غربة الوطن
تأليف: هالة العملة | الدولة: فلسطين
على أنقاض اليُتم
فتحَ الطفلُ عينيْه، توقفَ الزمانُ لحظة، وجَمُدَ العالمُ لحظتيْن، خرجَ للحياةِ صارخًا، وُضِعَ على قلبِ أمه يبحث عن ترنيمةِ الأمانِ التي جُبِلَ عليها في تسْعةِ أشهر، ما أن تصلهُ السيمفونيةُ حتى يهدأَ قليلًا ثمَّ يبدأ.
يبدأ حياتهُ التي كُتِبت له منذُ أن كان نطفة، ليعيشَ حزينًا، أو سعيدًا، فقيرًا، أو غنيًّا، سليمًا أم كلّا.
تبدأ رحلةُ الكبدِ في كبد، تحملُ بين طيّاتها لحظاتٍ جميلة، ولحظاتٍ أقلَّ ما يُقال عنها مؤلمةً وحزينة، لكن يُقاس الإنسانُ بصبرِه وقوةِ تحَمُّلِه، ذلكَ أنّ من بثَّ فيهِ الروحّ جعلهُ أهلاً لها.
رحلةُ الحياةِ مدرسة مليئةٌ بالتجارب القاسية، لا تنظرُ إلى كبيرٍ أو صغير، مريضٍ أو معافى، لكنّها الحياة، والتي زُيِّنت بأجمل ما يكون، ألا وهي العائلة.
عندما أستحضرُ هذهِ اللفظة يتبعها لا إراديًّا، الأمان، السند، الاحتواء، الحب، إن العائلة رزقٌ من ربِّ البريّة، وهي رابطة الدّمِ التي مهما قست أو ابتعدت ستعود يومًا إلى موطنها حيثُ كانت، وكما هي رزقٌ فإنّه موزع بحكمةٍ إلهيةٍ لا نعرفُ فحواها، لكنها لخير، فهذا أمر المؤمن، إنَّ فقْدَ أحدٍ من العائلة، كفقدِ جزءٍ من الرّوح تمامًا، فماذا لو كان الفقْدُ يتمثّلُ في قلبِ العائلة ؟!، ألا وهي الأم!
هنا يصبحُ ألمُ الفراقِ آفةً، يستهلكُ الروحَ والجسدَ شيئًا فشيئًا، وسيكتبُ على جبين من فقد كلمةٌ لطالما كانت تعجُّ بالمرارة، إنّها اليتم، فيقالُ يتيمةٌ أو يتيم، فتشعرُ أن الروحَ قد اختلجت، والقشعريرة انتشرت، والقوةُ انهارتْ، إنها تُطبعُ في القلب كبقعةٍ سوداء قانية، وتظلُّ للأبد، فإما أن تتركها تسيطر، فيصبحُ القلبُ خاويًا، أو تحافظَ عليها في سردابِ الذكرياتِ الماضية، وتحاول نسيانها؟
يجلسُ على شرفةِ النافذة بعدَ منتصفِ الليل، ما إن يسودُ الصمت، حتى تبدأ سيول الذكرياتِ كشلّالٍ يتدفّق في ليلةٍ ماطرة، جميعها تتراءى له في لحظةٍ واحدة كفيلمٍ سينمائيّ يُعرضُ بسرعةِ البرق، ذكرياتٌ أليمةٌ، قاتلةٌ، حزينة، هذه الكلمات تعجزُ عن وصفها، فهيَ أشدُّ من ذلك، تلمعُ في رأسه صورة عندما كانت أمه تمسِّدُ على رأسه بحنانِ جمّ، وهي تغنّي له أغنية النوم، يذكر صوتها العذْب يقول:
- لا تبكِ يا صغيري، لا. انْظُرْ نحو السماء
من قلبكَ الحريري، لا، لا تقطع الرجاء
إن الأمل جهدُ عمل والجهدُ لا يضيع، الأمل جُهدُ عمل
يقولها بصوتٍ خانقٍ والعبراتُ تسقط من عينيهِ بحرارة، أمي عودي إليّ، يتذكّر نفسَهُ عندما أخبرها أنّهُ يحبها حقًّا، وهوَ من دونها لا يساوي شيئًا، كانت تقول «بنيّ، أحبّك، أنتَ كلُّ ما أملك، أنتَ فلذة كبْدي، أرى العالم داخلَ عينيك، أسمعُ بأذنيك، أتنفس برئتيك، لا يهمني ما يقولونه عنك، لأنّك الأجملُ في ناظريّ، أنت مسكني وسكينتي وسكوني يا بنيّ».
في الصباح الباكرِ من أيامِ الرّبيع، يجلسُ على الشّرفةِ من الطّابق السابعِ منهمكًا في العمل على جهاز اللابتوب الخاصّ به، يضع لمساتهِ الأخيرة مع اسمه تسبقها كلمة المحامي، شعر بالثقة والفخر، ودعا اللهَ أن تسير الأمور على خير، هذهِ أوّلُ قضيّةٍ يستلمها لوحده، وستكون الأخيرة إذا فشلَ فيها، لكن مثل هذا لا يخيفه شيئًا، فقد درس وجدّ واجتهد ليحقق حلمه الذي حَلُمَت به إنسانة وعلّقت آمالها عليه، ولم تكترث لأحد، اشتعلت القوة في صدره لذكراها، وقال بهمس:
- الله يرحمك يمّا.
في المحكمة يقف بطلُنا مُطلًّا بأبهى صورة، مرتديًا رَوبَهُ الأسود بهيبةٍ ووقار، يقف على المنصةِ بكلّ شموخٍ وعزة، يتكلمُ كما لو كانت هذهِ القضية العاشرة التي يأخذها، بعدَ وقتٍ مضى يطرق القاضي مطرقة العدل التي أبت إلا أن تنصفه وتحقق مراده، انتهت المحكمة، بدأت التبريكات والتهاني تنهلّ على براء كالمطر لنجاحه في قضيته الأولى بكل قوة، رغم كلّ الصعاب وها هو صديقه الحميم محمّد يعانقه حبًّا يصلُ مداده حدّ السّماء، يضربه بقبضته على كتفه ويقول له، لقد فعلتها يا صديق، أنا فخورٌ بك، فرحة البراء ينقصها شيء، ينقصها مذاقٌ بطعمِ السّكّر، لكنه كالعلقم، تنقصه تهنئة أمه التي لولاها لما كان يقف هنا اليوم، لمعت عيناه حزنًا، وقال بصوتِ مسموع، أهدي نجاحي لقطعةٍ من قلبي تسكنه روحها، أهديهِ إلى روحِ أمي، صفّقَ كلُّ من كان حوله، ثمّ دعاهم إلى الغداءِ احتفالاً بنجاحه.
