينجو بنفسه في المرة المقبلة ويعرف أن قطارًا ما قادمٌ من هنا أو هناك! وأي شريطٍ أو قضيبٍ عليه أن يكون بجواره استعدادًا! يتراءى له دون تفكيرٍ كبيرٍ وهو يجلس في مكانه الآن أن أنسب مَوضعٍ هو وجوده على القضيب الطرفي الأخير على أي جانبٍ؛ حيث يكون عليه فقط أن يتحرك في حال لمحه لقطارٍ آتٍ على نفس الشريط، بالطبع سيكون من الأكثر ضمانًا وأمانًا لو أنه يستطيع أن يتواجد بجانب السور مباشرةً، ولكن كيف يفعل ذلك ونباتات الصبار بأشواكها البغيضة تحتل جانب كل سورٍ دون أن تترك شبرًا واحدًا فارغًا، حتى أنها تكاد تتلامس مع القضيب الطرفي وتمتد بكثافةٍ دون انقطاع بطول السور على مد البصر كأن هذا هو موطنها التي تسكنه منذ آلاف السنين قبل وجود القطارات والسكة نفسها، وقد رأى في أثناء مشيه لمسافةٍ كبيرةٍ كثيرًا منها في بعض الأماكن مقطوعةً أو مدهوسةً بسبب تجاوزها القضيب، في محاولة منها على ما يبدو لجس النبض من أجل احتلال المكان وعبور أحد خطي الشريط، أو ربما من أجل استعادة أرضًا كانت تملكها قبل احتلال السكة الحديدية لها.
يتساءل وهو يشعر ببردٍ يتمركز في جسده عن سبب غياب الشمس في هذا المكان المُقفِر المنتشر به نباتات الصبار التي توجد دائمًا حيث سطوع الشمس.
ينظر إلى السماء باحِثًا عنها فلا يجدها ولا يتذكر أنه رآها أو شعر بحرارتها رغم أنه في النهار منذ استيقاظه وحتى الآن، فمازال لا يتذكر أي شيء ولا يتذكر حتى في أيِّ شهرٍ أو فصلٍ هو، كأن كل ما قبل استيقاظه في هذا المكان فراغٌ محضٌ وعدمٌ بحتٌ، ورماديّةٌ مُصمَتةٌ، وحياديةٌ مُربكةٌ، تمامًا مثل تلك السماء التي ما زال يتطلع إليها مُستغرِبًا صفاء لونها الرمادي وسكونها الغامض وخلوها المحير من أي سحابٍ أو بياضٍ أو زُرقةٍ أو طائرٍ. لو أن بمقدوره الطيران ليستكشف ما وراء هذين السورين الشاهقين المستحيل تسلقهما! يُحَلِّق بخياله سارِحًا، ثم ما يلبث أن يفزع وينظر بسرعة عن يمينه ويساره بينما يتعجّل في الانتهاض في اضطرابٍ وانتفاضٍ فلا يجد قطارًا مُقبِلًا كما تهيأ له وأخبرته أذنه، فيهدأ ويعاود الجلوس على القضيب، ثم تأخذ ضربات قلبه المتسارعة في الخفوت بينما يشعر بألمٍ وصداعٍ وبردٍ بازدياد متسقٍ، الآن إذن هو يعلم بعد تفكيرٍ غير عميقٍ مكانه المتاح والأكثر أمانًا، ولكن كيف سيعرف في الوقت المناسب أنَّ قطارًا قادمًا في ظل تلك السرعة الكبيرة التي رآها سابقًا وفي ظل انسداد وطنين أذنه التي ما زال يصدر منها صفيرًا حتى الآن يشبه صفير قطار.! يخالجه شعورٌ بالحيرة بينما يلتفت في انتظامٍ وتزامنٍ يمنة ويسرة. يفكر، يصل بعد بعض الوقت إلى فكرةٍ باستخدام أذنيه ربما تساعده، رغم أنهما يبدوان في غير صفه، يرتكز على يديه ويميل بجانب رأسه ناحية اليمين حتى تلامس أذنه القضيب ويُطرِق قليلًا، ثم يفعل ذلك ناحية اليسار، بهكذا رأى أنه سيتمكن من سماع الصدى الوافد من بعيد لاحتكاك العجلات بالقضبان، بالإضافة إلى أنه غالبًا ما سيحس بالاهتزاز الناتج أيضا، وأيَّما الإشارتين وصلته وسبقت الأخرى؛ فلا فِعل له إلا الفرار بعيدًا عن هذا الشريط. حسنًا الآن سيَلزَم التواجد بالقرب من أول قضيبٍ للشريط الأول بجانب السور الأيمن حيث يجلس، سيُطلِق نظره باحثًا عن ظهور قطارٍ، وسيضع أذنه على القضيب بحذرٍ كل فترةٍ قصيرةٍ، هكذا رتب خطواته الاحترازية من أجل النجاة، ومن أجل أن يخرج من هذا المكان؛ سيستمر في المُضيِّ قُدُمًا حتى يصل إلى بوابة عبور مُشاة أو محطةٍ.
ينهض ويسير مُستكمِلًا طريقه على مهلٍ ومُطبِقًا قواعد السلامة والنجاة الخاصة به؛ يلتفت مُراقِبًا ببصره، وينحني مُطرِقًا بأذنه، وهكذا يفعل حتى تنجح عينيه في رصد وتقدير قطارٍ آتٍ من أمامه على الشريط الثالث، يوراي عورته بيديه ويتوقف وهو يراقبه يقترب سريعًا ويبدأ المرور أمام ناظريه، ويعتريه قليلٌ من خوفٍ مَكسوٍّ ببعض الاطمئنان لانتباهه تلك المرة وإثمار خطته، ويخطر بباله فجأةً أن يُحدِّق ويُركِّز مع نوافذ القطار التي يراها جليةً من مكانه البعيد عن القطار رغم سرعته، وحتى يترقب رؤية أحد الركاب ويشير إليه مُستنجِدًا به، ولكنه يجد كل نوافذه مغلقةً ومعتمةً ولا يظهر أحدٌ من ورائها، غير أنه أيضًا في أثناء ذلك لاحظ مُنزعِجًا أنَّ الضجيج الصادر عن هذا القطار له صدىً مُدَوٍّ مُضاعَفٌ مقارنةً بأي مرةٍ سابقةٍ، حتى شعر بألمٍ متزايدٍ في أذنيه التي تألمه بالفعل، وسرعان ما عرف سبب ذلك فاقدًا الثقة في تفكيره وخطته التي كان قد وصل إليها سابقًا، ومُرتعِبًا للاحتمالات التي قفزت إلى عقله بسبب ما رآه؛ فمع آخر عربةٍ مرت من أمامه من هذا القطار؛ إذ به يُفاجأ بقطارٍ آخرَ يمر من وراء الأول على الشريط الرابع الأخير، كان يمر في عكس الاتجاه وقد أتى على ما يبدو في الوقت الذي كان يتابع نوافذ القطار الأول مُستتِرًا وراءه، كان هذا بمثابة المعول الذي هد وبعثر خطواته الاحترازية الأولى وتركها كومةً لا تصلح لإعادة الاستخدام أو البناء مكانها على هذا الحال. هل يمكن أن يأتي قطاران في وقتٍ واحدٍ على شريطين متجاورين كلٌ في عكس اتجاه الآخر؟! أو حتى على شريطين غير متجاورين؟! أو حتى في نفس الاتجاه؟! لا يهم، المهم هل يمكن أن يقبل قطاران في ذات الوقت أو في وقتين متقاربين! ما رآه الآن يجيب على تساؤله القلق والحائر بنعم، إذن هو ليس في أمانٍ في حالة أتى قطارٌ على الشريط الأول الذي يلزمه ثم تحرك على شريطٍ آخرٍ -أي شريط- ثم فاجَأه قطارٌ آخرَ لم يسعفه الوقت لرصده، ماذا سيفعل؟ أي نظامٍ عشوائيٍّ مريب تتبعه تلك القطارات اللعينة؟! يفكر خائفًا بينما يستمر في النظر إلى كل اتجاهٍ ويتحرك من مكانه من القضيب الأول إلى القضيب الثاني لنفس الشريط ويراوح مكانه مُفكرًا ومُتوتِرًا دون أن يصل إلى خطوات وخطة جديدة تهدأه وتطمئنه. إذا ما لازم مكانه على القضيب الطرفي للشريط الأول ورصد قطارًا قادمًا على هذا الشريط ثم لَمَح آخرَ مُقبلًا على الشريط الثاني المجاور، هل سيكون لديه الوقت الكافي للهرولة تجاه الشريط الثالث أو الرابع ناحية السور البعيد!؟ يفكر بينما يلف حول نفسه ويتردد بين قضيبي الشريط الأول الذي يقف عليه وكيف سيستطيع ملاحظة القطار الثاني من الأصل إلا إذا أتى من نفس اتجاه الأول وفي ذات التوقيت بالتمام أو يسبقه ببضع لحظاتٍ! وهذا خلاف ما حدث، هل يكون الحل الأسلم أن يلزم القضيب الطرفي كما توصل في البداية ثم عندما يرصد قطارًا قادمًا على شريطه يلقي بنفسه على الأشواك! يفكر متوصِّلًا إلى أن هذا هو الحل الوحيد الأضمن، يا له من حلٍ مؤلمٍ ومُهلكٍ على المدى البعيد، إنه مثل ما يُخَير المرء بين إلقاء نفسه داخل قفص أسدٍ جائعٍ أو قفصٍ ممتلئٍ بالثعابين. يلتفت في كل الاتجاهات بينما ينتقل بين زوجي الشريطين الأول والثاني لخوفه وتفكيره في حدوث احتمالية قدوم قطارين متجاورين، يستمر في التفكير، هل المسافة بين شريطين متجاورين آمنةٌ للوقوف أو الانبطاح بينما يمر قطاران في نفس الوقت؟ ينظر إلى المسافة التي تبدو الآن باتساع شريطٍ ولكنها على الأغلب ستضيق كثيرًا بسبب بروز كل قطارٍ عن القضيب، ثم إنه لن يجرؤ أبدًا على خوض تجربة الوقوف أو الانبطاح وسط قطارين يزأران ويطلقان شَرارًا ويُرجْرِجان الأحجار وكل شيء تحت وطأتهما، فلربما وقع أو تحرك فصدمه أحدهما أو دهسه الآخر، تنذره أذنه بصفيرٍ مستمرٍ فيرتعب وينظر بعيدًا ويُنصِت سمعه بسرعةٍ وبالتوالي إلى قضبان الشريطين المتجاورين ثم يعود إلى القضيب الطرفي وهو يفكر في الاختيار «الأسد أم الثعابين»، إذا كان لأحدٍ أن يختار بأن يدخل إلى جحر ثعابين؛ فكيف يستطيع أن يميز الثعابين غير السامة! إلا إذا كان خبيرًا، وكيف يكون الخبير في أمر كهذا خبيرًا دون أن يُسمَم ويموت، أو على أقل تقدير يتأذى أيُّما أذى، وما يدريه لعل أشواك الصبار من فصيلةٍ سامةٍ!، هو على الأقل لا يعلم، وقد تعرض لأشواكها دون أن يموت حتى الآن، وإن كان سيموت جرَّاء سم الصبار؛ فسيكون هذا غالبًا بطيئًا على نحو يوفر له بعض الوقت الذي ربما يتيح له فرصة الخروج من هذا المكان ومقابلة من يسعفه وينقذه من سريان السم بدمه، وهذا لا يقارن بتاتًا بسرعة وعذاب وانقطاع أمل الخروج بالموت أسفل عجلات قطارٍ. الفكرة الأخيرة التي أتته كانت محاولته اجتثاث الصبار وشَغر مساحةً يستطيع أن يقف فيها، أو نقل عددًا كبيرًا من الحصى الحجرية فوق النبات ليقف عليها مُقترِبًا أو مُلتصِقًا بالسور، ولكن كثافة نبات الصبار وتجذُّره في الأرض سيمنعه من سهولة عمل ذلك بخلاف رغبته في تواصل المشي لا التوقف حتى يجد بوابة مزلقانٍ أو مَنفذًا يخرج منه من هذا الجحيم، لذا يختار بكل ألمٍ أنه سيلقي بنفسه على الأشواك ويلزم القضيب الطرفي للشريط الأول بجانب السور الأيمن حيث تحرك وعاد الآن، وكما هي الخطة الأولى بزيادته الجديدة، على أن يحرص ألا يدوس بقدميه العاريتين على الأشواك لكيلا تتجرحان فتحُول جروحهما بينه وبين الفرار من قطارٍ أو الاستمرار في السير، سيلقي بجسده إذن مثلما حدث سابقًا. في هذه الأثناء يتلبسه هلعٌ وينخلع قلبه من مكانه ويخر مُرتميًا على الأرض من فرط ذعره حين وجد قطارًا يمر من أمامه على الشريط الرابع ناحية السور البعيد، يتعجب مُرتعبًا من عدم مرور وقت طويل يُذكر بعد القطار الأخير الذي مر على نفس الشريط، ولكنه يلحظ مُستغرِبًا أنه مر في نفس اتجاه سابقه. أي فروق زمنية بينية هذه التي تنظم توقيتات تلك القطارات! يستجمع تركيزه ويستجلب انتباهه حتى لا يأتي قطارٌ آخرَ على حين غرةٍ ويبدأ في استكمال المشي مُتجِهًا إلى الأمام، يلتفت وراءه، ويلصق أذنه بالقضيب في تعجلٍ وقلق، ثم يعاود التقدم، وهكذا دواليك.
