أبواب مظلمة
تأليف: مصطفى حسن | الدولة: العراق
- تذكرة واحدة رجاءً.
- بأيّ قطار؟
- بغداد.
رفعَ رأسهُ ونظرَ إليها، فهذهِ عادتهِ، ينظر بتلهفٍ في وجهِ كل من يريد الذهاب لبغداد، مدينته، مسقط رأسهِ ووطنه..
لكنهُ عندما نظر إليها، نسي بغداد..
هذه المرةُ الأولى التي يقدمُ فيها شخصٌ على بغداد؛ فقد كانت شابة بالعشرينيات من عمرها، عكس ما يوحي صوتها، ذاتَ شعرٍ أسود متوسط الطول، وعيناها خضراء اللون، بيضاء البشرة وكأنها غيمة، ترتدي التنورة الطويلة، وسترة بُنية، تضع يدها على منصة الشباك، وأناملها بيضاء طويلة، رأى زيد بها بغدادَ أخرى..
- الاسم رجاءً.
- شروق.. شروق جمال.
كتبَ اسمها بتوترٍ وقطع التذكرة وأعطاها لها، وفي قلبهِ يقول (اسمٌ على مُسمى يا شروق).
تذكرَ بعينيها شروق بغداد حينما تطلُ أشعة الشمس على نهر دجلة، وتمتدّ لتداعب البيوت البغدادية.
جلستْ شروق على أحد المقاعد المخصصة للانتظار، وأعطت ظهرها لزيدٍ، وفتحتْ كتابًا وبدأتْ بالقراءة، بينما بقي زيد يعمل بغير انتباه، ويضطرب قلبه كلما قامتْ بتعديل خصلات شعرها، فهو منذ عملهِ في هذه المحطة منذ أربع سنوات لم تخطف امرأة قلبهِ مثلما فعلت شروق؛ ربما لكونها من بغداد، أو بسبب عينيها، فهو لا يعلم فقد ضاعَ بين ملامح وجهها وقامتها وصوتها.
تلقى زيد اتصالًا يخبرهُ بأن القطار سوف يتأخر ساعة، فقام ونادى بالسمّاعة خبر تأخر القطار، وعيناه على شروق، التي قد توترتْ عندما سمعت زيدًا، رجع ليجلس على كرسيه ونظرَ في سجلهِ ليدقق الأسماء والقوائم.
- عذرًا.. لكن لِمَ سيتأخر القطار؟
رفع نظره، كانت شروق هي من سألت، فقال:
- إنه عطلٌ بسيط يا آنسة، لا تقلقي، سوف تصلين إلى بغداد لكن فرق ساعة لا أكثر.
- لا، وجهتي ليستْ بغداد، أريدُ أن أنزل في الحلّة.
- آها! الحلّة.. حسنًا إذًا ستصلين متأخرة بنصف ساعة فقط، تفضلي اجلسي هنا، هل تريدين أن أسكب لك كوب شاي؟
- لا، شكرًا، لا أريدُ إتعابكَ.
واستدارت لترجع في مكانها دون أن تترك لزيد فرصة بالتكلم. بقي زيد يفكر في نفسهِ؛ هي ليستْ من بغداد لكنها بغدادية الملامح، رموشها بغدادية، كل شيء فيها يوحي بأنها من بغداد.
قام من كرسيهِ ليشعل النار تحت إبريق الشاي، انتظره ليغلي ومن ثم صبَّ كوبين من الشاي، توجه نحو شروق وقدم لها كوبًا وقال:
- تفضلي، لعلّهُ يُخلصكِ من البرد قليلًا، فالبصرةُ بردُها قارص. في الصيف شديدة الحرارة وفي الشتاء شديدة البرودة.
- شكرًا لكَ، لم أكن أريدُ أن أتعبكَ.
- لا، أيُّ تعبٍ هذا، على العكس.
بقيا واقفين يشربان الشاي دون التكلم مع بعضهما، سرقَ بعض النظرات منها، إلى أن وقعتْ عيناه على عينيها، نظرا لبعضهما قليلًا وكلٌّ منهما استدار بعينيهِ.