على مائدة الطّعام يجلسُ البراءُ مع أصدقائه، يمرحون ويضحكون، حاضرٌ بجسده غائبٌ هو بفكره، يتراءى أمام عينيه لقطة من ذكرياته «يجلِسُ في المدرسة على مقعده في الصفّ الأخير عابسًا حزينًا وحيدًا، جميعُ زملائه في الاستراحة يلعبون ويمرحون، ما إن يرونه قادمًا حتى تعلو أصواتهم، انظروا جاء الوحش، وآخر يقول هذا مسخ وهذا يقول لا تنظروا إلى عينيه، سيجعلكم مثله، أما هو يسمع هذه الكلمات فيركضُ والدموعُ تسابقُه، ليجلسَ كما اعتاد في زاويةٍ بعيدةٍ في حديقةِ المدرسة، التي أصبحت مأواه، يجلسُ والدموع تأبى إلا أن تخرج من عينيه كالأمطار الغزيرة في ليالي الشتاء الباردة، يدعو على نفسه كثيرًا، كيف لهم أن يسخروا من شكله ؟! لا دخل له في خلق نفسه ولا إيجادها، يتذكر دويّ ضحكاتهم في رأسه، فيعتصُر قلبُه ألماً ويبكي بكاءً لا صوتَ فيه حتى تتقطّع أوتاره ...»
محمد:
- براء.. براء.. براء!!
- آه، نعم، ماذا تريد؟
- مالي أراكَ شاردًا يا براء؟!
- لا شيء، لا شيء، تذكرت أمراً كان قد غاب عنّي.
- هل هو مهم؟!
- كلّا على الإطلاق، لا تشغل بالك محمد.
- افرح يا رجل، نحن نحتفل بك، هيّا دعني أرى البسمة تزيّن وجهك.
تبسّم براء على مضض، وبمخيلته صورته يبكي تحت الشجرة، أنهى طعامه واستأذن بأن لديه مشواراً ضروريًّا.
يذهب إلى مكانٍ اعتادت عليه حجارة الشارع، وضوء مصباح الإنارة، وأسماء الدكاكين، شارع يحفظ ملامحه عن ظهرِ قلب، لو كان أعمى لمشى فيه بكل جرأة دون أن يتحسس طريقه، في آخره بوابة مخيفة كتب عليها بخطٍ باهت «المقبرة» يدخل حيث اعتاد ينعطف يمينًا، ثم يمشي سبعَ خطوات، لكثرة ما ارتاد إلى هنا تربة المكان حفظته وتظهرُ آثارَ قدميه في خطواته السبع التي حفرت كما لو أنها منحوتات.
في كلّ مرةٍ يذهبُ فيها كما لو أنه يذهبُ لأولِ مرة، يذهب بنفس اللهفةِ والشوقِ، لكن هذه المرة تضاعف، فهو قادمٌ يزفّ لها خبرًا جميلًا، كما لو أنها حيّة، يجلس على الأرض بجانبِ قبرٍ لم تخلُ من وردات يانعة بيضاء جميلة، يقول:
- مرحباً أمي، كيف حالك؟ اشتقتُ لكِ يا أمي، لقد حققتُ حلمنا الذي حَلمْناهُ سويّةً، تسلّمت أولَ قضيةٍ يا حلوتي، نجحتُ فيها يا أمي، تمنّيت لو كنتِ بجانبي وقلتِ هذا ابني الذي أعرفه، أفتقدُكِ أمّي..
يصمت في وجل، ودموعه على وجنتيه بغير استئذان، شعر بصوتها يطبطب عليه، كما لو أنها تقول:
- أنا فخورةٌ بكَ بنيّ، أنتَ إنسانٌ عظيم، امضِ في طريقك إلى أن تتصدّر المحاماة لتعبّر عنك أنت لا لتعبّرَ عنها، امضِ يا بنيّ، إنّي أرى فيكَ جبلًا وعزيمة وإصرارًا، امضِ يا بني.
فتح عينيه كما لو أنّه يسمع:
- أعدكِ أمي ألا أهون ولا أضعف، أنا ابنُكِ الذي ربيتني وشجّعتني، سأردُّ لكِ الجميل بتحقيق الحلم الذي عشناه سوية على أمل أن يتحقق، يودّع قبرها بنظرة عميقة ويقرأ الفاتحة كهدية لها، ثمّ يضعُ وردةً بيضاءَ كقلبها تماماً.
حملَ انكساراته ليمضي.
إنّ قلوب الرجال مهما بلَغت من قوة تَهوي بها الأمّ في غيابها وتُضعف أركانه، أزاح ثقلَ هواجس الذّكرى لتحملهُ رجلاهُ على الوقوف.
يلتفت فإذا بها امرأةٌ تبَان عليها مظاهرُ التّرف، وهندامٌ مُغاير لما نرى في الحي.
- أظنّكَ ابنها، ابنها براء أليس كذلك؟
أجابّ براء مستغربًا:
أنا براء أحمد، وأمي سهام، لكن من أنتِ؟ لا أعرفك!
- من حقّكَ أن تنسى، لقد كنتَ طفلًا صغيرًا.
- من أنتِ؟ هل تعرفينَ أمي؟!
- تعالَ براء؛ لنذهب إلى مكانٍ ما، فلديّ الكثير لأخبرك به.
تمكّن الفضول واللهفة من براء، فتبِعها في صمت مستغربًا.
تجلِسُ على كرسيٍ قبالته، تتفرّسُ ملامِحَ وجهه، كشخصٍ وجدَ ضالّته بعد سنين.
- إذن ما القصة؟!
- أعرفكَ بنفسي أولًا، أُدعى إيمان، أمّ شهد، عمري خمسٌ وخمسون سنة، كنت أمتلِكُ معملًا للخياطة منذ زمنٍ بعيد، وأعرفُ أمّكَ أيضًا.
ما أن سمِعَ البراء باسم أمه حتى اتّسعت عيناه وحدّق فيها متلهفًا إلى سماعِ المزيد.
- أكملي أرجوكِ.
- في يومٍ من أيامِ الشّتاء الباردة، جاءت امرأة في الصباح الباكر إلى المعمل، تحمل طفلًا رضيعًا بين يديها يبدو حديثَ الولادة، وشكله غريب، كانت ترتدي ثيابًا بالية، وألحّت عليّ بطلبِ عمل في معملي، رقّ قلبي لحالها ولطفلها.
أدْخَلتُها المعمل، وضعتُها بجانب المدفأة، ثم سألتُها عن قصتِها، شعرت أمّكَ بالأُلفة، أخذت أمك نفسًا عميقاً كمن يستعدُّ لخوضِ حرب، قالت:
- أنا سهام، عمري خمسٌ وعشرون سنة، تزوجتُ قبلَ سنتين، زوجي أحمد المحامي، كنّا زوجين سعيدين حدّ السّماء، ذات ليلة عادَ من العملِ واجمًا حزينًا، أخبرني ليلتها كلامًا غريبًا، قال لي:
- أنا أحبّكِ سهام، سامحيني إن أخطأتُ في حقّكِ يومًا، هل أنتِ راضية عنّي؟
استغربتُ سؤاله، أخبرتُه:
- ما بكَ أحمد أنتَ لستَ على طبيعتك؟
قال لي:
- لا شيء يدعو للقلقِ عزيزتي.
لكنّ قلبي لم يطمئنّ، كنتُ أعلم أنّهُ منذُ فترةٍ استلمَ قضيةً كبيرةً، تدينُ أحدَ المسؤولين في البلدِ، فكانَ لا ينامُ اللّيل، لم أستطعِ النّومَ تلكَ اللّيلة، كان قلبي يدق في الدقيقة ثمانين وجعًا، شعرتُ بحركاتهِ، لم يَغمَض له جفنٌ قطّ، قامَ ليصلّي بضْعَ ركعاتٍ سجدَ فيها وأطالَ السّجود، ثم ارتدى ملابسه على عجلة، قمتُ لأسأله بتعجّب:
- أحمد، أين تذهب في هذا الوقت؟!