وبعد مسافةٍ كبيرةٍ من السير يتوقف تعِبًا ومُتسائلًا عن غرابة تلك السكة الحديدية، يبدو له أنه قد قطع مسافةً طويلةً جدًّا، كان لابد أن تظهر محطةٌ أو مزلقانٌ أو أي مبنى خارج أو داخل السورين الشاهقين، لكنه لم يقابل أيًّا من ذاك، لقد أنهكه التعب والعطش والجروح والبرد الذي تغلغل إلى عظامه مُتفاقِمًا بسبب إحساسه بالجوع الشديد، ماذا سيفعل البرد به حين يأتي الليل ويشتد، ومتى يأتي الليل؟ لا يستطيع أن يحدد في أي وقتٍ هو بسبب غياب الشمس منذ لحظة استيقاظه، لكنه يُقدِّر أنه قد مشى قرابة نصف نهارٍ، دون أن يرى كائنًا حيًّا أو مبنىً أو مزلقانْا وبغير أن تسطع شمسٌ، ودون أن يسمع صوتًا مُختلفًا عن ذاك الذي مازال صفيره يتردد بأذنيه كأن عدد لا نهائي من قطاراتٍ بعيدةٍ تُصفِّر بتناوبٍ واستمرارٍ، أو أخرى قريبةٍ قد سكنت داخل أذنيه مُسببةً الطنين المستمر متفاوت القوة. بدأ الشك يساوره في إن كان سيجد مزلقانًا، لقد بدأ يفكر في هذا المكان كسجنٍ من نوعٍ خاصٍ غريبٍ وهو محكومٌ عليه بقضاء عقوبة التواجد فيه حتى الموت، وبينما هو يجلس على القضيب الطرفي إذ بصوت صفير قطارٍ وهزيزٍ يقتربان فيقوم في رعبٍ يترقب، يَلحظ قطارًا قادمًا من بعيد ويبدو له مُتخذ الشريط الثاني مسارًا، تتعالى ضربات قلبه إذ يتأكد من مسار القطار ويفكر في مصير جسده إذا ما حدث وفاجأه قطارٌ آخرٌ آتٍ على الشريط الذي يلزم قضيبه الطرفي في نفس وقت مرور القطار الحالي على الشريط الثاني المجاور، يبدو أنَّ القطار بطيءٌ تلك المرة إذ يراه لا يزال بعيدْا ولم يقترب منه كثيرًا، يراقبه وهو يلتفت كل ثانيةٍ أمامه وخلفه خائفًا ومُترصدًا قدوم قطارٍ على شريطه، حسنًا سيستمر في فعل تلك الالتفاتات الحذِرة ويؤخر الإلقاء بجسده على الأشواك؛ فلربما يمر القطار الحالي بأكمله دون أن يأتي آخر على الشريط الذي يلزمه، يضع إحدى يديه على عورته استعدادًا لاقتراب القطار ومُذكِّرًا نفسه ألّا ينسى التحديق بنوافذ القطار في خضم التفافاته ومراقبته للقطار الآخر المتوقع قدومه على شريطه؛ حتى يُشير ويُثير انتباه الموجودين خلف النوافذ المُسكَّرَة. يتعجب من أن القطار مازال بعيدًا، كأنه مبطئٌ أو مُتوقِّفٌ. يخطر على باله أن يغدو في السير ناحية القطار لعله حقًّا مُتوقِفٌ، هل يمكن أنْ يكون هناك محطةٌ أو مزلقانٌ فتوقف القطار أو بَطُؤَ لذلك!؟ أخيرًا يسطع أملٌ في أفقه الغائم، يُسرِع في خطواته دون أن يتوقف عن الالتفات، يحاول العَدْو فلا تساعده قدماه الحافيتان ولا الأرض المكسوة بالحصى الحجرية، يبدو له أن القطار في مكانه، في تفاؤلٍ وتلهُّفٍ يستمر في المضي قدمًا ناحية القطار بأقصى سرعة يستطيعها. يبدو أن القطار قد بدأ بالاقتراب والتسارع، ينقبض قلبه، يرى مقدمة القطار بوضوحٍ الآن من تلك المسافة القريبة على الشريط المجاور، إنه فعلًا بطيءٌ للغاية، لكنه يصعق مما يحدث ويفزع آخِذًا خطواتً مُتعثِرةً إلى الخلف، القطار يغير مساره! لقد أصبحت القاطرة على الشريط الأول الذي يقف عليه وتجرجر باقي عرباته من الشريط الثاني المجاور لتنتقل تباعًا خلفها في مَنظرٍ مَهيب يبدو وكأن جيشًا زاحِفًا يتصافّ من أجل حصاره والانقضاض عليه، يالله! أوَ كلما وصل إلى خطةٍ تُجنِّبه المفاجآت، حدث ما هو غريب وجديد وما لم يكن يضعه في حسبانه! القطار بدأ يتسارع واقترب منه إلى حدٍّ كبير، عليه الآن أن يتخذ قراره إن كان سينتقل إلى الشريط الثاني المجاور أم يرمي بجسده وسط الأشواك، لا وقت أمامه لينظر خلفه حتى يرقب قدوم قطارٍ في عكس الاتجاه على الشريط الثاني المجاور، ولو انتقل إلى الشريط الثاني المجاور وأتى قطارٌ في ذات الوقت؛ هل ينتقل إلى الثالث ثم إلى الرابع إذا حدث الأمر نفسه؟ وخصوصا أنه لن يقف في المسافة ما بين أي شريطين، هل يمكن أن تأتي قطاراتٌ أربع في آنٍ واحدٍ؟! يفتك به الهاجس والقلق والخوف، والقطار سيصدمه في خلال ثوانٍ إذا لم يتحرك الآن..
أخيرًا، يأخذ قراره، بل إنه نفَّذه قبل أن ينتهي من التفكير فيه، يلقي بجسده صارخًا على الأشواك، وبدورها، وبكل شوقٍ وسلوانٍ تحتضنه بقوةٍ، تحتويه، وتتشبث به وكأنها كانت تنتظره تلهفًا، كانت آلامه الرهيبة التي يشعر بها تقطع جسده في تلك اللحظات سببًا في أنه أقسم في سريرته -وهو مُتكوِّمٌ يعوي كجروٍ مجروحٍ لم يكد يتوجَّع من آثار أماكن الأشواك القديمة حتى اجتاح الألم والدماء باقي جسده الذي غَزَته الأشواك بالكامل- أنه سيختار أن يلقي بنفسه أسفل عجلات القطار في المرة القادمة؛ ما الفرق بين آلامه المُتفاقمة الآن وآلامٍ لحظيةٍ ستحدث حينها وينتهي الأمر بسرعةٍ أسفل القطار! رغم أنَّ القطار قد أخذ وقتًا طويلًا حتى مر بالكامل بسبب بطء سرعته الملحوظة؛ إلا أنه استمر في مستقره وقتًا أكثر طولًا مُتمنيًا الموت على محاولة القيام؛ إذ كان غير قادرٍ على الحراك من موضعه وكأنه قد تثبت في مكانه تثبيتًا، واجتاحه ثِقلٌ وخَدرٌ وجُمودٌ في جُلِّ جسده شعر بسببها وكأنه قد تحول إلى تمثالٍ حجريٍ مطموس الملامح، لكنه -رغم ذلك- وبعد وقتٍ ليس بطويلٍ، يعلم أنه قد رَكَن إلى القرار الصائب، أو على الأقل القرار الأقل هلاكًا إذا ما اعتُبر تفكيره في إلقاء نفسه أسفل القطار القادم أمرًا غير جادٍّ، ففي أثناء أنينه المكتوم وهو مزروعٌ وسط الأشواك الناهشة تداهم جسده الدامي عاصفةٌ من ترابٍ تكسوه بطبقةٍ جديدةٍ، ويسمع على إثر ذلك قطارًا يمر بسرعةٍ وصخبٍ كبيرَين، فيرفع رأسه ويفتح عينيه ليلمح العربات الأخيرة من قطارٍ يمر بسرعة كبيرةٍ على الشريط الثالث، ثم يرى من وراءه على الشريط الرابع البعيد قطارًا يمضي بسرعةٍ جنونيةٍ كبيرةٍ في عكس الاتجاه، تمامًا مثلما حدث من قبل، يستجمع قواه ويقوم عن الأشواك في تألمٍ شديدٍ، يجلس ليستريح مُحاوِلًا إزالة الأشواك عن جسده الذي لم يعد به مَوضِعًا واحدًا غير مثقوبٍ ولا ينزف دمًا، يجرجر قدميه ماشيًا ببطء سلحفاةٍ عرجاءٍ حتى يصل بعد وقتٍ وجهدٍ كبيرَين إلى المكان الذي بدا له القطار واقفًا فيه، لا محطةً أو مزلقانًا موجودَان كما كان يأمل، يتملكه اليأس، يلفت نظره شكل القضبان المتقاطعة ها هنا، فيتمعنها جيدًا حتى يحدد وجود ثلاثة أزواج إضافية من القضبان العرضية القصيرة والمنحنية بعض الشيء، حيث يمتد كل زوج ما بين كل شريطين حتى يلتحم قضيبيه القصيرين ويوازي قضيبي الشريط الآخر في نفس مساره، إنها تحويلات، ومن حيث اتجاه قدوم القطار الأخير على الشريط الثاني قبل أن يتحول، استطاع أن يحدد أن الزوج الأول من التحويلات يصل الشريط الثاني بالأول وكما حدث أمامه وتحول القطار إلى الشريط الأول، وزوج ثانٍ يصل الشريط الثالث بالثاني، وثالث أخير يصل الشريط الرابع بالثالث، لهذا السبب كان يبدو له القطار متوقفا في هذا المكان، كانت سرعته بطيئة جدًّا من أجل تحويل مسار سيره. يعود أدراجه قبل موضع التحويلات الحالي بمسافة قصيرة ماشيًا في نفس اتجاه مسير القطار الأخير المتحول إلى الشريط الأول، فيجد موضعًا ثانيًا قد فوته لثلاثة أزواج أخرى من قضبان التحويلات العرضية، ومن حيث تخيل قدوم قطار على الشريط الثاني في عكس الاتجاه، يحدد أيضًا أن الزوج الأول هنا يصل الشريط الثاني بالأول، والزوج الثاني يصل الشريط الثالث بالثاني، والزوج الثالث والأخير يصل الشريط الرابع بالثالث، ستة من أزواج التحويلات موجودين في تلك المنطقة، يلتفت حوله في كل مكان فلا يجد مبنى المراقبة حيث من المفترض وجوده ووجود عامل التحويلة وروافع التحويلات بداخله، يعود إلى وجهته الأولى في المشي مستكملًا طريقه ومتقدمًا ببطء إلى الأمام بينما يتفقد المكان جيدًّا حتى يمر على موضع التحويلات الثلاثة الأولى فيلمح قبالتها ثلاثة أعمدة حديدية قصيرة تطل من بين الصبار بجوار السور الأيمن ويلحظ العمود الأول مائلًا بخلاف الآخرين الواقفين، على الأرجح تلك هي الروافع اليدوية المسئولة عن تغيير وتحويل طريق سير القطارات في هذا الموضع ويبدو أن المائلة منهم هي المفعلة والمسؤولة عن تحويل القطار من الشريط الثاني إلى الشريط الأول كما حدث، ويبدو جليًّا أن أحدًا لم يأتِ هنا أو يفعل ذلك منذ زمن بعيد، حيث نمت نباتات الصبار وغطت الروافع الثلاث إلا من رؤوسها، ويخمن وجود ثلاثة روافع أخرى عند السور البعيد في مكان ما هناك، يفكر قليلا ثم تقفز إلى رأسه فكرة؛ يقرر أن يظل في هذا المكان ريثما يأتي قطار متباطئ من أجل التحويلة فينادي سائقه أو أحد الركاب من مسافة قريبة، ولم تكد الفكرة تصل إلى رأسه حتى يجدها ترتج من صوت قطار قادم بسرعة جنونية على الشريط الثالث وفي تجاه معاكس للقطار الأخير على ذات الشريط، يذكره ذلك بالانتباه والالتفات الحذر الذي نسيه لوقت قليل في هذا المكان وأن ثمة نظام غير مفهوم لمرور وتبادل وتحويل تلك القطارات، فيلتفت ويترقب ويطلق نظرات حذرة بانتظام، وبين كل لفتة ونظرة يدٌ تلوِّح وهو يصرخ تجاه نوافذ القطار والأخرى تحجب عورته كأنها ستار، لكن هيهات أن يسمعه أحد أو يراه، فدوي القطار يطغى على صوته، ونوافذه تبدو كإطارات مرسومة وغير حقيقية، يبدو أن تلك القطارات من الأنواع فائقة السرعة والتي لا يمكن فتح نوافذها في أثناء سيرها، يجلس على القضيب الطرفي منتظرًا ومتمنيًا ألا يضطر بأن يلقي بنفسه في الأشواك وأن يراه سائق قطار بطيء أو أحد ركابه قبل أن يحدث هذا، يشعر بجوع وعطش قاتلين يصاحبهما دوار، ينظر إلى نبات الصبار مفكرا في إمكانية بل ريقه بعصارته المرة ويبحث عن موضع يمسكه منه ليقطعه فلا يجد، إذ إنه ممتلئ بالأشواك في كل مكان، يتذكر أنه قد رأى قطعة صبار مقطوعة وملقاة في مكان ما بين موضعي التحويلات، يرجع باحثًا عنها ويجدها، ثم يمسك بحجرين ويضرب جلدها السميك وشوكها بقوة وتكرار، ويبدأ في الإمساك بها بحذر بعد تقصُّف أشواكها وظهور لبها، يتَمَطَّقه غاصًّا به بسبب الطعم المر للهلام الأصفر الذي يظهر أسفل قشرتها السميكة مباشرة، يحاول تجاوزه إلى اللب الأخضر ويأكله فيجد طعمه حلوًا مستساغًا وإن خالطته الهلام الأصفر المر فأفسد حلاوته قليلًا، يستمر في التفاتاته ويشعر بحاجته إلى المزيد فينتقي حجرين كبيرين ويذهب إلى إحدى النباتات المزروعة فيضربها من الأعلى والأسفل مطبقًا عليها الحجرين مرارًا وتكرارًا حتى تنقطع بعد تعب وجهد ونفاذ بعض الأشواك إلى يده، يفعل بها مثلما فعل في الأولى ويأكل بنهم لبها الأخضر حلو المذاق محاولًا قدر الإمكان تفادي الهلام الأصفر المر الذي يغلف اللب الأخضر الحلو، كان هذا بالنسبة إليه اكتشافًا هامًّا، بل إنه أفضل شيء حدث له حتى الآن في هذا المكان الغامض البغيض، يكرر قطع نبتة وراء أخرى متحمّلًا للشوكات التي أدمت يديه جراء ذلك حتى يشعر بالشبع والدفء وسريان الطاقة في جسمه كله وكأن جسده المنهوك يحيا من جديد، بل إنه قد أحس بتسكين آلامه الناتجة عن نفس النبات، لقد أحب تلك النباتات واطمئن فجأة لوجودها، إذ لا يعلم كم