صخب في سيفيريا
تأليف: سيرين ديرانية | الدولة: السعودية
من السماء، كانت المدينة تبدو كصفٍّ من علب الأحذية الحديديّة المتلاحقة بصبغة الحداثة الرماديّة المدنيّة، وقلَّما يلمح الناظر مساحةً خضراء بين البيوت والسيارات الضئيلة المتحركة أبدًا، وحتى البيوت الساكنة عند أهلها متحركةٌ بدوران الأرض من ذلك المرقب العالي في السّماء.
كانت قد مضت سنتان على استعمار «يوفسالفا» لمدينة «سيفيريا» وها قد تغيّر وجهها تمامًا.
حول ذلك الأفق المسدود بالمباني، طغى طيف من الكآبة، طيفٌ لم يكن مرئيًّا لرهف، ابنة المدينة؛ حنطيَة البشرة، دقيقةٌ، لوزيّة العينين، طويلة الأنف، شاحبة الوجه، ذات تجاعيد بدت في وجهها كخنادق، ترتدي مريلةً طويلة ذات لونٍ أحمر.
ركبت الطفلة خلف السائق إلى المدرسة؛ ذلك السائق الذي كان يتخطف النظرات الوقحة نحوها، حتى نزلت ومشت نحو المدرسة آخذةً مكانها في طابور الصّباح.
كانت تدرس في المدرسة المئة والسادسة والسبعين، في الحي العاشر، في مدينة «سيفيريا».
تحركت الطالبات كعسكريات مدرباتٍ في الطابور، وصعدت رهف إلى الصف التاسع، الشعبة الثانية، المقعد الثاني، ولكنّها جلست على المقعد السابع، كما جلست من قبل على جميع المقاعد، ولربما لم يكن شيءٌ ليحدث لو أخطأت الصف أيضًا.
لطالما كانت الفتيات في الصف يتحدثن طوال الوقت ولا يصغين للدرس، وكانت رهف تفضّل محادثة أفكارها؛ والتي لم تكن بذلك العمق الذي تتصوره عزيزي القارئ؛ كالطعام، وقت الفسحة، أو الواجبات المدرسيّة، أو المعلمات، ولعل هذا ما انصرفت إليه أذهان بعض الطالبات أيضًا.
كان عمدة المدينة قد أصدر بيانًا منذ فترةٍ يهنئ فيه المواطنين بانتصار الدولة في الحرب، وكان الجميع يصدح بأبواق المديح والثناء على النصر العظيم في المدرسة، ولكنّ الرّئيس أخطأ في تاريخ النصر أمس، فقال: إن يوم (١٤ شوّال) هو يوم ذخرٍ للبلاد، بينما كان تاريخ يوم الانتصار قبله بيوم.
فمنذ ذلك اليوم، سيصير للبلد يومان متلاحقان يطلق عليهما: (١٤ شوّال)، ولربما لا يدرك أحدٌ أنّ ذلك غير طبيعيّ.
جلست رهف على طاولتها تفكّر في الخطاب، وهي منذهلة بسبب الخطأ فيه، فالذهول في هذه الحالة طبعها وطبع من حولها من سكان «سيفيريا» فإنها لم تكن لتفكر ولو في أحلامها بأنّ ذلك قد يكون غير صائب، أو بأن الرّئيس قد يخطئ، ثمّ أنى لها أن تصنف شيئًا أو تحكم عليه حكمًا يختلف عن حكم أندادها ومن حولها!
قاطع شرودها البارد صوت المعلمة تصرخ، كانت دائمة الصراخ، فاستحال صراخها إلى عادة طبيعية، لا تدفع أحداً للتصرف، حتى هي نفسها اعتادت ذلك حتى صار حديثها صراخًا.
كانت رهف تفكر في والدتها، ولم تكن تفكر بها بحب في الواقع، فأهل «سيفيريا» لم يكونوا يَعُون تمامًا ما هو الحب؛ لقد كان الوالدان كيانًا اقتصاديًّا، أو المحفظة التي تحتفظ بعملاتك فيها، وجوده من عدمه غير مؤثرٍ فعلًا من ناحيةٍ أخرى، ولم تكن قلة إحساس أولادهم بالحب إلّا نتاجًا لمعاملتهم بقلَة حب، سبقتها قلة حب، إنّ موقف الأب من ابنه كان لا يختلف كثيرًا عن تربيته لحيوانه المدلل، هذا إن لم يهب حيوانه الأليف مزيدًا من الحنان!