لم ينبس ببنتِ شفة، ثم أوصاني بنفسي كثيراً حتى شعرتُ أن الأمور ليست على ما يرام بل تزدادُ تعقيدًا معه، دقّت الساعة الثانية بعد منتصفِ اللّيل، وخرجَ مهرولًا في أَشّدِّ المطر الغزير وأنا أبكي وأصرخ باسمه، تلبدتِ السّماءُ فجأة وازدادَ هزيمُ الرّعد، والبرقُ يزمجرُ كالأسدِ الجائع، شعرتُ أن السماء لا تبشّرُ بخير، بل بدت حزينةً غاضبة، مضى ذلِكَ اليوم، انتظرته طوال اليومِ على الشّرفةِ، وأعددت طعامه المفضّل، لكنّه لم يأتِ، انتظرت اليوم الثاني والثالث ولم يأتِ، جاء اليومُ الرّابع فشعرت بألمٍ فظيع وغثيان، ذهبت للطبيب، باركَ الطبيب لي، فاستغربت منه، وقال لي مبارك، داخلَ أحشائك يقطنُ طفلٌ، على الأرجح أنّه صبيّ، كانَ الخبرُ كالصّاعقة، لم أدرِ ما أصنع، هل أشعر بالفرح؛ لأنّ أحمد يحلمُ بهذِهِ اللّحظة ؟ أم أبكي لأنه لم يعُد بعد؟
كنت أعدّ الدّقائق والثواني، على قيد الأمل، إلى أن جاءَ اليوم المشؤوم الذي جاء فيه أحد وأخبرني، زوجُكِ حُبِسَ من قبل أمنِ الدولة، وقيلَ بأنّه قد أعدم شنقًا؛ لتدخُلهِ في أحد المسؤولين، لم أعلم كيف استطعت شكره على أن كلّف نفسه وجاء ليخبرني، وأغلقتُ الباب، اعتدتُ البكاء، لكنّه كان هذه المرة مختلفًا، كانَ البكاءُ يخرج من قلبي حتى تقطّعَ نياطه، وجفَّت عروقه، مغشيًّا عليّ من هول الحدث، من فكرة الوحدة، من أن أواجه الحياة وتواجهني بقلبٍ واحد، وكتفٍ واحد، من همجيّة الحياة وعنفوانها، التي تهون لما يحملها اثنان، أما الآن ! فكيف؟!
لولا جارتي التي جاءت تطمئنّ عليّ مساءً ونقلتني إلى المشفى؛ لأني كنت كالجسد بلا روح، أخبرني الطبيب أن تلك الصدمة قد تؤثر على جنيني وطفلي، ارتعدَ قلبي خوفاً لم يبقَ لي من أحمد سوى طفل من صُلبه، سأعيشُ لأجله.
حتّى جاء اليوم الذي وضعت فيه طفلي وفلذة كبدي براء، أحسست بشيءٍ غريب عندما وضعته، لم يكُن كأيِّ طفلٍ آخر، كانت عيناهُ بعيدتين قليلًا عن بعضهما، ووجهه مليءٌ بالتجاعيد، صدمتُ لوهلةٍ وتذكّرتُ كلامَ الطبيب يومَ حذّرني من الصدمة التي وقعت بها، لكن عزمتُ بداخلي على أنْ أجعل هذه الغرابة تتميّز، وسأجعله صورة طبقَ الأصلِ عن والده الذي تمنى أن يأتيَ اليومُ الذي سيحضنُ فيهِ ابنه، وهكذا ملأ براء حياتي وبعضَ الفراغ الذي كان يخيّمُ عليها، لكن كانت هناك مشكلة، لم يكن هنالك مصدرٌ دائم للمال، فمال أحمد زوجي الذي تركه بدأ ينفد شيئًا فشيئًا، إلى أن اشتريتُ البارحة حليبًا لبراء بآخر دريهمات كنت أملكها، لذلك خرجتُ منذ الصباح أبحثُ عن عمل؛ كي لا يموت ولدي وفلذة كبدي من الجوع، وسألتُ بين الطرقات، ودلّوني عليكِ، منذُ رأيتُكِ التمستُ فيكِ نظرةً حانية، لذا أتوسّلُ إليك، أريدُ أنْ أعملَ عندكِ حتى لو خادمة.
إيمان:
- رقّ قلبي وكانت عيوني تبكي في تدفقٍ وصمت لحالِ هذه المرأة المسكينة التي عانت كثيراً، ورحّبت بها للعمل على الفور، ولم أرَ منها إلّا التّفانيَ والإخلاص، كانت تعمل وتكسبُ من عرقِ جبينها.
قاطعني براء قائلًا:
- إلامَ كل هذي الآلام التي احتملتها أمّي وواجهتها الحياة سخطًا، من غير رأفة نتيجة سبيل أبي الشريف!
إنّه الصّدق، إنّها ذروة الأشياء التي تطيح بك إلى الهاوية، تفانيك بالإخلاص في زمن المحسوبية، المحبة في زمن البشاعة، بات كل ما كان رُقيّا لعنة!
أبي على خُطى شريفٍ صان مهنته وأنا على خطى أبي، مهما تكلف الإنسان في السّير، المهم ألا يسقط مع كل ساقط، المهم دائما أن تصنع مهنتك بمبدئك لا أن تصنعك هيَ تبعا لهواك!
ذُهِلت إيمان من بلاغة كلماته وحنكته وذكائه من بين عباراته، حتّى بدا ذلِكَ جليًّا على وجهها.
أكملت قائلة:
- يكفي اليوم، نلتقي بلقاءٍ آخر إن شاء الله، ودّعها وأعطاها رقم هاتفه الخاص وهو ممتلئ بالدهشة، كيف حدثَ كلّ هذا سريعًا!
في تلكَ اللّيلة جلس براء في غرفةٍ معزولة من بيته مليئة بصناديقَ قديمة، كان يبحثُ عن شيءٍ ما، ويبدو أنّهُ مهمُ جدًّا، أفرغ الصّندوقَ الأول، وجد في آخره نصفَ صورةٍ مُمَزّقَةٍ مُهْترِئة، ما أن نظَرها، حتّى تحركتِ المشاعرُ داخل صدره، كانت صورتَهُ وهو بثيابٍ باليةٍ في الصّفِّ السّادس، وكما قضتِ العادة، في آخر يومٍ تُلتَقَطُ الصّورُ التذكارية لكلِّ الطّلاب، كانوا ينظرونَ إليه نظرةً مستهجنة، تذكر براء ذلكَ المشهد، يومها قال أحدهم:
- يستحيلُ أن آخذَ صورةً يجمعني فيها وحشٌ قبيح، وآخر يقول:
- هذا المسخُ سيشوِّهُ الصّورة، شعرَ براء بالغصّةِ داخل قلبه، ونيرانُ تحرق صدره، امتلأت عيناهُ دموعًا حارّة لو سُكِبتْ على جبل لأذابته!
التُقِطت صورة أثناء هذا المشهد لتظلّ بصمة عار في رأسه وعقلهِ وكيانِه!
وها هو بعدما تذكّرَ أخذَ يقطِّعُ الصورةَ إلى أشلاءٍ متناثرة، وكأنّ الصورة كانت نافذةً فُتِحت عبر الزّمان، فيطلُّ عليها بعد أن حاولَ نسيانها، وإلقائِها في مقبرةِ قلبه.