سيبقى في هذا المكان، وهي توفر له مصدرًا لغذائه، لو أنها لم تكن بتلك الكثافة فتسمح له بمجاورة السور، أو لو أنها كانت على كثافتها ولكن بلا أشواك مدببة؛ لكان الآن في شُقَّة من الوَصَب والزعج، دعاه هذا الأمر إلى التفكير والاستعجاب؛ فمن الغريب أن يجود عليه الشيء الذي تسبب في عذابه وآلامه بطعام يبقيه حيًّا، في تلك الأثناء تصفِّر وتطن أذنيه بازدياد فيدرك أن قطارًا قادمًا فيلتفت مترقبًا بتركيز كبير حتى يرصد من مكانه قطارًا قادمًا بسرعة منخفضة من بعيد على الشريط الثاني من عند موضع التحويلات الأول، يقترب قليلًا من موضع التحويلات الأول حيث كان قد بعد عنها في أثناء بحثه عن الصبار المقطوع. يتوقف، ويستعد لكافة الاحتمالات ويصب تركيزه على مقدمة القطار التي بدأت تظهر له واضحة، يقترب مشيرًا بيديه الاثنتين لسائق القطار، يقفز ويصرخ ويلوح، لكنه لا يرى السائق ولن يراه من خلال هذا الزجاج الأسود لمقدمة القاطرة، يسعد إذ يلحظ تباطؤ سرعة القطار أكثر وأكثر وهو يقترب من التحويلة، يخمن أنه على وشك تحويل مسار سيره، ينتقل الجرار بالفعل من الشريط الثاني إلى الشريط الأول حيث يقف هو وبسرعة منخفضة للغاية ساحبًا وراءه العربات، مستمرٌ هو في التلويح إلى سائق القطار رغم أنه لا يراه بينما ينتقل سريعًا إلى المسافة ما بين الشريطين الأول والثاني وكله أمل أن السائق قد رآه وسوف يتوقف من أجله، لكن السائق لا يتوقف وتستمر القاطرة في سرعتها البطيئة مجرجرة باقي عربات القطار من الشريط الثاني إلى الشريط الأول عبر التحويلة، يدرك فجأة أنه قد نسي أن يداري عورته بإحدى يديه في خضم حماسه في التلويح للفت انتباه السائق، وعندئذ؛ يظن أن السائق ربما لن يتوقف بسبب شكله وعريه الذي يوحي بالتبجح والتسول والجنون، هل كان السائق ليتوقف له لو أنه استخدم إحدى يديه في تغطية عورته بعكس ما فعل! هل سيشكل ذلك فرقا كبيرًا؟! يتساءل مفكرًا، ربما وجود يد واحدة على الأقل ساترة لعورته هي دلالة بشكل أو بآخر على أنه عارٍ رغما عنه ودون رضاه على عكس ظهوره غير عابئ باستخدامهما إلا في الإشارة والتلويح. عندما يخاف أن السائق لن يتوقف من أجله، وعندما يخشى انتهاء عبور كل العربات عبر التحويلة ومن ثم ازدياد سرعة القطار، وعندما يرتعب من احتمالية قدوم قطار آخر الآن على غفلة منه، عندها فقط يقرر مستجلبًا جرأته الصعود إلى القطار وركوبه من خلال تسلق السلم الصغير الذي يراه بارزا عند كل باب مغلق، يتعلق بالسلم ويصعد ممسكًا بمقبض الباب محاولًا دفعه إلى الداخل حتى ينفتح، يضربه بجسده بينما يدير مقبض الباب بقوة، يتسارع الجرار بعدما انتظمت كل عرباته من ورائه على نفس الشريط؛ الشريط الأول، يفكر أن يقفز وينظر من مكانه لئلا يكون هناك قطار سريع قادم على الشريط الثاني في عكس الاتجاه، يتردد ثم يخشى بسبب سرعة القطار التي ازدادت على نحو يصعب معه القفز، يطرق الباب بقوة بيد واحدة وهو يصرخ بأن يفتح له أحد بينما يضغط على مقبض الباب ويديره، تزداد سرعة القطار، يدفع بكل قوته بجسده ويدير مقبض الباب فينفتح الباب ويندفع جسده داخل القطار مرتميًا على أرضيته بينما يرتعش ويكاد يموت رعبًا وتعبًا، يغلق الباب بسرعة عن طريق دفعه بقدمه وهو غير مصدق أنه نجا، يقوم بصعوبة وهو يشعر بجسده كله ينتفض ولا تقوى رجله على حمله، يكابد ويقف مستندًا على ظهر المقعد الأول ويواري عورته بيديه وهو ينظر في لهفة ناحية الركاب، القطار مظلم، ولكن ليس لتلك الدرجة التي لا تجعله يرى، يجول ببصره مدققًا النظر بكل مقعد ثم ينزل يديه من فوق عورته مستغربًا، تلك العربة خالية من أي راكب، يجلس على أول مقعد بالصف الأيسر ليلتقط أنفاسه وليستريح ويبسط ظهره للخلف ويسند رأسه، لم يجلس على مقعد بتلك الراحة من قبل، لا يتذكر جلوسًا له غير جلسته على القضيب، يشعر بأن النعاس يغالبه، هو يريد أن ينام ولكنه لا يريد تفويت أي محطة، ودون أن يشعر تقهره رغبته في النوم، قلبه مازال يخفق بقوه وجسده منهك ولا يعلم هل ما زال يرتعش أم أن اهتزاز القطار هو ما يتسبب في ذلك أم كلاهما، وعقله مجهد ومستنفذ وكان لابد أن ترغمه حالته التي تنتقع في التعب على النوم الفوري. على الأقل هو الآن يشعر باطمئنان كبير بينما يتجاوز بكل سلاسة وسرعة الحد الفاصل بين اليقظة والنوم ولا يحمل هم قطار يدهسه حين ينام هنا على خلاف السكة الحديدية حيث كان، ينام سريعًا وعميقًا، وحين يصحو ينتفض واقفًا وفزعًا؛ إذ يتذكر كل ما حدث له دفعة واحدة، يحاول الذهاب بذاكرته إلى ما قبل استيقاظه على السكة الحديدية فلا يستطيع، يريد أن ينتهي من هذا الكابوس، يلوم نفسه متضايقًا؛ لأنه لم يكن يريد أن ينام ويفوت أي محطة، ينظر إلى المقاعد في عربته فيجدها مازالت خالية، يفكر كم نام من الوقت، يبدو أنه نام كثيرًا، إذ يشعر أنه في كامل استفاقته وتركيزه غير أنه أيضًا يشعر بجوع شديد لا يكون بتلك القوة إلا لمن نام طويلًا جدًّا، يفكر أن ينظر خارج القطار فيجلس في نفس اتجاه سير القطار على المقعد المجاور للنافذة ويرفع الشباك الداخلي للنافذة التي بجواره لأعلى بصعوبة كأنها مغلقة منذ وقت طويل، وحين ينجح، تدخل إضاءة النهار عبر الزجاج فتؤلم عينيه ويغمض قليلًا قبل أن يفتحهما تدريجيًّا متسائلًا: هل نام حتى صباح اليوم التالي أم نام سويعات أو بعض ساعة من النهار الذي لم ينقضي بعد؟ ينظر عن يساره من خلال النافذة الزجاجية فيقابله السور ونباتات الصبار التي يراها وكأنها مشوشة بسبب سرعة القطار الجنونية ويدرك أن القطار قد غير مساره خلال نومه حين يرى الشريط الأول، هو الآن إذن على الشريط الثاني في غير موضعه الذي انطلق منه، حيث كان على الشريط الأول حين ركب القطار وقبل أن ينام يقشعر جسده متذكرًا الأشواك وانغراسها المؤلم في جلده ثم يتذكر جوعه، ينظر لأعلى إلى السور الشاهق الممتد ويود لو يعرف أين هو أو يساعده أحد على أن يتذكر، يقوم بعد أن أُنيرت عربة القطار ليبحث فيها عن شيء يرتديه قبل أن ينتقل إلى عربة أخرى وحتى لا يدخل العربة على الركاب وهو عار هكذا فيفزعون، يمشي بين صفي مقاعد العربة باحثًا بينها وفوقها وفي كل مكان فلا يجد شيئًا يمكن أن يستره، كيف سينتقل إلى العربة التالية الآن!، هل ينتظر في تلك العربة حتى يقف القطار في إحدى المحطات وينزل؟! وقتئذ سيكون الناس أكثر عددًا، يقرر أن ينتقل إلى العربة الخلفية التالية ويطلب من الركاب سترة ويشرح لهم ما هو فيه ليساعدوه، يداري عورته استعدادًا بينما يعبر باب عربته مغلقًا الباب خلفه ومتجاوزًا المسافة الفاصلة بين العربتين ثم يفتح باب العربة الأخرى ويدخلها، العربة مظلمة أيضًا، يضيق عينيه ويحدق لثانية ويقترب فيتملكه التعجب من خلو تلك العربة أيضًا من الركاب، يفتح إحدى النوافذ ويبحث عن أي شيء في العربة يصلح للارتداء فلا يجد، يدلف إلى عربة تلو الأخرى ويفتح نافذة وأخرى ويبحث، ولا راكب واحد موجود ولا أثر واحد لوجود أي ركاب كانوا هنا، وحين يصل إلى العربة الأخيرة يعيد التفتيش في كل العربات الأمامية من جديد حتى يصل إلى أول عربة تلتصق بالجرار وقد اجتاحه خوف وقلق بسبب خلو القطار من أي راكب أو عامل تذاكر حتى. كيف لا يوجد أي ركاب أو أثر لوجود سابق لأي كائن! قطارات الليل هي ما تكون شبه خاوية وحتى ليس لتلك الدرجة، فما بال هذا القطار وهو في النهار مهجور كأنه يعمل من أجل توصيل الغبار الذي يستقلها ويشغل مقاعدها كلها، يجلس في الصف الأيسر في اتجاه سير القطار على أحد المقاعد مذهولًا ومفكرًا، ثم يقرر أن يلزم مكانه حتى أقرب محطة وينزل، يمر وقت طويل جدًّا وهو يراقب الخارج من خلال النافذة الزجاجية التي تطل على الشريط والسور ونباتات الصبار التي لا تنتهي دون أن يرى محطة، ينتقل إلى صف المقاعد الثاني الذي عن يمينه ويجلس على مقعد في اتجاه سير القطار ويتطلع من حيث تطل النافذة التي فتحها على الشريطين الآخرين، وعلى السور الآخر لتصبح مجال رؤيته أوسع قليلًا على هذا الجانب ويستطيع المراقبة من كلا النافذتين على الصفين. يمضي وقتًا طويلا كسابقه دون أن تأتي محطة أو يرى مبنى بازغًا من وراء الأسوار باستثناء قطارات كالذي يركبه تمر على الشرائط المجاورة بين الفينة والأخرى اعتادها ولم تعد تفاجأه أو تفزعه. ينهض ويتمطى بعد أن نَمِلَت رجلُه وأصاب جسمه خدر وتيبس من طول الجلوس على المقاعد المصنوعة من حديد وبلاستيك غليظ، ما هذا المكان؟! يتساءل متمشيًّا، ربما تكون تلك السكة الحديدية من النوع الذي يصل بين الدول والقارات حيث المسافات الكبيرة للغاية، ربما! لقد بدأ يشعر بدوار الجوع، يعود إلى مكانه، يتطلع إلى الصبار بنظرات تَوْق وجُوع متذكرًا مذاق لبه الأخضر الحلو، يمضي وقتٌ طويلٌ آخرَ ولا جديد سوى اشتداد تضوره جوعًا وازدياد توتره خوفًا، يستشعر تباطؤ سرعة القطار فيبتهج لظنه أن محطة قد اقتربت، لكنه يشعر بحركة انتقالية للجرار والعربة التي تليه، حيث يجلس فيعرف أنها تحويلة، ويستشعر تحرك القطار المفاجئ والبطيء يمينًا من حيث يجلس وينظر من النافذة ليجد القطار يغير مساره في تلك اللحظة من الشريط الثاني إلى الشريط الثالث، يفكر متتبعًا مسارات قطاره، كان قد أتى منذ البداية من الشريط الثاني متحولًا إلى الأول حين تسلق إليه وركبه، ثم في أثناء نومه تحول إلى الشريط الثاني على حسب ظنه، وها هو الآن يتحول إلى الشريط الثالث، يتحول مسار تفكيره ويقوم مسرعًا بسبب فكرة أتته وأراد تنفيذها في هذا الوقت تحديدًا. يفتح الباب الفاصل بين العربة والجرار وينظر جيدًا إلى الجرار ثم يتسلقه من جنبه الأيمن قاصدًا الوصول إلى مقصورة السائق، يساعده على ذلك بطء سرعة القطار ووجود ممشى رفيع حديدي ممتد على كلا جانبي الجرار حتى بابه، يصل إلى الباب ويطرقه ثم يكابد فتحه وينجح قبل أن يبدأ القطار في التسارع، وعندما يدخل يصعق إذ لا يجد سائقًا موجودًا، القطار يمشي دون سائقٍ! بل إن المقصورة تبدو مُفرغة من أي عجلاتٍ أو روافعٍ أو مكابحٍ أو أي شيءٍ يخص القيادة، اقترب من مقعدٍ أمام الزجاج الأمامي حيث جلس مبهوتًا وقد اشتعل القطار جريًا وسرعةً، يجتاحه رعبٌ وارتعاشةٌ وتسري برودة الخوف والجوع في كل جسمه حتى يصيبه خدر، ماذا يفعل؟! من يقود هذا القطار؟ من يوجهه أو يديره؟ وكيف يتزود بالوقود إن كان لا يقف؟ هل تعمل تلك القطارات بالكهرباء؟ لكنه يتذكر جيدًا عدم رؤيته لقضبانٍ أو أسلاكٍ تعتليها كي تستمد منها طاقتها الكهربية بالتلامس وهو يمشي، هل تستمدها من القضبان أم تسير بقوة تجاذب مغناطيسية؟ وهل كل القطارات خالية هكذا؟ جميعها متشابهة من حيث لونها المعدني المنطفئ وتصميمها المتطابق، إذن فعلى الأرجح أنها كلها خالية من أي إنسان، من يتحكم بتلك المنظومة؟ وأي مكانٍ مُلغزٍ وغامضٍ هذا؟! يضطرم بالقلق والخوف الشديدين، إن المكان ليبدو من مقعده حيث يجلس مُختلفًا، الجرار يجري بنهمٍ وبسرعةٍ مرعبةٍ وكأنه يلتهم كل ما أمامه من قضبان وحصى حجرية ومسافة وزمن، إنه كوحش يركد ولا يتعب، ويأكل ولا يشبع، يبدو وهو يسير بتلك السرعة المُهلكة بلا سائقٍ وكأنه سيخرج عن مساره في أي لحظةٍ، حتى تعيَّن عليه أن يصبح وكأنه عين هذا الوحش وهو يتابع مسيره بتركيز وتوجس ويعاين الأفق البعيد والقضبان المستقيمة الموازية للسورين الشاهقين بحذر وترقب، يدقق النظر أبعد، فيلحظ أن النهاية البعيدة التي تبدو لعينيه بها انحناءة على نحوٍ ما، القضبان والسوران والصبار يأخذون هناك مُنْحَنًى طفيفًا لم يكن يلاحظه من قبل، لكن بماذا يفيده ذلك!؟ هو يريد أن يخرج من هذا المكان بأي حال، بل إنه الآن يريد أن ينزل من هذا القطار المخيف الذي يسير بغير هدى أو قائد كأن شبحًا يُسيِّره عن بعد. ينقضي وقتٌ طويلٌ وهو على هذا الحال، وما يمنعه من النزول من القطار إلا سرعته، يشتد به العطش والجوع ويشعر وكأنه على وشك الإغماء، وبعدها ومن حيث لا يدري تأخذه لثوانٍ غفلةٌ أو إغماءةٌ لا يستطيع أن يُفرِّق، يتطلع إلى الصبار آملًا في قدوم تحويلةٍ، فقدَ تركيزه وقوته ويشعر بوهنٍ كبيرٍ وكأن رُوحه تَنسَلّ منه. يذهب في إغماءةٍ ثانية لوقتٍ قصيرٍ ويصحو مُدرِكًا ما يحدث له ومُتمنيًا نجاته لأجل أن يفعل شيئًا واحدًا وإن كان آخر ما يفعله، وهو الانتقام من هذا المكان اللعين وتلك القطارات المريبة. إن هذا المكان عدوٌ لدودٌ، خصيمٌ بغيضٌ، كل ما فيه يتربص به ريْب المَنُون، كأنه يخيره ما بين بقاءٍ بعذابٍ بطيءٍ طويلٍ أو فناءٍ بموتٍ سريعٍ شنيعٍ، لكنه حتمًا في نهاية المطاف سيأخذه نحو هلاكٍ حقيقٍ. يروح في إغماءةٍ أخرى طويلةٍ جدًّا دون أن يدرك، إلا أنه لم يستطع أن يميز طولها حين يستفيق، وقد بلغ الجوع والإعياء منه منتهاه، لكنه استطاع أن يميز تباطؤ سرعة القطار رغم نظره المغبش وعقله المشوش، وأدرك أنها تحويلة حين يحدد انتقال الجرار يمينًا من الشريط الثالث إلى الشريط الرابع المجاور للصبار والسور، ويشعر بتغييرٍ في مساره قد بدأ. يقوم دائخًا ويتجه في اضطرابٍ ناحية الباب الذي عن يساره، وبصعوبةٍ يتمكن من النزول من القطار مُلقيًا بجسده بعيدًا على المسافة بين الشريط الثالث والشريط الرابع حيث ينتقل القطار، وبعد أن ينتقل القطار ويمر بأكمله من الشريط الرابع ينتقل إليه فورًا بمشقةٍ وتعسرٍ قاصدًا قضيبه الطرفي الأخير، ويتكبد عناءً مُضنيًا وهو يضرب فرعًا من نبات الصبار بين حجرين أمسكهما على عجلٍ حتى تنقطع النبتة أخيرًا بعد جهدٍ جهيدٍ فينقض عليها غير عابئٍ ببقايا أشواكها التي أدمت شفتيه أو بصفير القطار الذي لا يعرف مصدره، ويلتهم ما بداخلها عن آخره، يكرر فعل ذلك مراتٍ ومرات بإصرارٍ واستمرارٍ وشَرَهٍ، وفي كل مرةٍ كان يزداد حرصه وهو يأكل ويستعيد قوته ووعيه تدريجيًا حتى يسري الدفء والنشاط في جسده وتمتلئ بطنه عن آخرها. يجلس على القضيب الطرفي الأخير غير آبهٍ لحرارته، مُفكِرًا وهو جامد الملامح وثابت النظرة ومُستعِدًا للنهوض من أجل أن يفعل الشيء الذي تمنى فعله، يقوم مُستديرًا ومُتجوِلًا ببصره بطول السور، تُرى كيف سينتقم -كما يظن- من هذا المكان الحصين الذي لا مخرج ولا منفذ منه! ألم يكن من الأفضل له لو بقي في القطار حيث يستطيع أن ينام ويبتعد عن إلقاء نفسه وسط الأشواك حينما تتوالى على مباغتته القطارات؟ يخطو بثباتٍ وبلا ترددٍ أو خوفٍ داخِلًا إلى الصبار ومُتوَغِلًا فيه، ويقف عليه ويدوس مُتحمِلًا الأشواك بإصرارٍ وعنادٍ وسكونٍ، لكنَّ القطار بلا سائقٍ ويسير بلا نهايةٍ ولا توجد محطاتٌ أو مزلقاناتٌ في طريقه ولا تظهر مبانٍ من وراء تلك الأسوار المنيعة الشاهقة، فكيف يأمن العيش داخله، حتى وإن تمكن من أخذ بعض نباتات الصبار معه من أجل تناولها داخله رغم الصعوبة البالغة في فعل ذلك؟ يصل نازِفًا إلى مكان مقابض روافع التحويلات الثلاثة على هذا الجانب، والتي كان قد لمحها قبل قليلٍ حيث تُجاوِر السور. الروافع الثلاث في هذا الجانب تتوازى واقفةً وغير مائلةٍ وتتراصّ رأسيًّا بجوار بعضها البعض وسط الصبار والأشواك التي طمست ظهورها، وعلى ما يبدو أن تحويلًا لمسارات القطارات القادمة من الاتجاه المعاكس لن يحدث وستأخذ القطارات المعاكسة القادمة طريقها بسرعتها الفائقة دون أن تبطئ، هل يمكن أن يتسبب هذا الجسد العاري الدامي الضعيف في انتقامًا وضررًا لكل تلك الأحجار والحدائد والفولاذ والإسمنتيات والطوب والصبار والأشواك؟ كيف يفكر؟! وفيم يفكر؟! يقبض على الرافعة المُحَوِّلة الأولى ويسحبها بكل ما أوتي من قوة مُستندًا على السور بعد تجاوز الصبار بإحدى قدميه وساحبًا المقبض ناحيته حتى تستقر الرافعة وتثبت في موضع مائل للأسفل في مكانها الجديد ثم سرعان ما يصرخ بقوة وكأنه يستجمع كل آلامه التي لاقاها ها هنا ثم يدفع بها في وجه هذا المكان صراخًا، أو زئيرًا أراده فخرج كصراخ، يصرخ ويصرخ حتى يسمع صدى صراخه يجاوبه من بعيد، حسنًا، ربما يفعل ما يجعله يشعر بتحقيق انتقام من نوع ما لكن هل يعود هذا غالبّا على المنتقم بأي جديد أو مفيد؟! وهل يعود المنتقم على سيرته الأولى كما كان سابقًا بعد فورانه بكل هذا الغضب وتنفيذه لانتقام أو ثأر أو قصاص؟ ينجح في شد الرافعة الثانية وينجح في أن يصرخ بصوت أعلى من المرة الفائتة ويصله صدى صراخه على نحو مختلف كان سيلفت انتباهه لو لم يكن في تلك الحالة التي تتملكه كليًّا الآن. ماذا إن كان أحد يسمعه الآن وهو لا يدري؟ أو ماذا إن بدأ يدري ويفكر في ذلك؟ هل يوقفه ذلك عما يفعله؟ هل يذهب عنه غيظه واهتياجه؟ ينتهي من سحبه ليد الرافعة المُحَوِّلة الثالثة والأخيرة ويصيح صارخًا ومجلجلًا بأعلى صوته حتى يبح صوته تمامًا ويصمت مرغمًا وهو يبكي بهستيرية وبفحيح ما بقي له من صوت، لكن صدى صوته لا ينتهي ويستمر في الوصول إليه، بل إنه لمح حصوات حجرية تتطاير من وراء السور الشاهق البعيد واحدة وراء أخرى بينما تستمر أصداء الصوت الصارخ تأتي مع قذائف الحصى الحجرية التي تتجاوز السور بصعوبة حتى بدأ الصوت يختفي وسط ضجيج صوت القطار القادم. يتطلع إلى القطار القادم ليجده آتيًا على الشريط الثالث من الجهة المعاكسة من ناحية يمينه حيث يقف الآن وظهره للسور بسرعة جنونية ثم فجأة يتحول عن مساره تجاه الشريط الرابع البعيد ويخرج عن مساره منقلبًا على جنبه ومتجهًا كقذيفة صاروخية إلى السور البعيد، في البداية؛ يسحق الجرار الصبار ثم يصطدم بالسور ويخترقه محدثًا فيه ثقبًا كبيرًا، وبينما يمر الجرار من خلاله يستطيع تمييز ما وراء السور جيدًا؛ إنها سكة حديدية ثانية وكان هذا السور المخترق مشتركًا بينها وبين سكته، يصرخ دون أن يخرج له صوت ويُصدم ويهم بالخروج من مكانه وسط الصبار وهو يلوح بكلتا يديه ويقفز إذ لمح شخصًا عاريًا يقف مذعورًا بجوار السور البعيد للسكة الثانية في الوقت الذي يتجه القطار ناحيته بسرعة وترنح، يتابع الآخرَ الذي لا يستطيع الإفلات وهو يُدهس بالقطار الدخيل قبل أن يصطدم ويتوقف عند سور السكة الثانية البعيد بينما باقي عرباته مازالت داخل سكته مقلوبة وممتدة بعرض السكة كلها. أخيرًا، وبعد تعسر ووقوع مؤلمين واضطراب وذهول كبيرين ينجح في الخروج من وسط الأشواك قاصدًا العبور والنفاد إلى السكة الثانية من خلال الفتحة المتهدمة، لكنه ما إن خرج من وسط الأشواك ووصل إلى أول شريط من ناحيته حتى يباغته قطار قادم من الشريط الثاني من نفس اتجاه القطار المقلوب، وقد خرج عن مساره إثر اصطدامه بذيل سابقه متوجهًا ناحيته، فيصدمه ويأخذه في طريقه وينفذ جراره السريع من السور القريب محدثًا فيه فتحة هو الآخر فيمر منها القطار بينما يستكمل دهسه وتسويته بأرض وقضبان السكة الحديدية الثالثة التي ظهرت الآن كما الثانية تمامًا وحيث كان يقف واحد ثالث عاريًا ومذعورًا مما يحدث وكان منظره البشع وأشلاؤه المتناثرة هي آخر ما رأته عينا هذا الثالث قبل أن يلقى نفس المصير حين صدمه نفس القطار المترنح ودهسه وسواه بالسور البعيد للسكة الثالثة ثم يقف القطار عنده. يبدو أنه قد علم الآن ما هو موجود وراء سوريه الشاهقين، ليس وحده الذي علم بذلك، لكنه كان وحده الذي استطاع إنهاء الأمر، أو من الأصح أن يقال أنه فقط قد أنهى أمره هو، ذلك لأنه قد استهل من فوره أمرًا آخرَ أعظم؛ فسلسة مستمرة لا نهائية من الخروج عن المسارات والاصطدامات وحدوث فجوات وفتحات وتهدمات في الأسوار الشاهقة ودهس آخرين قد بدأت لتوها؛ فالسكتان الثانية والثالثة ستأتي قطاراتهما بسرعتها الجنونية مصطدمة بعربات القطارات المنقلبة بعرض القضبان وستخرج عن مساراتها نافذة إلى الأسوار الشاهقة ومحدثة فتحات تعبر من خلالها إلى سكك جديدة لتصدم أشخاصًا جددًا كانوا قد استقروا في مكان التحويلات وليصطدم بها بعد ذلك قطارات السكك الجديدة المسرعة وتعيد الكرة بدورها وهكذا دواليك. لقد بدأ الأمر إذن، كانت تلك السكة هي مركز الانطلاق، ولعل أرواح المدهوسين الأوائل الآن -وهي تطير صاعدة ناحية سماء النهار التي بلا شمس- هي وحدها التي تستطيع أن ترى وتدرك ولربما تَعُد هذا العدد اللانهائي من السكك الحديدية التي تتجاور كل منها وتتشارك فيما بينها في سور شاهق، وتبدو كل سكة من أماكن أرواحهم العليا في شكل دائرة مغلقة على مسافة بالغة الكبر وتأسر عاريًا واحدًا بداخلها حتى حين، وتحيط كلُ سكةٍ بسكةٍ دائريةٍ أخرى أكبر قُطرًا على نحو لانهائي متواصل في الاتساع والإحاطة إلى ناحية الخارج، لعلهم وحدهم من يرون مركز هذي السكك الدائرية اللانهائية التي تتصاغر أقطارها نسبيًّا إلى ناحية الداخل حتى يتجلى المركز في هيئة غابة دائرية شاسعة من الصبار الكثيف والشوك المخيف ومُسوَّرة بالسور الشاهق الأول.