وشبيه به حال أولادهم الذين كانوا يفتقدون الحب، ويفتقدون التقدير، فما هو الحب إن لم يحوِ تقديراً!، فكانوا يتحدثون بسخرية عن كل ما حولهم في المدرسة في الحدود المسموحة لهم.
وهكذا، كانت تفكر رهف بغضبٍ من والدتها لأنها ضربتها صباحًا لتأخرها بالاستيقاظ، ويزداد غضبها لما تتذكر كيف كانت والدتها تفضل عليها أخاها الصغير، لقد دفعتها دفعاً لتتنازل له عن كل حقوقها الطبيعية، بل لم ترعها فكانت تجرحها أمامه، فيدفعها ألمها للبكاء إلى أن تبلد إحساسها فصارت تضحك، كل ذلك نمّى في داخلها شعورًا ما لبث أن نما حتى تمثّل في عقدة الشعور بالاضطهاد، وكان الافتقاد الشحيح للعدل مؤديًا لتنازل الأطفال عن حقوقهم تارةً وتقبل الضرب الظالم بضحكة، وتارةً لعقدة مظلوميّةٍ شديدة بالاعتقاد باضطهادهم، وكانت رهف من المتحسسين للظلم، فكانت تتحسس كرهًا شديدًا حيال والديها يتجاوز ما كان معتادًا، حتى في مجلس هذه الفتاة في هذا الصف الرتيب، في يومٍ متكررٍ، ستولد من التكرار، قصَّةٌ غير متكررة..
كانت رهف تمضي يومًا عاديًّا، لا يقاطعه أيّ تساؤل، عندما شعرت بلمسةٍ طفيفةٍ على كتفها، فالتفتت للخلف، كانت فتاةٌ شقراء ذات عينين باردتين تجلس خلفها، قالت الفتاة:
- آسفة. بالخطأ، فعاودت رهف النظر للأمام. عادت للالتفات مدفوعةً ببعض الفضول، وكان منظر الفتاة الأجنبيّة تلك ملفتًا للنّظر، واستغربت رهف كيف لم تلحظها من قبل، ولكنّها سرعان ما نسيت ذلك، وعادت للتفكير فيما سيتناولونه اليوم على الغداء، عندما رنّ الجرس، فأخرجت الكتاب التالي، وأعادت الكتاب السابق إلى حقيبتها بآليّة، وقفزت شهد وغزل للخارج لتتمشيا قليلًا بين الحصص، وكانت رهف تكرههما لأنهما مشاغبتان.
دخلت معلمة الدّين عفاف، وسلّمت، ثمّ صرخت على الفتيات قليلًا ثمّ جلست على مكتبها، وبدأت محاولة تشغيل العارض على الجدار.
كان الدرس عن توحيد الألوهيّة والرّبوبيّة، ذلك الموضوع المكرر الذي درسته رهف ألف مرّة، لذا لم يخزها شعورٍ بالذنب وهي تلتهي عنه بالتفكير بورق العنب، كانت المعلمة تسأل عن التوحيد الأوّل، فالثاني، وتجعل الفتيات يكررنه مرارًا وتكرارًا، ثمّ أشارت إلى رهف وطلبت منها توحيد الألوهيّة، فقرأته من الكتاب، ثمّ عادت لعدم مبالاتها، عندما رفعت مريم يدها، فأشارت المعلمة إليها، فقالت مريم بطيئة الكلام:
- لديّ سؤال، ألن نتحدّث عن النصر العظيم؟
حاولت المعلَمة تأجيل ذلك لآخر الحصة، ولكنّ الجميع بدأ بالكلام متحمّساً فرضخت، عندما رفعت فتاةٌ أخرى، يدها، أشارت المعلمة إليها بينما فكرت رهف «من الذي مازال يرفع يده ويطلب الإذن للكلام! قال الصوت:
- لديّ سؤال؟
أومأت المعلمة، فقال الصوت والجميع يتحدّث ولا يصغي، ولكنّ رهف كانت تصغي لسببٍ محدّد، كانت البنت خلفها هي من تتحدّث:
- لماذا نحتفل بالانتصار على الدول الأخرى ونحن جميعًا شرقيُّون؟
حلّ الصّمت لفترة، كان سؤالًا مبهمًا، غريبًا بالنسبة إليهم، قالت بنت:
- لأنّنا من سيفيريا وهم من البلدان الأخرى.
نظرت إليها الفتاة بعينين ثابتتين وقالت:
- أليست المدينتان من شعبٍ واحد؟
عمّ اللّغط في الصّف، واعترى الجميع ما بين الحيرة إلى الاستهجان، حتى قاطعتهم المعلمة:
- هدوء عزيزتي، لم أفهم سؤالك تمامًا؟
كانت تغمز لها لكي تصمت.