رمى براءُ الصورةَ في سلّةِ المهملات، وكأنهُ يحاوِلُ التّخلّصَ من الذّكرى داخِله.
أكمل البحث، فتحَ صندوقاً آخر، كانَ على وجههِ ألبومٌ منَ الصّور، أخذَ براء نفسًا عميقًا، وبدأ بفتحه، كانت في الصّفحةِ الأولى بعضُ الصّور لبراء وهو في المدرسة، من الصّفِّ الأول حتّى السّادس، كانَ يقلِّبُها في اهتمامٍ وصمتٍ ظاهر، لكن من الدّاخل كانت تمرّ الذكرياتُ كمشاهِدَ سريعةٍ ومؤلمةٍ في رأسهِ كرياحٍ عاتية، استهوته صورةُ له في مكانٍ لم يتعرّف إليه، كان بعمرِ الثّالثة، كُتِبَ على ظهرها «براءُ في معملِ الخياطة»، سمعَ ما يدلُّ على الخياطةِ حتّى لمعت في رأسهِ صورةُ تلك المرأة التي قابلها في الصّباح، أمسكَ هاتفه وضغطَ على رقمها واتّصل.
براء: ..............(يرن، يرن)
شهد: مرحبًا
- مساء الخير، هل السيّدة إيمان هنا؟
- مساءُ النّور، سأنادي أمّي حالًا.
إيمان: ألو..
- مساءُ الخير، أنا براء.
إيمان: أهلًا براء، بمَ أساعدك؟
براء: أريدُ منكِ معروفًا.
إيمان: تفضّل أنا في الخدمة.
براء: كنتِ قد أخبرتني أنَّ أمي قد عملت لديكِ في معملك.
في الحقيقة أودُّ أن أعرف عن أمّي أكثر..
إيمان: لكَ هذا براء، متى نلتقي؟
براء: ما رأيكِ بعد غدٍ في الرّابع عصرًا؟
إيمان: حسناً، ثمّ أقفلتِ الخط.
عادَ براءُ إلى الأكوامِ التي كان بينها، وتابعَ تقليبَ الصّور والغوصَ في الأعماق، مرّ على صورةٍ لفتت انتباهه، كانت أمّه تبدو شابّةً جميلة، ترتدي فستانًا أحمر اللون، مُزيّنًا بحزامٍ ذهبيٍ رفيع، وترمي بخصلاتِ شعرها على كتفيها، وتضعُ عليه دبّوسًا فضّيًّا على شاكلةِ فراشة جميلة، وتمْسِك بيدها يدُ رجلٍ مهندَمٍ يرتدي بدلةً سوداء، وربطة عنقٍ حمراء كما فستانها، وشعره مصففّ بطريقةِ مرتّبة، ولحيتهُ مهذّبة، علِم براء أنّ هذا أبوه، نظَر إليهِ طويلًا؛ يتأمّلُ شكله، يتلمّسُ على وجهه، شعرَ بشعورٍ غريبٍ لم يعرف ماهيّته، شعورٌ يشبهُ الحنين، لم يعرف براءُ معنى الأب فقد حُرِمهُ قبْلَ أن يولد، خُيِّلَ إليه، كيفَ سيكونُ الأمر لو كانَ والدهُ حيًّا بجواره، راودَهُ شعورٌ أنّهُ ما يزالُ على قيدِ الحياة، أكمَلَ رحلتَهُ في البحث، رأى الكثير من الصّور لأمّهِ وأبيه، والتي إن دلّت على شيء فهو عظيمُ المحبّة بينهما، كانا زوجين سعيدين.
تَعِبَ براء من استرجاعِ كلّ تلك الذكرياتِ في ليلةٍ واحدة، والسّاعة تجاوزت الواحدةَ بعدَ منتصفِ اللّيل، قرّر النّوم كي يستيقِظَ باكرًا، لديهِ غدًا قضيّةٌ جديدة.
على صوتِ المنبّهِ استيقظَ براءُ والنّعاس يأبى مفارقته، سمع المؤذن يقول:
- حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة.
هذا نداء من الله في بيتِه، إنّه حيّ على الصّلاة، أقبلْ على الصّلاةِ وصلِّ.
صلِّ؛ حتّى تُغفرَ ذنوبك، صلِّ حتّى تزولَ همومُك، صلِّ حتى تزولَ كُرَبُك، صلِّ حتّى تصِلَ تكبيراتُك عنان السّماء، صلِّ بحبٍ لرِبِّ الحبّ.
- الصلاةُ خيرٌ من النّوم، الصّلاةُ خيرٌ من النّوم.
هذا نعاسٌ من فعلِ الشّيطان، قُم واتركْ فراشَك، الدّافئ، قُم واسعَ في دفءِ قلبِك، عمّرهُ بالإيمان، احْفظْهُ بالقرآن، كيْ لا تغزوكَ الأشجان، سيشهدُ الزّمانُ والمكان، على صلاتِكَ خلفَ الإمام، بكلِّ حُبٍّ واحترام، حتى يملؤك الأمان.
قامَ على عجلٍ وصلّى صلاتين، كانت الأولى فريضة، أمّا الثانية، فهي عن قلبِ أمه، يُقال إن عملَ الإنسانِ ينقطِعُ بعد موتِه إلا من ثلاثٍ، إحداها، ولدٌ صالحٌ يدعو له، كانَ براءُ يدعو لأمّه قبل نفسه، ويهديها مسكَ القرآن كل صباحٍ.
ساعاتٌ من العمل الدؤوب على جهازه اللابتوب، يُعدّ تقاريرَ تخصّ القضيّة التي سيمثلها اليوم أمام المحكمة، أنهى آخر سطوره، ووضع توقيعه وشعرَ بالإنجاز والفرحة؛ لأنه يتقدّمُ شيئًا فشيئًا، ويتغلّبُ على عائق شكله.
في المحكمة كان براء يقفُ بكلِّ شموخ، يُنْطَقُ بالحقِّ على لسانه، كانَ الخصمُ المقابل له شابٌّ يحدِّقُ به بتعجّب، لم ينتبه له براء، بعد انتهاء الجلسة، خرجَ منتصراً كعادته، أضحى اسم براء في عالم المحاماة يلمعُ عاليًا ويلوحُ بالآفاق، فهو يزداد شهرةً يومًا بعد يوم، لم يعد شكلُه يشكّل عائقًا أمام أحد، لكن بعد هذه الجلسة ناداه أحدهم من خلفه:
- براء!
التفت براء إلى مصدر الصّوت.
- أنتَ براء، أليسَ كذلك؟!
ذُهِل براء عندما رأى أحد زملائه في المدرسة هنا، بعدَ هذه السنوات.
وقفَ الشابّ يحدّقُ ببراء كالتّائه:
- لكن كيف؟!
تبسّم براء ابتسامة سخرية:
- براء الذي كان منعوتاً بالوحشِ أصبَحَ محاميًا، قلبَ عدلُ السماءِ الموازين، لا أذكُرُ إلا شخصًا ضعيفًا غريبَ الشكل، أمضينا حياةَ المدرسةِ سخريَةً عليه، لم يمضِ يومٌ إلا ونعتناكَ فيهِ بالوحشِ أو المسخ، وها هو المسخُ يُصبِحُ محامياً.
بقي براء صامتًا واجمًا لا تدلّ ملامحهُ على شيء.