فتحتْ كتابها، ثم قالت وهي تُمعن النظر في حروفهِ:
- حقًا إن البصرةَ شتاؤها بارد.
- هل تريدين الدخول إلى الكابينة؟ لديّ مدفأة نفطية بالداخل.
- وتركتها لتجيء وتقف بالبرد هنا؟
- لا أرى في هذا أية مشكلة، هيا تعالي وادخلي من البرد، وإلا فستمرضين.
تقدم أمامها وفتحَ الباب لها، دخلت شروق وقد انبهرت من نظافة وترتيب المكان، ومما لفت انتباهها هو الكتب الموضوعة على الرف المجاور لكرسي زيد.
كان هنالك مقعد آخر للجلوس، لكن زيدًا أزاح الكرسي لها لتجلس، وهو تقدم ليجلس على المقعد.
لم يتكلما وبقيت تشرب الشاي وتتنقل ببصرها في أرجاء الغرفة، نظرتْ للكتبِ فسألتهُ عنها، فأجاب بأنها كُتبٌ فكرية واجتماعية، ثم أخبرتهُ أنها مُهتمة بالكتبِ أيضًا، وبقيا يتجاذبان أطراف الحديث ويتناقشان بأمور بسيطة إلى أن حان الوقت ووصل خبر وصول القطار لزيد؛ تكدرَ وقال لشروق بأن القطار سيصل خلال خمس عشرة دقيقة، قامت لتهيئ نفسها وأشياءها، وخرجتْ من الكابينة لتنتظر القطار، أخذ زيد أحد الكتب وفتح الصفحة الأولى وكتبَ فيها إهداء بسيط (أتمنى لكِ قراءة ممتعة. زيد) مع توقيعهِ، ومن ثم خرجَ وراءها، فقال:
- تفضلي أيتها القارئة.
- ما هذا؟
- أحدُ كُتبي، اعتبريه هديةً بسيطة مني.
فتحت الصفحة الأولى، قرأتْ الإهداء ثم قالت:
- شكرًا لك يا زيد، اسمٌ مميز كصاحبهِ.
ابتسم زيد بخجلٍ وبقي بجانبها حتى أتى القطار، حملت حقيبتها واتجهت نحو سلالم القطار التي كانت عاليةً عليها مما جعل زيد يصعد قبلها ويمدُّ يدهُ إليها، بقيتْ تنظرُ بترددٍ، ثم أمسكتْ يدهُ لتصعد، وعندما صعدتْ تركَ يدها ومرر أصابعهُ على أصابعها لكنهُ ما لبثَ حتى سحب يدهُ بسرعةٍ خجلًا، ثم نزل من السلالم. ودعتهُ بإشارةٍ من يدها وابتسامةٍ خجولة ومشيت لمقعدها، بينما رجع هو ليقف أمام شباك التذاكر، ولم يرد أن ينظر الى مكان جلوس شروق، التي كانتْ جالسةً وتنظرُ إليهِ من نافذة القطار، راجيةً أن ينظر لها نظرة أخيرة لكنه لم يفعل، وعندما تحرك القطار رجع ليدخل إلى غرفتهِ ولم ينظر حتى اختفى تمامًا.
اختلطت مشاعر زيد بين الحزن لأن شروق ذهبت وبين السعادة التي غرستها شروق فيهِ، وبقي ينتظر صاحبهُ، محمد الرجل الكبير في السن، ليُكمل عملهُ ويأتي ليجلس مع زيد ويتبادلان الكلام، والمسامرات، والأغاني والشاي والدخان، لكن محمد تأخر هذهِ المرّة، وجعل زيد ينتظرهُ على أحر من الجمر ليخبره عمّا حصل معهُ.