كانت رهف تحدّق بزميلتها في استغراب، عندما اعتدلت مايا (الفتاة الأجنبيّة) في وقفتها، وقالت بصوتٍ واضح:
- جميع البلدان في هذه الجهة كانت مملكةً واحدةً فيما مضى، هل أنا مخطئة؟
قالت المعلّمة:
- كما تعلمين، نحن عمليًّا تابعون ل «يوفسالفا» ولشعبها، ولا علاقة للماضي السَّحيق بذلك.
تعالت أصوات التأييد، وبقيت مايا صامتة، قالت مايا بهدوء عابسة:
- كيف كان ذلك ماضيًا سحيقًا ولم تمرّ سنتان على الاستعمار؟
تعرّقت المعلّمة وعبست، ثمَّ قالت:
- هيّا، لنكمل الدّرس.
كان الصمت حالًّا، وبدت وجوه الفتيات حائرةً تنظر يمنةً ويسرة، والكثيرون حدّقوا في مايا. في خضم ذلك كانت رهف الأكثر دهشة، بأن يكون هذا العالم القويّ الذي تعرفه نشأ قبل سنتين فقط، وباعتبار أهالي المدن المجاورة إخوةً لنا، وهو ما بدا جديدًا عليها تمامًا.
كان يوم الفطور الصّحيّ، وكانت رهف قد تهرّبت بطريقةٍ ما من همّ المشاركة، وجلست بعيدة تأكل قليلًا مما جلبته الأخريات، صامتةً، كانت مايا قد أحضرت أكلةً غريبة من بلدتها المجاورة، وجاملتها الأخريات فأثنين عليها، فقد كانوا أشخاصًا طيبين، وكانت تلك خصلتهم الحسنة الباقية في المدينة (سيفيريا) بعد أن فقدوا خصالاً أخرى كثيرة حسنة.
كان قد أعلن في الصباح عن التصالح العسكريّ العظيم مع مملكة «ليفين»، الذي دفعت فيه «سيفيريا» ومن حولها لمملكة «ليفين» نصف اقتصادها؛ لكيلا تهاجمها، ولكنّ الشعب أطرى على محبة السلام والتصالح، والحكمة في هذا الاتفاق.
كانت رهف تحدّق بظهر مايا، غارقةً في أفكارها، عندما سمعت المعلِّمة تقول:
- لقد كسبنا هذا الطَّعام بفضل تقنيات «يوفسالفا» المذهلة في الزراعة والحصاد، والآن، من سنشكر يا فتيات؟
قالت الفتيات بصوتٍ واحد:
- شكرًا ل «يوفسالفا»!
عندما عقدت المعلمة حاجبيها ورمقت مايا، كانت رهف تنظر إلى مايا بدهشة، فقد لاحظت مثل المعلّمة، أنّها لم تنطق بحرف. قالت المعلّمة بصرامة:
- مايا.
قالت مايا:
- الحمد لله.
توسعت عينا المعلمة، وسكتت لوقتٍ طويل، قبل أن تقول:
- آه.. نعم، ولكن من بعده؟
مايا:
- لا حاجة لوضع شريكٍ معه.
عقدت المعلّمة حاجبيها، وكانت رهف تزداد دهشةً على دهشة، ولكنّ المعلّمة لم تجد ما تستطيع قوله، فسكتت وهربت من الموضوع، وها قد انتصرت مايا مرَّةً أخرى، شعرت رهف بأنَّ من المذهل إسكات المعلّمة هكذا، رنّ الجرس وانفضَّت الفتيات، عندما اتجهت رهف نحو مايا بخطٍّ مستقيم، التفتت مايا إليها باستفهام، فقالت رهف وقد أخذتها الحماسة:
- مذهلة! كيف استطعت التفكير برد كهذا؟
كانت رهف تزداد اضطرابًا باقترابها من هذه الفتاة، فالأسئلة تزداد، وأشكال الأشياء تختلف، وهذا ما زادها شعورًا لم تألفه بالإثارة، فباتت تلتفت إلى مايا أحيانًا في وسط الدرس، وتطرح عليها سؤالًا ما، ولم تخيّب مايا بأجوبتها ظنّها قط، فدائمًا ما كانت تذهلها.