- أكملَ الشابّ، أنا حقًّا مذهولٌ بكَ وبشجاعتك، لقد استطعتَ أنْ تحقّقَ حلمك، أذكر اليومَ الذي سألتنا فيه المعلمة عن أحلامنا، قلتَ: سأصبح محاميًا، سخرنا منك، صدّقني يا براء، لا أتمنّى شيئًا الآن غيْرَ أن تسامحني.
أطالَ براءُ في صمتِه وكأنَّ نافذةَ ذكرياتٍ جديدةٍ أطلّت على الماضي قد فُتِحتْ من جديد، تذكّر ذلك اليوم الذي سألت فيهِ المعلمة عن أحلامِ طلّابها، أجاب بعضهم: معلّم، طبيب، مهندس، نجّار، إلى أن أتى دورُ براء الذي قال بصوتٍ خافت، أريد أن أُصبِحَ محاميًا، سَخِرَ كلّ طلاب صفه منه وأخبروه: من سيأتي ويطلب المساعدة من وحشٍ مُخيف؟! شعرَ بالغصَّةِ تسري داخل عروقِه، عادَ إلى أمّهِ باكيًا، حضنته وأخبرته:
- لا تكترث لهُم بنيّ، أنتَ قويّ، أنا أعلمُ ذلك، ستكونُ محاميًا لامعًا يتردد اسمُهُ في كلِّ زمانٍ ومكان، مثلَ والدِك تمامًا.
أفاقَ براءُ على نداءِ الشابّ الواقفِ أمامَه.
نظَرَ لهُ براء نظرةً غامضة، ثم استأذنَهُ وذهب دون أن ينبس بحرفٍ واحد.
عادَ براءُ تَعِبًا من هذا اليوم المليء، صلّى صلاة العصرِ في بيتِه، لَمَحَ ورقاتِ مُهترئة غطّى الزّمانُ على لونها الأبيضَ حتّى صارَ أصفرَ يميلُ إلى البنّيّ، كانت بجانب الألبوم الذي كان يتصفّحُ فيه ليلةَ أمس، أمسكها وفتَحَ الورقةَ الأولى، كُتِبَ فيها بخطِّ اليَد:
إلى ولدي براء..
- حبيبي براء، اليوم، تُتِمُّ عامك الرّابع، وكم أنا فخورةٌ بِك، أكتبُ هذه الرّسالة، ربّما ستقرؤها في يوم قد لا أكونُ متواجِدةً فيه.
منذُ وُلِدتَ يا براء وأنا أهبُ نفسي لك، لا أتذوَقُ طعامًا حتّى تشبعْ، ولا أنامُ حتّى تَغُطَّ في نومٍ عميق. بنيَّ براء: لم يكن شكلُك يشكِّلُ عائقًا لديّ، كنْتُ ولا زلتُ أراكَ الأجمل في ناظريّ، اسمعني يا ولدي، الحياة لا تعطينا كلّ ما نُريد، ولا تدورُ وفقَ هوانا، فترةٌ ممزوجةٌ بالحلو والمرّ ولم نكن لنَشعُرَ بلحظاتها الجميلة لولا تلكَ اللحظات المريرة. بنيّ: الدّنيا دنِيِّة في عينِ كلِّ من علمَ حقيقتها، وجنةٌ في كلّ من قدّسها. أيّ بنيّ: أكتُبُ كلماتي على أملِ أن تُؤَثِّرَ فيك، وعلى يقينٍ بأنها ستفعل، عندما تغيّرُ نظرتكَ للأشياء من حولِك، ستجدُ كلَّ شيءٍ حولك وقدْ تغيَّر، أحبَّ ذاتَكَ وقدّسها، كنْ للخيرِ منارة، اسعَ في حياتِك، فما أصبحَ أحدُهم عظيمًا من لهوٍ أو نوم. أيّ بنيّ: أرى فيكَ إنسانًا عظيمًا نقيًّا من الداخل، تكسوه همةً كالجبال أيّ بنيّ: إنّي أحبك وأنتظرُ اليومَ الذي أراكَ فيهِ مثلَ والدك، محاميًا عظيمًا........... سهام والدتُكَ
كانَ براءُ يقرأُ الورقةَ والدموعُ تملؤها، حتّى أصبحَ لا يُفهمُ منها حرفٌ واحد، شعرَ براء بالحنين الجمِّ لأمه، ودَّ لو يحضنُها ويَتَشبّثُ بها، ودَّ لو يُمسِكُ بيدها يقبِّلُها، لكنّها ميِّتةٌ، وهل يعودُ الأمواتُ متى ما أُضرِمتْ نارُ الشوقِ في صدورِ الفاقدين؟!
سجدَ براءُ على سجّادةِ الصّلاة يدعو اللهَ بكلِّ خشوعٍ وحُبٍ، يدعو لأمِّه، لمَعَت في خيالهِ صورةٌ لأبيه، كتلكَ التي كانتْ في الألبوم، لم يعرف بِمَ يدعو له، فقال:
- اللهم إن كانَ أبي حيّاً فاجمعني به، وارحمه إن كانت روحُهُ بين يديك.
اليومِ التّالي..
السّاعة الرّابعة عصرًا، في الحديقة، تجلِسُ قربَ النّافذة بصمتْ، تراودها خيالاتٌ وأفكارٌ كثيرة.
- براء: مساءُ الخير، آسفٌ لتأخُّري.
- إيمان: مساء النّور، لا عليك، لم آتِ أنا إلّا منذُ دقائقَ قليلةٍ.
- براء: حسنًا، آسفٌ لإزعاجِك، لكنّني في الحقيقة أشتاقُ أمّي كثيرًا، أودُّ أن أعرفَ ولو القليلَ عنها.
- إيمان: أنتَ تُشبِهُ أمّكَ كثيرًا براء.
لمعت عيناه.
لا يوجد أجملُ من أن يُقالَ للإنسان تُشبِهُ أمّك، يشعر بالفخرِ الشديد، كأنّهُ يأخُذُ قطعةً من الجنّة.
استمرت إيمان في حديثها تخبرهُ عن أمه، وما زادهُ الكلامُ إلّا حُبًّا عظيمًا لها، كانَ وما يزالُ يراها أفضَلَ امرأةٍ في العالم، كانت بيضاءَ القلبِ، لطيفة، تجعلُ كلَّ من يراها يُحِبُّ التكلُّمَ معها، كأنها تنطِقُ الجواهِرَ والماس.
صمتت إيمان قليلًا وبدا الحزنُ جليًّا على وجهِها.
- ما الأمر؟!
- كانتِ الأمورُ على ما يُرام إلى أن مَرِضت أمُّك، قَسَت على نفسها كثيرًا، لم ترضَ الذّهابَ للطبيبِ كي توفّرَ المال.
قلتُ لها:
- أرجوكِ سِهام، اذهبي للطّبيب أنتِ في حالةٍ مُزرِية.
- أنا بخيرٍ إيمان، وعكةٌ صغيرةٌ ستزولُ عمّا قريب.
- منذُ فترةٍ وأنتِ هكذا، حالتُكِ تزدادُ سوءاً يومًا بعد يوم، اذهبي أرجوكِ.
- لا أريدُ إيمان، يجبُ أن أُوَفِّرَ المال، لأن براء سيخرجُ في رحلةٍ مع زملائه، لن يكونَ مختلفًا عنهم بالتخلُّفِ عنها، يجبُ أن أُضاعفَ جهدي كي أجنيَ المالَ اللّازم لهذهِ الرّحلة، لا أريدُهُ أن يشعُرَ بالنّقص.