فتح زيد مسجلهُ ليسمع بعض الأغاني، وبقي يفكر في شروق، حتى أنه لم يستطع معرفة الأغنية وكلماتها، بل كان يسمع اللحن فقط، وبينما هو كذلك فُتِح الباب ودخل محمد، وجلس على المقعد لكنه لم يُسلم، وزيد من شدة شرودهِ لم ينتبه لهُ، أشعل محمد سيجارته، وانتبه زيد له عندما سمع صوت القدّاحة.
- أهلًا يا عمي.
- ما بالكَ شاردٌ هكذا، هل اشتقت لبغداد كعادتك؟
- لقد أتتْ لي بغداد بنفسها.
- وكيفَ هذا؟
- لقد أشرقت عليّ بنتٌ من الحلّة، بغدادية الملامح.
- وماذا بعد؟
- أحببتُها يا عمي!
- من نظرة واحدة؟ لا أعتقد؛ فالحب من نظرة واحدة هو كذبة، الحب من النظرة الأولى يُغرَس، لكنهُ لا يُثمر.
- وماذا تفسر الحال التي بها أنا؟
- إنك معجبٌ فقط، سيزيل تأثير هذا الإعجاب قريبًا.
سحب زيد سيجارة ودخنها، ثم قال:
- اسمها شروق، إنها مشرقة.. قلّ لي يا عمي، هل أحببت من قبل؟
- نعم أحببت، اسكب لي كوب شاي الآن فقد تجمدتُ من البرد.
- وهل تزوجتَها؟
- لو تزوجتُها، لما وجدتني جالسًا أمامك! قصة طويلة يا بُني، طويلة ومحزنة، ولا أريد الخوض في تفاصيلها، فدائمًا ما ترهقني، وتعذبني.
سكت الاثنان وبقي كلٌّ منهما يفكر في أمورهِ، فزيد يفكر في شروق، ومحمد يفكر في حبيبتهِ التي ذهبتْ منهُ، سحبَ نفسًا كلهُ أشجان ثم قال:
- لقد قتلها أخوها.
- ماذا؟! وكيف! لماذا ومتى؟ أخبرني..
- كانتْ شابة حسنة الوجه، طيبة القلب، وقعتُ في حبها ولم أستطع الظفر بها، أحببتها منذ كان عمري سبعة عشر عامًا، عشتُ أجمل أيامِ حياتي معها، في كل مرةٍ كنتُ أذهب إليها مثقلًا بحزني، تجعلني أبتسم، وتبثُ في قلبي الطمأنينة بنظرةٍ واحدة منها..
كُنّا نختلفُ في بعض الأمور، لكن هذا الأمر زادَ حبّنا، كانتْ أجمل ليالي حياتي معها، على ذلكَ الشبّاك، عندما أصبحتُ في الثانية والعشرين، قررتُ الزواج بها، ذاتَ يومٍ استيقظتُ صباحًا لأخبر أمي أن تخطبها لي، لكنني سمعتُ صوت بكاء فخرجتُ من البيت وتوجهتُ صوب مصدر البكاء، فتبين أنه بيتهم، أخرجوها أمامي ملفوفة بشرشف، وبعض من خصلات شعرها الشقراء كانت تقطرُ دمًا وهي منسدلة من النعش.
لم يكمل محمد وغرقتْ عيناه بالدموع وأصبحتا حمراوين، تنهد وأشعل سيجارة، سحب منها بعض الدخان، ثم أكمل ولكن بغصّةٍ في نبرتهِ:
- بعد السؤال عرفتُ بأن أخاها قتلها بحجة غسل العار، ولأنه رآها مع رجل يقف على شباكها.
لقد كنتُ أنا هذا الرجل يا زيد، أنا من كنتُ سبب قتلها، تمنيتُ لو أن أخاها قتلني أنا بمكانها، لو أنه قتلنا كلينا، الحياة ليستْ عادلة يا زيد، ليستْ عادلة أبدًا.
ولم يستطع محمد مسك دموعهِ فبدأ يبكي كثيرًا، أما زيد حتى هو سقطتْ دموعهُ ولم يواسِ رفيقهُ..
وبعد ربع ساعة تقريبًا سكت الاثنان، وقام محمد، فقال:
- تصبح على خير، أنا ذاهب لأنام في غرفتي.