بشكلٍ عام، لم يخلُ قلب رهف من احترامٍ للمدرسة، وللطالبات، ولكلّ النّاس، وربّما كانت بطريقةٍ ما تزدري نفسها على نحوٍ ما، أو تهمشها، مثل جميع قريناتها، كان وجودها أمرًا مشكوكًا به، وجودًا ضعيفًا، حقيرًا، وعلى العكس منها بدت مايا شامخة، مثيرةً للاهتمام وبرّاقة، ومن العجيب إذ قدِّر لهما أن تصبحا صديقتين حميمتين، قريبتين وبعيدتين، كانت تلك صداقة الماء والنار، لن تنسى رهف ما عاشت، أو هذا ما اعتقدته، ذلك اليوم الذي خجلت فيه. كان عليها قراءة نص، ولكنّها أخطأت بنطق الحروف، ونطقت كلمةً نابيةً بالخطأ، احمرّ وجه المعلمة وصرخت بها، وأخذت الفتيات بالضحك عليها، كانت أصوات الضحك المجلجل تتردّد في كلّ مكان، احمرّ وجه رهف، وتحسّست ذلًّا غير مألوفٍ من قبل.
بنظر المعلمة، كانت وقحة مستحقةً للضحك عليها والسخرية منها، ولم تكن الفتيات ليفكرن بمشاعرها حقًّا، شعرت بالاختناق، وأوشكت على البكاء حين سمعت بنتًا تصرخ:
- هدوء، نحن لا زلنا في الحصّة.
وبدهشة، سكتت الفتيات، التفتت رهف، ورأت مايا تقف بعيدًا، بعينيها الواثقتين كلؤلؤتين، وبشرتها الفاتحة، كانت مذهلة، هذا ما تبادر لرهف مع مشاعر امتنان عميقة، جلست الفتيات وسكتن، وعادت مايا لمقعدها مغلقةً عينيها وزافرة، باتت أحاديثهما تزداد، حتى ذهبت رهف في الفسحة بعد يومين، وجلست بجوار مايا، التي رمقتها باستغراب.
فقالت رهف:
- أريد شكرك.
فدهشت مايا، ثمّ نظرت إليها بهدوء، ابتسمت رهف وقالت:
- لقد كنت رائعة.
كانت عيناها واسعتين بريئتين كطفلة وهي تقولها، كانت منذهلةً بمايا فعلًا، بل مفتونةً بها، ولطالما فعلت ذلك.
قالت مايا بهدوء:
- العفو.
ومنذ ذلك اليوم، بات وجودهما معًا أمرًا طبيعيًّا، وباتت رهف ملتصقةً بمايا طوال الوقت. كانت كلّ كلمةٍ من مايا إضاءةً بالنسبة لها وتنويرًا، حتى أنها بدأت تغيِّر تفكيرها في كلّ شيء، علّمتها مايا نبذ المألوف، وفتح الآفاق للإبداع، احترام الآخرين، وصفاء القلب، ولو كان كلامها المذهل يخالف ما اعتادت سماعه وتعلُّمه في غمرة حماستها، بات الصعب سهلًا، والمستعصي ممكنًا، بل إنّ هذا ربّما ما جعلها تبدو مذهلة، أنّها كانت تقول أشياء لم يقلها أحدٌ من قبل.
قالت رهف:
- مايا، لماذا تعادين «يوفسالفا» بهذا الشَّكل؟
قالت مايا بعينين ضيقتين وقد بدا عليها التفكير:
- أنا أكرههم.
رفعت مايا عينيها إلى رهف وقالت بعينين مضيئتين:
- ألم تقرئي تاريخ المملكة الشرقيّة؟ النصر، والهزائم، والمعتقدات؟ إنَّه تاريخٌ حافل، أتعلمين بأنّ المملكة الشرقيّة كانت تمتدُّ حول كلّ القارّة في الماضي؟ وكانت «يوفسالفا» مجرّد جزءٍ منها.
قالت رهف بدهشة:
- لا، كيف تعرفين كلّ هذه الأشياء؟
- لقد قرأته بنفسي.
ضاقت عيناها بحزن، وقالت مايا بصوتٍ منخفض:
- والدي أعطاني إيَّاه.
سكتت رهف.
أكملت مايا بعينين متألمتين:
- لقد خرقت «يوفسالفا» الهدنة التي عقدتها معنا وهاجمتنا بنذالة، كما استغلّت كلّ المعارف التي كانت لدينا والقوى العاملة، ونقلتها لبلادهم، إنَّهم يستغلُّوننا ويعاملوننا كحمقى! وبكلّ سذاجة، ترين جيل اليوم جاهلًا بكلّ شيء، أرأيت ضحيّةً تعبد جلَّادها؟ هذا ما نحن عليه!