- أنا أعدكِ سأدفعُ لكِ لرحلةِ براء، لكن تعالَي نذهب للطّبيب.
- كلّا، منذُ مدّة والمعملُ في حالةٍ سيئة، لا شكّ أنّكِ تخسرين المالَ كثيرًا لإعادتِه كما كان.
- أعلم أنّ المعمل بدأ يخسر، لكنّ مفاتيحَ الرّزقِ بيدِ الله، ما دمنا نكسِبُ بعرقِ جِباهِنا، حاشاهُ أن يترُكَنا.
وهكذا لم ترضَ أمّكَ أن تذهبَ للطّبيب، إلى أن استيقظتْ بعد أيّام؛ لا تستطيعُ النهوضَ من الفراش، ذهبْنا لزيارتها، وأحضرنا الطبيبَ على الفور، لم يستطِع تشخيصَ مرضها، قالَ: يبدو أنَّ وضعها خطيرٌ جدًّا، يجِبُ أن تُنقَلَ إلى أقربِ مشفى في أسرعِ وقتٍ ممكن، نقلناها إلى المشفى وهُنا كانتِ الصّدمة لنا ولها.
قال الطبيب:
- تعاني من التهابٍ فيروسيٍّ حادّ، من الصّعبِ علاجه، وحالتها من المراحل المتقدّمة التي نادرًا ما تنجو منه، ولن تعيشَ طويلًا، حزنتُ عليكَ براء، لقد كنتَ تتلقَى صدمةً تِلوَ الأخرى، لم تكن تملكُ إلّا أمَك، وها أنتَ تراها مريضة، وبحالٍ يرثى لها، وربما تموتُ وأنتَ عاجزٌ عن فعلِ شيء.
تذكّرَ براءُ ذلكَ اليوم، كان سيلقي نفسَهُ من النّافذة، كان يصرخُ بصوتِ المرارة والألم، أمّي!، أمي!، مع صوتٍ يتحشرجُ مع البكاء، أرجوكِ أمّي أنا احتاجُكِ.
تكرّرت اللقاءات بينَ براء وإيمان، أحسّت إيمانُ أنّ تعبَ سهام على ولدِها، لم يضِع سُدًى ولا هباءً منثورًا، بل خلَّفت وراءها شابًّا قلّ أمثالهُ من شبابِ اليوم.
في آخرِ لقاءٍ لهما، قالت إيمان:
- منذُ أشهُرٍ ونحنُ نلتقي، وما وجدتُ فيكَ إلّا رجُلًا يُعتمدُ عليه، ونجاحاتُك تزداد شيئًا فشيئًا، أريدُ منكَ معروفًا يخصّ عملَك.
- تفضّلي خالتي، صدّقيني مهما فعلتُ لكِ لن أوفيّكِ حقّكِ، بسببِ ما قدّمتِهِ لأمي، أنا عاجزٌ عن شكرِك.
- كنتُ أحبّ أمك حبًّا عظيمًا، وأنتَ ورثتَ من محبّتي لها، أحبّكَ كابني، حسنًا براء، اسمعني.
- كلّي آذانٌ صاغية.
- كنتُ قد أخبرتُكَ أنّ لديّ معملًا للخياطة، كانَ كبيرًا ومشهورًا «تقولها بحسرة»، إلّا أنّه ذاتَ يوم بدأ يفقد شهرتَه، ويخسرُ المزيدَ والمزيدَ من المال، دونَ أسبابٍ جليّة، كانت ملابسنا تُوَزّعُ على كلِّ المحال، إلى أن ظهر السبب، ويُقال:
«إذا ظهرَ السبب بَطُلَ العجَب»، لقد كانت إحدى العاملات تمسِكُ الثيابَ التي نصنعُها وتصنَعُ العيوبَ بها، منذُ أتت لم أرتَح لها، كانت ابنة مسؤول، وقد شعرتُ بكثيرٍ من العجبِ والدّهشة؛ كيف لابنةِ مسؤول بهذا القدر تأتي وتعمل في معملِ خياطة!
قالت لي:
- أهوى الخياطة وأودُّ تعلّمها، رحّبت بها، فأنا لم أردّ سائلًا يومًا بفضلِ الله، وكانتْ تتعلّمُ حقًّا، إلى أن شعرتُ بأنّ المالَ ينقُص، والمَحَالُ بدأت تشكو بأنّ ملابسنا مليئة بالعيوبِ ولا تصلُحُ للبيع، لقد شكَكتُ في أمرها إلى أن شعرتُ أن المعمل حقًّا يُفلِس، رأيتها ذاتَ يومٍ صدفة، تمسِكُ المقصّ وتقصُّ الثيّاب الجاهزة، التي تُباعُ للمحلّات، واجهتُها، أنكرَت في البداية !، وكيفَ يفيدُ الإنكار وفعلتْ فعلتها أمام عينيّ هاتيْن؟!، ثمّ بعدَ إلحاح، قالت بكلّ جرأة:
- أبي مسؤول يحبُّ المال، ورثتُ منه هذا، فحبُّ المالِ يسري داخلَ عروقِنا، سأكونُ مِثله، وأجرّبُ هذهِ الأفعال.
- أنتِ فتاة مريضة، عديمةُ القلب والرّحمة، ألا تريْن العاملاتِ هنا يجنيْنَ قوتَ يومهِنّ، من كَدِّهن في العمل، وأنتِ هنا بكل جرأة تقطعين مصدرَ رزقهن، كيف لنفسك أن تكونَ بهذهِ الدّناءة؟!
أنتِ مطرودة وإيّاكِ أن تعودي إلى هنا أو أرى وجهكِ ثانيةً!
- تحلُمين، سأجعلُ والدي يشكو عليكِ، سأجعلكِ تندمين.
في الحقيقة يا براء لقد فعلت تلكَ الفتاةُ ما قالتْهُ، رفعت بي قضيّة، بتهمةِ المعاملةِ السيئة، وأنكرتْ أفعالها المشينة، وعندما علِموا أن والدها مسؤول، ربِحت القضيّة على الفور، لا يخافونَ الله، يعبدون المال والمنصِبَ كالمجوسِ للنّار، أفلسَ المعمَل، كانَ هذا منذُ سنةٍ على الأقل، وماتَ زوجي في تلكَ الفترة، وكانت أسوأ لحظاتٍ أمرُّ بها.
كوّنتُ نفسي من جديد، من الورثةِ التي ورثتها من زوجي.
أما تلكَ الفتاة فأنا متأكدةٌ أنّها ما زالت تفعلُ ما فعلتهُ بي بالكثيرِ من الأبرياء.
- للأسفِ الشّديد لا يمكنُ التّخلّص من الأوغاد عن طريقِ الانتخابات، لأننا لم ننتخبهم أصلًا.
- أريدُ رفعَ قضيّة لأستردّ حقّي وحقّ كل من ظلمتهُ وأبوها، والدُها يا ربّاه، لم ينجُ أحدٌ من شروره، مثلُ هؤلاءِ لا مكانَ لهم غير الحظيرةِ في غياهبِ السّجن.
- حسناً زوديني بالمعلوماتِ اللّازمة، وأعدكِ أن أعملَ في هذهِ القضية، حتى تكسبيها.