- ماذا كان اسمها يا عمي؟
لم يُجبهُ محمد وخرجَ من الكابينة وترك زيد في مشاعر متخبطة ومختلفة.
في الصباح، أتى حسن، الشخص الذي كان عليهِ أخذ مكان زيد، ليذهب الأخير في استراحة يومين ومن ثم يعود، هكذا كانتْ مناوبة العمل هناكَ.
أخذ زيد أغراضه وذهبَ ليصبّح على محمد وليطمئن عليهِ، وما أن وصلَ، طرقَ الباب مرتين ولم يسمع جوابًا، صاح عليهِ مرة واحدة ولم يسمع جوابًا أيضاً، استدار ومشي ليخرج من المحطة وهو خائف على محمد، ولم يرد أن يدخل خشيةَ أن يجدهُ ميتًا، وهو لا يريد أن يضع نفسهُ في هذا الموقف، فعلى الرغم من أنه يحب محمدًا، إلا أنه قد تراجع عن دخول غرفتهِ، وبينما هو يمشي سريعًا وخائفًا أن يسمع خبرَ موتِ رفيقه العزيز، أخرجهُ صوتٌ من وضعهِ هذا:
- زيد! أين صباح الخير خاصّتك؟
تفاجأ زيد وابتسم ومن ثم ذهبَ ليقبّل رأس محمد، وقال:
- جئتُ إلى غرفتكَ ولم أركَ؟ أين كنتَ يا عمي؟
- لقد خرجتُ لأتمشى قليلًا، فأين سأذهبُ مثلًا؟ لن أموتَ اليوم لا تخف.
- عُمركَ طويلٌ يا عمي.
- أيّ عمرٍ هذا يا بُني، حسنًا اذهب لبيتكَ وخذ قسطًا من الراحة واستحم.
- هل ستمرّ عليّ الليلة؟
- لا أعرف، لربما أنني سأذهب لرؤية أخي فاضل وأولادهِ لقد اشتقتُ إليهم.
- خُذ راحتكَ يا عمي، أنا بانتظارك دومًا.
وسلّم عليهِ وودعهُ ومن ثمّ خرجَ من المحطة ليذهبَ لبيتهِ بالإيجار، الذي أجّرهُ منذ بدأ عملهِ في محطة قطار البصرة.
قضى يومين في بيتهِ وهو ينتظر محمدًا أن يأتي إليه، لكنهُ لم يفعل، لأنه بقي عند أخيه فاضل.
بعد انتهاء اليومين ذهب زيد للمحطة، سلّم على حسن وجلس في الكابينة، تكلما قليلًا وشربا الشاي، ثم قام حسن ليذهب، خرجَ ولكنهُ توقفَ، ثم قال:
- بالأمس إحدى المسافرات سألتْ عنكَ، وقلتُ لها أن تخبرني ماذا تريد لكنها رفضتْ وقالت إنها أرادتْ رؤيتِكَ فقط.
- ماذا كان اسمها؟
- قالت بأن اسمها شروق على ما أعتقد.
- آها، وماذا قالت أيضاً.
- هذا كل شيء.
- حسنًا
ثم خرجَ حسن وترك زيدًا يفكر طويلًا بشروق هذهِ التي سرقتْ قلبهُ، يفكر بعينيها، برموشها، ابتسامتها، وحتى نبرة صوتها، ولا يعلم أين ستصل بهِ الحال.
أكمل زيد يومهُ كما هو مُعتاد بدون محمد، فاليوم هو آخر يوم لاستراحتهِ وسيأتي غدًا.
في اليوم التالي، لم يأتِ محمد، وقد انتظره زيد، وبقي مشغول البال عليهِ، وعندما تحرك القطار وذهبَ، توجّه زيد لمدير المحطة، فسأله عن محمد، لكن مدير المحطة لا يعرف شيئًا عنهُ، فقام زيد بالاتصال عن طريق التلفون الأرضي بمنزل فاضل، ليسأله عن محمد، لكن فاضل أخبرهُ بأن محمدًا قد ساءت حاله ونقلوه للمستشفى، لكنهُ الآن في وضعٍ مستقر.