كانت رهف مصدومة، وكان هاجسٌ ما يخيفها حيال مايا، كانت مايا تعارض كلّ ما تعرفه وتقدَسه، وتحطمّه إلى فتات، وشعرت بالتهديد منها، ولكنّ رهف كانت مفتونةً بها أيضًا وبقدرتها على فعل ذلك، صمتت مايا وأغمضت عينيها، ليعرض شريطٌ من الذكريات المؤلمة أمامها؛ والدها وهو يودعها مرتديًا ملابس الجيش، كانت تبكي بشدّة، ولكنّه كان مصرًّا على الوفاء بواجبه حتى آخر لحظة، ومحاربة من يقتحم بلاده، وذهب، ولم يعد أبدًا، وبقيت وحيدة، في بيته الفارغ، وبين كتبه الكثيرة. أبعدت مايا هذه الأفكار عن ذهنها.
لاحقًا، كانت رهف تودع مايا عند البوابة، عندما لاحظت بدهشة الشاب الذي نزل من سيارة مايا وحمل حقيبتها عنها، كان أشقر، طويلًا، باسم الثغر، وهو ما كان نادرًا حقًّا في أوصاف الشباب من «سيفيريا»، قالت رهف بدهشة:
- هل هذا والدك؟
ضحك زين وأجابها بنفسه:
- لا لا، أنا شقيقها.
وودَّعت مايا.
مع الأيّام، بدأت وجهة نظر مايا تتضّح أكثر، قالت مرّةً لرهف:
- بالمناسبة، أليس لديك حلم؟
نظرت رهف إلى صديقتها بحيرة، ثمّ قالت ببطء:
- لا.
ابتسمت مايا وقالت:
- هذا مؤسف، أمّا أنا، فأحلم بتغيير هذا المجتمع.
- كيف؟
- أتعلمين؟ إنّنا نفقد أنفسنا شيئًا بعد شيء، نرتدي ثيابهم، ونتحدّث مثلهم، ونأكل مثلهم، إنّنا نفقد عاداتنا واعتزازنا، وكلّ ما يجعلنا نحن، لست واثقةً إن كنّا ما نزال نحن بعد الآن ونحن ننكر أنفسنا!
كانت رهف مذهولة، وقالت:
- نحن؟ الشرقيُّون؟
فأومأت مايا.
- آه، كم تبدو تلك الأيّام بعيدةً الآن، وضبابيّة، ومصبوغةً بصبغةً من التلاشي البائس، وكأنّ الصفحات طوتها شيئًا فشيئًا، كان لديهما الكثير من الذكريات، ومما يُتذكر أيضًا؛ تلك المرّة التي كانت مايا فيها تستلقي مريضةً في عيادة المدرسة، كانت رهف قلقة، ولكنّ مايا بدت هادئة، كانت نوباتٌ غريبة من السعال تراودها أحيانًا، حتى أغمي عليها في ذلك اليوم، استيقظت مايا في السرير، واستمرّت رهف بطرح الأسئلة:
- هل يؤلمك شيء؟ هل أنت بخير؟
ولكنّ مايا بدت هادئة، كانت تتأمّل النافذة بخشوعٍ غريب، بشرتها البيضاء بدت شفافةً في تلك اللحظة، وبدت عروقها النابضة ظاهرة، ولكنّ وجهها هادئ، وعيناها لامعتان ببريقٍ آسر سحر لبّ رهف الناظرة إليها، كانت مايا تبدو كملاكٍ يتلاشى ببطءٍ في ضوء الشمس ليعود إلى السّماء، وربّما كانت حقًّا كذلك، ذلك ما فكرت به رهف.
قالت مايا:
- رهف
قالت رهف سريعًا متنبهة:
- نعم؟
بقيت مايا ساكتة، ثمّ التفتت بعد قليل إليها، ومدت يديها البيضاوين نحوها، وإذا برهف تشعر بيد مايا الباردة الناعمة تلمس خدّها، توسعت عيناها، وقالت مايا بصوتٍ بدا دافئًا للغاية:
- هل تؤمنين بما أؤمن به؟
بقيت رهف مأخوذة بموجة الدهشة قليلًا، ثمّ أجابت بلا تردد:
- نعم.
ابتسمت مايا، وقالت:
- شكرًا لك رهف، هذا العالم لا يعجبني.
أمالت رهف رأسها، وقالت:
- لمَ؟ العالم جميل.
إنّه جميل، ولكنّ البشر ليسوا جميلين يا صديقتي، ليسوا جميلين على الإطلاق، ليس البشر ولكن الآليُّون.