- حسناً براء، أعتمِدُ عليك، تعالَ غدًا إلى بيتي، سأعطيكَ أوراقًا ثبوتيّة، للعمل، وأوراقًا تُثبتُ خسارتي الكاذبة في تلكَ القضية.
- حسنًا، إن شاء الله.
في اليومِ التّالي كان براء يدق الباب دقّاتٍ متأنية متتالية..
شهد: سأفتحُ حالًا.
براء: مساءُ الخير.
ذُهِلت شهد من هذا الذي يقفُ أمامها، راعها شكلُه، كان ذلكَ جليًّا على وجهَها، هل بقِيَ أحدٌ لم يَخَف أو يسخر من شكله؟! نادت أمها بصوتٍ راجٍ، أتت أمها وانزعجت من شكلها وهي خائفة هكذا.
- أنا آسفة براء، تفضّل.
- لا عليكِ، أنا معتادٌ على هذا الأمر.
جلست إيمان مع براء في غرفةِ الجلوسِ الأنيقة.
كما ترى، أعيشُ وحدي وابنتي، زوجي رحمهُ الله، كان يديرُ مصنعًا لموادّ البناء، البيتُ فارغٌ بدونه،
- رحمهُ الله.
- لقد جهزتُ لكَ كل ما تحتاج من أوراق ودلائلَ وقضايا.
أخذَ براءُ الورق واستأذنها بالذّهاب، عاد إلى بيته، وضع الورقَ أمامهُ وبدأ يعمل، جمعَ كلّ ما قد يحتاجه من ناحية إيمان، لكن يجبُ عليهِ البحثُ جيدًا في أمرِ الفتاةِ وأبيها.
شعرَ بالإنهاك، ذهب واستغرق في نومٍ عميق.
في الصّباح استيقظ براء باكرًا وبدأ يجمع الأدلة ويكشفُ الحقائق، لم يكُن الأمرُ سهلًا، فهو محميٌّ من الحكومة، التي لم تدع أهوجَ إلا وجعلته رئيسًا، ولم ترَ ماكرًا ومختلسًا إلا جعلتهُ أمينًا، هذا ما يحدثُ في الغابة التي يُقتل فيها الأسدُ قسرًا على يدِ الذئبِ المحتال، ويسجّلُ الحاضرونَ غائبين وبيعت الأرواح، واستبيح الشّرف.
مضى أسبوعان، جمع براء ما يحتاجه للقضيّة، كم تعجّب من أفعالِ هذا الرّجل، هل يُعقلُ أن يكونَ حبُّ المالِ تبريرًا لكلّ تلكَ الجرائم؟!
حبّ الجاهِ والمالِ والمنصب جعلتهُ مفترسًا ينظر لفريسته نظرةً لا تميّزُ بين أبيضَ وأسود ما دام سيأكلها، حتّى لو دمّرَ الغابة في اللحاقِ بها.
يقفُ أمام القاضي بكلّ هيبة وعزّة، يتكلّم بالنّيابة عن إيمان، فهو محاميها.
تعجّبَ الحاضرون من جرأةِ براء في إدانة هذا المسؤول الكبير، حذّروه من فعلته، لأنه سيتورّط معه.
لم يكترِث براء، فصاحبُ الحقّ لا يخافُ في اللهِ لومةَ لائم، ومتى ما وُجدَ حقٌّ وجبَ أنْ يظهرَ على أفواهِ أصحابه.
عندما حضَر المسؤول إلى المحكمة، قال:
- أُدانُ أنا، ومن ذا يجرؤ على ذلك، قيلَ لهُ ذاكَ المحامي، قال بنبرةٍ مليئة بالسّخرية، وفضائيٌّ أيضًا؟!
شعر بالغصّة براء، فعندما يتعلّقُ الأمرُ بشكلِه، يضعفُ من الدّاخل، لأن لا دخلَ لهُ في خلقِ نفسه، شجّعته إيمان قائلة:
- تذكّر كلماتِ أمّكَ براء، كانت كلماتُ إيمان كالماء العذبِ للظمآن، فاشتعل التّحدي والقوة داخل صدره، تكلّم بكل جرأة ووضوح، كان الحقُّ على لسانِهِ يخرُجُ تباعًا، كان كلُّ منْ في الجلسة -التي لم تكن الأولى فحسب- مذهولين من براء، كيفَ يدافع؟!، إنّهُ كالجبلِ في مهبِّ الرّيح.
شعر ذاكَ المسؤولُ كريم أن وقعتهُ عويصة مع هذا المحامي، استعانَ بشتّى الطّرق لكي ينجو، لكن هذه المرّة كان براء قد افترَضَ كلّ أفعالِ كريم، فلم يفلح بالنّجاة ووقع في الشّبك!
بدأ القاضي النّظرَ في الدّلائل والبراهين التي قدّمها براء، وقد كانت كفيلة بأن تدخلهُ السّجنَ بضعَ أعوام، ثمَّ بدأتِ السّجلاتُ تُراجَع!
وُجِدَ أنّ هذا الرّجل الشيطان، ارتكبَ عشراتِ الجرائم والأفعال المُشينة؛ بهدفِ الجاهِ والمنصِب، ولم يُرَ على مرّ الزمان أحد في جشعه وطمعه، لو عُرِضَ لهُ قتلَ طفلٍ مقابلَ المال لَقَتَله. كيفَ يمكِنُ للنّفسِ البشريةِ أن تكونَ بهذا السوء؟! تستعبِدُ وتقتلُ وترتكبُ الفواحش، وتتجبّر ويصيبها داءُ الظُلم!
سُجِنَ كريمُ، وتمّ إحضارُ ابنتهِ للاستجواب.
وقفت إيمان قبالتها في المحكمة، كأن الماء والنّار اجتمعتا لإحداثِ كارثة ستطالُ الحجرَ والشّجر والبشر، كانت ابنة المسؤولِ عابسةً ذليلة، أمّا عينا إيمان، كانتا تلمعانِ ثقة وإيمانًا، كأنهما تقولان:
- لا بُدّ للحقِّ أن يعلو مهما تلبّدت السّماء فسيأتي الفرج، وهذا وعدُ الله ماضٍ في كلِّ زمانٍ ومكان، لن يعلو الباطل، وستشرِقُ الشمسُ بالنّور.
كانت هذه القضيةُ نقلةً نوعيّةً في حياةِ براء، فقد وضعَ قدمَهُ على ميدانِ المحاماة، بكلّ ثقة، حتى أنّ وسائِلَ الإعلام أجرت لقاءاتها معه. سألته مذيعةٌ ذاتَ يوم: كيف تدين مسؤولًا بهذا الشأن العالي، وتربحُ القضيّة؟!
كان براء يجيبُ إجاباتٍ مقتضبة وغامضة؛ تنمّ عن مقدارٍ عالٍ من الذّكاء.
لم يدعْ براءُ مجالًا لكريم بالإفلات، كانت ضربة قاضية أطاحت به، وما أن رأت ابنته والدها يسقط، انهارت وسلّمت نفسها، اعترفت بكل الجرائم والاختلاسات وأفعالها الهوجاء.
حُكِمَ عليهما بالسّجن المؤبد مع دفع غراماتِ مالية، وتعويضات لكلّ من آذوهم وسلبوا أحلامهم، لحُسنِ الحظ أنّ كريمَ كان يوثقُّ أفعالَه المشينةَ وجرائمه على أنّها انتصارات، مِمّا سهّل أمر حصرِ الذين ظُلموا من قبله ودفعِ التّعويضات.