ذهبَ زيد ليخبر العاملين في المحطة عن محمد، وأنه سيذهب لزيارتهِ غدًا، وأجمعوا على الذهاب إليه.
في اليوم التالي ذهبوا لمحمد ودخلوا عليهِ في غرفتهِ، وفورًا عند دخولهم ابتسم بفرحٍ وعيناه تنظرُ إليهم، قضوا معه قرابة الربع ساعة فقط، فهم لا يريدون الإثقال عليهِ؛ وهو مريضٌ يحتاج للراحة، وعند خروجهم صاحَ محمد لزيدٍ:
- زيودي.
- نعم عمي.
- أنتَ ابقَ، لدي كلامٌ معكَ.
أغلق زيد باب الغرفة وجلسَ على الكرسي هو ومحمد فقط، لأن فاضلًا قد خرج لتوديع البقية.
- خيرٌ يا عمي؟
- ألا تريد الكلام مع رفيقكَ؟ أم أنكَ تخلّيتَ عنّي بسرعة.
- لا لا يا عمي، على العكس، فليلة أمس غريبةٌ ومملة بدونكَ، لكنني لا أريد تعبكَ وحالتكَ تحتاج الراحة.
- راحتي بالكلام معكَ، قال الأطباء بأنني قد كنتُ سأتعرّض لجلطة قلبية، لكن الله قد نجاني منها، ولم أحب إخباركم عنها، لكنكَ مختلفٌ.
- حمدًا لله على سلامتكَ، وكيف حصل هذا؟ أقصد كيف تدهورت صحتكَ فجأةً؟
- لا أعرف، أحسستُ بألمٍ في قلبي، سقطتُ ومن ثم وجدتُ نفسي في المستشفى، المشكلة أن الطبيب قال لي بأن السجائر مضرّة وعليّ تركها.
- أنتَ أخرج من المستشفى وسأهرّب لكَ السجائر، لكن لن تشرب أكثر من اثنتين في اليوم.
- أيها المشاغب، كم أحبكَ، على كلٍّ، أردتُ إخباركَ شيئًا، ولا تعترض عليَّ.
- تكلم يا عمي.
- أنا أعرف أن إجازتك الأسبوعية تبدأ من اليوم، وأعلم أنك مشتاقٌ لبغداد كثيرًا، عليكَ أن تذهب، لا تبق هنا من أجلي.
- لكن يا عمي، أهلي في بغداد لا يرحبون بي، حتى أنهم قد سعدوا بقرار نقلي للبصرة، وأنت تعلمُ أنني لا أذهب من أجلهم، بل أذهب من أجل بغداد، من أجل دجلة، المتنبي، الكرّادة، والكرخ..
- أنتَ مخيرٌ، إما أن تعيش وحيدًا أو تعيشَ مع أشخاصٍ كُلهم تراكمات عاطفية ونفسية، فأرى أن تتخذ الخيار الثاني أفضل.
- وصحتكَ يا عمي؟
- ليس بي شيء، سأخرجُ غدًا، أستطيع الآن أن أتسابق معكَ وأهزمكَ.
- جعلكَ اللهُ دومًا قويًا.
- هيا، اذهب وحضّر أغراضكَ لتذهبَ لبغداد، حبيبتُكَ الأولى.
ودّعهُ زيد وخرجَ، ونظرات محمد خلفهُ، وبقي يمشي في أروقة المستشفى حتى وصلَ لبابها، وهو يفكر بصحة رفيقهِ وبشروق، كيفَ سيحافظ على صحة الأول وكيفَ سيدخل لقلب الثانية..
إنهُ لأمرٌ متعب التفكير في الحب، وكأنهُ يقول لنفسهِ ما الذي أدخلكَ لطريق الحب هذا، لقد كانت علاقتكَ بكتبكَ والشاي والسجائر فقط، والآن أنتَ تنسى كل هذا بمجرد التفكير في شروق.