مايا، كلامك يبدو أحيانًا غامضًا وغير مفهوم، كيف يكون البشر آليّين؟
ابتسمت مايا، وقالت:
- عندما يفقدون سمات البشر، ويسلمون أنفسهم لسمات الآليّين، عندما يكونون فاقدي الإرادة مثل قطع الحديد التي تتبع برمجتها.
- وما هي البرمجة التي يتبعونها؟
ضحكت مايا، وآخر ما يتجلى في الذكرى صوتها وهي تقول باسمة:
- هذا ما عليك أنت اكتشافه، بدت أفكار مايا غامضة.
كانت كلّ هذه ذكرياتٍ جميلة، ذكرياتٌ تجلب الدمع حين استذكارها، جميع هذه المقدّمات كانت طريقًا لما ساقهُ القدر، نحو الحفرة الأخيرة، التي ستكتب النّهاية لهذه الأيّام الجميلة.
أعلن بعد فترة عن خبرٍ كان بداية التغيير، عن أمر «يوفسالفا» بتغيير لغة «سيفيريا» للغتهم. كان هذا اليوم، عندما انتشر مقطعٌ على الشبكة العنكبوتيًّة، وكان غريبًا جدًّا لسكّان «سيفيريا»، كان قنبلة غير متوقعة.
يبدأ المقطع بموسيقى حزينة تدقّ أصوات البيانو فيها بهدوء، يرتفع صوت البيانو، ويبدأ صوتٌ هادئ بالحديث بينما تجول آلة التصوير على بعض النباتات في حقل: «هنا حدثت المعركة الأولى، بين السلطان الأوّل لسيفيريا والغزاة، هنا انتصر السلطان، وهنا انتصرنا، نحن الشَّرقيُّون.»
«أتتذكرون؟ أم لم تعودوا تعرفون تاريخكم بعد الآن؟ هل تبرأتم منه وارتديتم أقنعة شعبٍ لا يشبهكم جازمين بتفوقه دون أن تنظروا إلى أنفسكم؟»
«نعم، أنفسكم هذه، ليست أهلًا للتقدير بعد الآن، نحن من نجلس كالدمى الخشبيّة ونترك أعداءنا يتحكمون بنا.»
تتحرّك آلة التصوير، وتصّور شروق الشّمس على الحقل وتقول: «إنّ سكان (يوفسالفا) ليسوا بأبطال، بل غزاة، قتلوا أجدادنا وآباءنا، حاربونا، وتحكموا بنا وصقلونا في قوالبهم، وجعلوا قلوبنا عبدةً للاحتذاء بهم، نحو الحريّة، فلتلحقوا بي».
«لقد اختلست (يوفسالفا) وسرقت، ونهبت، واستغلَّت، الكثير من الأراضيّ تحولت ملكيتها لها بالغصب، غيّرت المناهج، وصنعت خدمًا لها من الأجيال القادمة».
كانت الكثير من الوثائق التاريخيّة والصُّوّر تعرض في المقطع.
«وها هي الآن، تريد سلبنا حتى لغتنا!»
تصل الموسيقى إلى ذروتها، ويقول صوتٌ قويّ:
«لنجتمع بعد أسبوعٍ في ساحة المدينة، وننتزع حريتنا بأيدينا».
كان الجميع في المدرسة يتداول أمر المقطع بدهشة، باستغرابٍ، أو باستهزاء، لم يبق إنسانٌ لم يتحدث عنه، وكانت رهف تتنصت على تلك الأحاديث هي الأخرى، الفتاة الوحيدة التي بدت غير مهتمّة، كانت مايا، وكانت رهف متردّدةً حول طرح الموضوع عليها، ولكنّ هاجسًا غريبًا دفعها لعدم فعل ذلك.
مضت الأيّام هادئة، كانت رهف تشعر بهدوءٍ غريبٍ حيال ذلك، أو عدم اهتمام، وكان ذلك من طبيعة شخصيّتها، كانت التعليقات على المقال تتزايد باطراد، وكان أكثرها منفعلًا غاضبًا لإهانة شعب «يوفسالفا» وقليلها يتفكَّر فيما قيل، ولكنّ الأغلب يستجلب الأعذار على الظلم والطغيان الذي تعرضوا له، ويستسخف العبوديّة الموصوفة، كان اليوم التالي، وكان الجميع يجلس على مقاعده في المدرسة، تأملت رهف حولها، كانت مايا تبدو نعسة، والجميع يثرثر بفتورٍ اليوم، تناهت إلى سمعها أحاديث متفرقة:
- لقد سمعت بأن الحكومة قبضت على معارض «يوفسالفا».
- حقًّا؟ هذا عظيم.