عادتِ الحقوقُ إلى أصحابها وإن أخذتِ الكثيرَ من الوقت، لكنّها عادت، وأغلِقتُ القضية إلى الأبد.
وقفت إيمان فخورةً ببراء، إنّه رجلٌ يُعتَمدُ عليه في الأوقاتِ الصّعبة، شكرتهُ ودعت لهُ بصلاحِ الحال والنّفسِ.
- لا تقطعنا من الزياراتِ براء، متى ما احتجتَ لشيء ستجدني بجانبك.
- حسناً خالتي.
كان براء كعادته بعد كلّ نجاحٍ باهر يذهبُ إلى قبرِ أمّه.
لكن..
- سيّد براء، سيّد براء.
براء: ما الأمر؟! بِمَ أساعِدك؟!
الشرطيّ:
أنا الضابط أُسامة، من قسمِ المباحث، تولّينا البحثَ في الجرائم التي وثقها كريم، وفي الحقيقة أودّ إخباركَ بشيءٍ قد يخصّك.
دقّ قلبُ براء بسرعة البرق، شعر أن شيئًا مهمًّا سوفً يحدثُ الآن.
- ما الأمر؟ تكلّم.
- اسمُ والِدِكِ أحمد منصور الكنانيّ، أليسً كذلِك؟!
ازدادَ براءُ اضطرابًا عن ذي قبل، وبدا جليًّا على وجهِه.
- نعم، هذا اسمُ والدي، وأنا براءُ الكنانيّ.
- من القضايا التي رُفعت على كريم، قضيّة والدك، لكن استغلّ نفوذه وخرجَ منها كالشعرة من العجين، وأُلقِيَ اللّومُ على والدك لادعاءاته الكاذبة، وسُجِنَ طوالِ هذهِ السّنين ظُلمًا، وها أنتَ تستردُّ حقّهُ وحقّ كلّ من ظُلِم.
- والدُكَ حيٌّ يا براء.
إنّه شيء أشبه بالروحِ تُنتزَعُ من الجسد، كطلقة رصاصةٍ هوجاء على قلبِ ثائر، كمبضعٍ للجرّاحِ في جسدِ المريض، إنّه أشبهُ بلاجئٍ عاد يرى قريتهُ بعد سنين مضت.
- يا إلهي، تُرى هل يعلمُ بأن لديهِ ابنًا؟!، هل يعلمُ أنّ أمّي توفيَّت؟!
- لقد حقّقنا معه، يعلمُ أنّ زوجتهُ توفّيَت، فلقد تمّ إخباره عندما كانَ مسجونًا وهي لم تكن تعلمُ أنَه حيّ، ومنذُ ذلِك الوقت وهو في حالةٍ يُرثى لها، كان يعلّق نفسهُ بشعرةِ الأمل التي كان يستمدّها من بقاءِ زوجتِهِ تنتظره، وعندما انقطعت هذه الشّعرة، كأنّ روحهُ التي انتُزعت، وأضحى كالجسدِ بلا روح.
- هل يعلمُ عنّي شيئًا؟!
- لم يكُن يعلم؛ لكن مهّدنا لهُ الأمر كي لا تكونَ صدمة عليه، سألناه، ماذا لو كانَ لك ابن؟!
- أيا ليت، سيكون هنالكَ أثرٌ من زوجتي وحبيبَتي، ولكِن هيهات.
وبدأ بالبكاء، كانَ شديدَ التّعلّق بأمّك.
شعرَ براءُ باللّهفة العارمة والمزيج من الشّعور الذي لم يعرف ماهيّته.
- سيّد براء، والدكَ يقفُ خلفَ ذلِكَ الباب مع الشرطيّ بعد أن أخبرناه عنك.
كادَ يغمى على براء لفرطِ الشعور باللهفة والحنين والشوق والكثير من المشاعر المختلطة، يُريدُ أن يراه، يمسِك يديه، يتحسّسُ على وجنتيه، يرى من كانَ قدوة له في عالمِ المحاماة كما زرعت فيه أمّه.
- أرجوكَ دعني أراه.. كان براء بغير وعي.
- اهدأ سيّد براء.
أشار بيدِهِ على شرطيٍّ آخر يقفُ أمام الباب، ليُفتَح في مشهدٍ بطيء كالموت، ظهرَ رجلٌ يرتدي حذاءً أسودَ، وبنطالًا أسودَ، وقميصاً أبيضَ، يتّسمُ بالهيبة، بدت عليهِ علاماتُ الكبر والتّعب، تعبُ السّجن الذي ما فَتِئ يُضعِفُ أقوى رجلٍ في العالم، كان وجهُه يحوي بعضَ التجاعيد التي حُفِرت من هولِ السجّان، أمّا شعرهُ كان أسودَ مغطًى بالأبيض، يشبُه الصّورةَ إلى حدٍ ما، لكن هنا فاقدٌ لصحته ونضارته التي كان يمتلكها، للوهلةِ الأولى صُعِقَ الوالدُ من شكلِ ابنهِ الغريب، لكن لم يكترث للأمر، وقف قبالة ابنه، كلٌّ منهم يتفرّسُ الآخر بنظراتٍ ثاقبة، نفسُ الفم والابتسامة، وبعضُ الملامح التي أخذها من والدته.
كان براءُ عاجزًا عن الحركة..
كيف؟! هذا والدُه حقّاً! ما معنى أن يمتلِكَ الإنسانُ أبًا، ما هذا الشعور، ماذا سأفعل؟!
ثم في لحظاتٍ، كانت تمرّ ستون ساعةً في الدّقيقة، ركَضَ والدُ براء من جهة، وابنه من جهةٍ أخرى، في مشهدٍ مُهيب، وكلّ من في المكان تسقُطُ دموعهم بلا استئذان، هذا شرطيّ يمسح دموعه بكمّه، وتلكَ امرأة جلست تبكي بصمت، كان حضنًا قويًّا، رجلًا لرجل، والدهُ الذي لم يرهُ قطّ!
مرّتِ الحياة في رأس أحمد منصور كخيالات سريعة، تتزوج، تُسجن، تموت زوجتك، تفقد الأمل بالخروجَ من غياهبِ السّجن، ثمّ تخرج، وتكتشفُ أنّ لديكَ ابنًا، بل والأدهى من ذلك أن ابنكَ هو المسؤول عن إخراجك، فهو محام مشهور ذو أخلاقٍ رفيعةٍ، وها هوَ يرفعُ اسمكَ عاليًا، هذا يُشبهُ عالم الأحلام والحكايات.
- أنا أحلم؟! بنيّ, ما أعذب هذه الكلمة، بنيّ، بنيّ: هل نحنُ الآن في حقيقة؟!
- أنتَ والدي وأبي وزوجُ امرأة لن تسعَ الأرض وما عليها حبّها لك، أنتَ أبي، أنا لا أصدّقُ شيئًا.
تعانقا ثانيةً وثالثة ورابعة وما زادهما العناقُ إلا محبةً وشوقًا.
وجدَ كل منهما ضالّته، عاشا سويّة في بيتِ براء الذي امتلأ دفئًا وحبًّا بعد مجيء الوالد، لتعودَ النّفوسُ إلى مواطنها حيثُ كانت، ورابطة الدّمِ التي مهما قست أو ابتعدت ستحنُّ إلى منشئها.