ذهب زيد لبغداد في إجازته الأسبوعية وقضاها بالتنقل بين مدنها وأروقتها، ذهب للرشيد، المتنبي، الأعظمية، الكاظمية، ساحة التحرير، وكعادتهِ ختم آخر ليلة على ضفاف دجلة، أشبع قلبهُ من حبيبتهِ بغداد.
عند عودتهِ إلى البصرة، في القطار، نزل في المحطة ليأخذ مكان حسن.
- السلام عليكم، شلونك حسن؟
- عليكم السلام، أهلًا زيد، الحمد لله وأنتَ؟
- بخير، كيفَ حال محمد؟
- جيد، لقد تعافى وعاد للعمل هنا، إنه في غرفتهِ، لم يمرّ عليّ ليلة البارحة، سلّم وذهب، أعتقد أنه تعبٌ بعض الشيء.
- نعم، فقد مرَّ بظرفٍ صحي حرج.
- زيد، أعتذر عن التدخل، لكن ما قصة شروق هذهِ؟
تحركتْ مشاعر زيد وابتسم، ثم قال:
- لماذا؟
- لقد أتت ليلة البارحة وقطعتْ تذكرةً لبغداد، وبقيتْ تفتشُ بعينيها عنكَ، وتركتْ لكَ هذا الظرف، لم أفتحهُ، ولا أعلم ما في داخلهِ.
- إنها مجردُ صديقة، أين هو الظرف؟
- هنالكَ على الطاولة.
- حسنًا، شكرًا لكَ.
- العفو، سآخذ رخصة الآن لأذهب لبيتي؛ لأستريح.
طار زيد من الفرح لكنهُ لم يبين ذلكَ، وعندما دخلَ لغرفتهِ أغلق الباب وراءهُ وجلسَ على الكرسي، وكان متشوقًا لفتح الظرف، تحسسهُ فعرف أنه كتاب، فتحهُ بمهلٍ وشوق، وقد كان كتابًا كما توقع، بعنوان (الليالي البيضاء) للكاتب دوستويفسكي، وفي الصفحة الأولى إهداء بخطٍ جميل (لليالي زيدٍ اللطيف، أهديكَ هذا الكتابَ.. شروق).
تحسسَ زيد الخط بأصابعهِ وهو مبتسم، وأغلقَ الكتاب تاركًا إياه لليلتهِ حتى يتنسى لهُ قراءته بتروٍ وحب، خرجَ من الغرفةِ ليذهب لرفيقه محمد، وقد وجدهُ واقفًا أمام باب الغرفة، حضنهُ وقبلهُ من وجنتيهِ، وقال محمد:
- ألم أقلُ لكَ بأنني سأخرجُ في اليوم التالي؟
- الحمد لله.. كيفَ حالكَ؟ لقد اشتقتُ إليكَ.
- وآني كم اشتاقيتلك ولك، كيفَ حال بغداد؟
- جميلةٌ وحزينة، كما عهدناها.
وبقي الاثنان يتمشيان سويةً ويتكلمان في أمورٍ مختلفة، بدأ محمد عملهُ في تنظيفِ المكان وزيد لا يفارقهُ ويساعدهُ في بعض الأمور، حلّ وقت الظهيرةِ وتناولا الطعام معًا، وعند المساء، وقبل ذهاب القطار لبغداد، وعندَ انتهاء عمل محمد، اجتمعا في الغرفة كما هو الحال وبقيا يتبادلان الحديث، فتذكر زيدٌ شروق، فقال والسعادة تملأ عينيه:
- لقد أتت ليلة أمس.
- من؟ شروق؟
- نعم، ألم ترها؟
- لا لا، فقد كنتُ أعمل.
- تركتْ لي هذا الكتاب، هاك انظر في الصفحة الأولى.