- لا أفهم لماذا قد يفعل أحدٌ شيئًا كهذا.
- حقًّا، لماذا يثور البشر ويقومون بالأمور الخاطئة؟ إنّهم أغبياء.
لم تكن رهف تحمل فكرةً ما حول ما حدث، وكانت وجهة نظر الفتيات السابقة قد أقنعتها، ولكنّها كانت حذرةً من التصريح بأيّ رأي قبل الأخذ برأي مايا، كما كانت ما تزال تفكر بحيرة بكلام مايا الأخير في سرير العيادة. قالت رهف:
- مايا؟
فتنبهت مايا التي كانت تبدو شاردة، وقالت:
- ماذا؟
سكتت رهف قليلًا، ثمّ قالت:
- بشأن ما قلتيه آخر مرّة..
كانت ستتحدّث عندما قاطعها رنين جرس الفسحة، فعبست، سألتها مايا عما كانت ستقوله، ولكنّها غمغمت بأنّه لا شيء، نزلتا على الدرج، وعلّقت مايا على الشطائر الجديدة في المقصف، وتبادلتا حديثًا قصيرًا، كان يومًا ساطعًا، ولكنّه بات شاحبًا الآن، يومًا من تلك الأيّام القديمة لم تكن رهف مهتمّةً به بقدر تذكر تفاصيله جيّدًا. كانتا تسيران للمنزل، عندما خطر لرهف خاطرٌ غريب، فسألت مايا كما لو كان وحيًا ربانيًّا نزل عليها:
- مايا، ما رأيك بالمقطع؟
نظرت إليها مايا بدهشة كما لم تنظر من قبل، ولكن رهف بقيت ثابتة، كان شعورٌ يراودها بأنّها ستضع يدها على نقطةٍ جوهريّة، كان ذلك الوجه الأخير الذي رسمته مايا أمامها، قبل أن ترى رهف بهدوء، ذلك المشهد المخيف.
رأت وجه مايا الذاهل تغمض عيناه شيئًا فشيئًا ويشحب، حتى تسقط على الأرض فجأة، وتصطدم بها مصدرةً صوتًا عاليًا، كانت لحظةً مخيفة.
في المشفى، كانت مايا ترقد بهدوء، وجهاز التنفس يأخذ بالهواء إليها، تشبثت رهف بكمّها بتوسّل، وتمتمت للطبيب:
- هل ستكون بخير؟
- قال الطبيب:
- أعتقد أنّه بسبب فقر الدم، نعم.
أومأ، فيما فتحت مايا عينيها بهدوء، ترقرقت عينا رهف وأمسكت بيد مايا بقوّة وقلق، كانت مايا هادئة، كما كانت دومًا، عندما أشارت لهم برأسها فنزعوا جهاز التنفس، قالت مبتسمة:
- أنا بخير.
فكشفت رهف عن ابتسامةٍ واهنة، بقيتا ساكنتين قليلًا، عندما بادرت مايا بالحديث:
- الموعد غدًا، أليس كذلك؟
تأملتها رهف بهدوءٍ ودهشة، ثمّ أومأت بالإيجاب، ابتسمت مايا، وقامت بهدوء، وقالت وهي تمسك بيد رهف:
- هل نذهب من هنا؟
أمسكت رهف بيد مايا العليلة، وببطء، قامتا معًا، دفء يد مايا، وبرودة الهواء المتدفّق من النّافذة، وصوت خطواتهما على الأرضيّة، جميع ذلك كان محسوسًا بشكلٍ مشوّش، ولكنَّها كانت عازمة.
أوصلتها رهف حتى الباب، قادتها خارج المدرسة، وأصرّت على حمل حاجاتها، كان جوًّا غريبًا يسيطر على كلتيهما فلم تتبادلا الكثير من الكلمات، وبقيت دقات قلب رهف تتسارع طوال الطريق، مع كلّ خطوة كان قلقها يزيد، حتى تمتمت بصوتٍ خافض:
- مايا، هل ستذهبين؟
ابتسمت مايا ابتسامةً دافئة، وهي تقول:
- إلى أين؟
ضاقت عينا رهف، وقالت:
- إلى السّاحة.
- لا، لن أذهب.
ترددت تلك الكلمات كالبرد والسّلام على رهف، وكأنّ أحدهم رماها بكوب ماءٍ دافئ.
كانت تريد سؤال مايا عن رأيها في المقطع بعد، ولكنّ مايا، كانت قد سارت بعيدًا قائلة:
- أراك غدًا.
رهف:
- آه، نعم.
عادت كلٌّ منهما إلى بيتها، وقضيتا ليلةً قلقة بنفس القدر، ولكنّ الفرق، أنّ رهف لم تقضها في منزلها، فقد كانت هناك تلك السيارة السوداء التي كانت تنتظرها أمام بيتها، كانت تلك السيارة المنظر الأخير الذي رأته، قبل أن تشعر رهف، بتلك الجذبة القويّة من ذراعها، كان أناسٌ بملابس سوداء يسحبونها للخلف ويحيطون بها.
كانت مصدومة، وقاومت قليلًا، ولكنّ الأذرع القويّة أخذتها بالقوّة للخلف، وأدخلتها إلى السيارة، رأت مايا المنفعلة تحاول الرَّكض خلفها، كانت آتيةً من بعيدٍ حين رأت ما يحدث، ولكنّ السيّارة اختفت في الأفق، بملامح الذعر والخيبة، وكأنّ سهمًا قد سُدِّد إلى قلبها، خانتها سيقانها، وسقطت مايا بقوَّةٍ على أرض الشارع، هذا ما شاهدته عينا رهف المذعورتان، من مؤخرة السيارة.
إنّ أصوات الفتيات الواقفات في الطريق والمذعورات، وصراخ مايا، وصوت السيارة، وصمت الرجال السُّود، كلّ ذلك كان أنغامًا من نهاية معزوفة، وبداية أخرى. في اليوم التالي، لم يجتمع أحدٌ في الساحة المطلوبة، كانت هناك تقف فتاةٌ واحدة، ذات شعرٍ أشقر، وعباءة غريبة، مايا فقط، تلك التي قبض عليها على مرأى من جميع المواطنين الجبناء، كانت قد أطلقت صرخةً وحيدة قبل أن يقبض عليها، صرخةً ضعيفة، ولكنّها تختزن في داخلها الكثير من القوّة، وبذرةً من نبتة، تركتها في نفس كلّ شخصٍ كان يرى أو يستمع..
«حتى اليوم الذي نتحرّر فيه».
حتى اليوم الذي نملك فيه أنفسنا، الذي نحبّ فيه أنفسنا، الذي نملك فيه آراءنا، نكون فيه أنفسنا، ونحيا لأجل أنفسنا، الكثير من الذكريات انتفضت على طول الطريق، وقاومت زهرةٌ وحيدة، لتنبت، وتلك الطفلة تؤخذ لأنها اقترفت ذنب الشجاعة، كان الجميع يراقب، «لماذا فعلت ذلك؟» كان ذلك السؤال سيتردّد كصدى طويل الأمد.
عندما عادت رهف، كان كلُّ شيءٍ قد اختلف، بل قد انتهى.
ماتت مايا بالسلّ الذي كانت مصابةً به، وكأنَّها لم توجد أبدًا.
بعد فترة، عادت المدرسة، عادت المعلمات، الدوام، الفسحة، بدا لرهف وكأنّ العالم ينكر وجود مايا، ويصمها بوجودٍ عديم الأهميّة، لقد نسي العالم، ونسي التاريخ، ولكن الله لا ينسى.
إنّ الأزهار على طول الطريق نبتت، والحياة سارت، تاركةً خلفها شهيدةً جليلة، قُبض على زين الذي كان وراء المقطع، وكان شقيق مايا الوحيد، ولقي نفس مصير مايا، وهو الفقد المجهول، والانمحاء الأبديّ من العقول، هذه مدينة كان البشر فيها آلات، وكان للتفكير فيها انمحاء، والتغيير هباء، نضال إنسان كان مجرّد صخب، صخبٍ وإزعاجٍ يجب إسكاته، سيمرُّ ويختفي.. صخبٍ في «سيفيريا».
حول ذلك المسرح، كلّ الفتيات في الطابور الصباحيّ، كان قد مرّ أسبوع، وكانت المدرسة تحتفل بقدوم المدير الجديد للمدرسة من «يوفسالفا»، وكانت رهف في شبه إغماء، مرَّت الأحداث كأضغاث أحلام، كانت ضائعةً تمامًا.
الفتيات يفسحن للمدير، ولكن رهف لا تتحرّك، يبدأ الخطاب للترحيب، ولكنّ رهف لا تصفّق، يحين دورها لتقول كلمتها، فتأخذ بالميكرفون بخطواتٍ بطيئة وهادئة، فقط مثل صوت حياة مايا الجميل، تتقدّم، وتقف أمام كلّ المدرسة ممسكةً بالميكرفون.
صرخت:
- «فليسقط المدير الجديد ويسقط كلّ مستعمرٍ من (يوفسالفا)».