قرأ محمد الصفحة الأولى، حَزِنَ عند رؤية اسم شروق لكنهُ سرعان ما ابتسم وقال:
- يجب أن تكتبَ اسمي بجانب اسمك أيضاً فنحن نتقاسم الليالي
وضحكَ الاثنان فأكمل محمد:
- يبدو أن الحبَ متبادلٌ بينكما.
- حقًا؟ وكيفَ عرفتَ ذلكَ؟
- من الاهتمام، الاهتمام يا زيد، أساس الحب، في بدايتهِ وذروتهِ، فهي مهتمةٌ بكَ كما يبدو.
ابتسم زيدٌ، وبينما هما كذلكَ سمِعا صوت صياحٍ وشجار، خرجَ زيد ومحمد سريعًا، لرؤية ما يحدث، كانَ هنالكَ شجارٌ حاصلًا بين شابٍ ورجل كبير في السن، ولم يُعرف سببه، هرعَ زيد للفصلِ بينهما، ولكنهُ قبل أن يصل قام الشاب بتوجيهِ لكمة لوجه الرجل الكبير، فسقطَ أرضًا، وقفَ زيد بينهما وقد وضع الرجل الكبير خلفَ ظهرهِ ودفع الشاب وسقط، قام الشابُ راكضًا، فمسكهُ زيد من يديهِ، ليحمي الرجل الكبير، الذي قام بسحبِ سكينٍ ووجهها إليهما.
- زيد، دير بالك!
صاح محمد عليهِ، لكن الأوان قد فات، فقد طُعن الشاب في خاصرتهِ وهو بين يدي زيد.
تم مناداة الحرس بعدما قام أصدقاء الشاب المطعون بمسكِ الرجل الكبير وتوجيهِ بعض اللكمات إليهِ، لكن الحرس منعوهم من ذلكَ.
بعد قدوم الشرطةِ والإسعاف، أخِذَ الرجل الكبير مُكبلًا.
بَقي زيد ومحمد في الغرفة والصدمة على وجهيهما، وزيد خائفٌ والدم في يديهِ، حتى نبههُ محمد وقام ليغسلهما، وبقيا حتى الفجر ثم ذهب محمد لغرفتهِ، تاركًا زيد مستيقظًا حتى الصباح، أشعل النار تحت إبريق الشاي ويده ترتجف، سمعَ وقع أقدام، وفُتِحَ الباب عليهِ دون أن يطرقوه، لقد كانوا رجال أمنٍ ومدير المحطة.
- أنت زيد كريم؟
- نعم، لماذا؟
- بدون أيّ كلام عليكَ الذهاب معنا.
- ولكن..
وقبل أن يُكمل زيد سحبوه من ملابسهِ وأخذوه قسرًا.
- أنتَ زيد، مو؟
- نعم، أنا زيد، لكن أنتم من؟
- أنتَ في المكافحة الآن، وعليكَ أن تعترف.
- بماذا؟
- تسوي نفسكَ ما تدري؟
- لا أعلم، عن ماذا تتكلمون؟!
- حادثة الطعن التي حصلتْ يوم أمس، لماذا ساعدتَ في طعن الشاب.
- أنا لم أفعل ...!
وبعد أن وجهَ الضابط صفعةً قوية لزيد، قال:
- كلما تعترفُ سريعًا كلما قلّ ضربك.
- لكنني لا أعرفُ أيًا منهما!
- ثامر قال أنهُ يعرُفكَ، وأنكم متفقين.
- ومن هو ثامر!
صفعهُ الضابط مرةً أخرى ولكن هذهِ المرة أقوى، مسكَ زيد من ياقتهِ وصاحَ به:
- ثامر هو الذي طعن جمال، أنتَ تعرفهُ جيدًا، وأحذركَ أن تُنكِر
- أقسمُ لكَ بالله أنني لا أعرف أحدًا منهم.
لم يتركوا المجال لزيد للتكلمِ وانهالوا عليهِ ضربًا وتعذيبًا بالعصيّ والكابلات حتى تمزقتْ ملابسهُ من على جسدهِ، وبعد أن أغميَ عليهِ، سكبوا عليهِ ماءً باردًا واستيقظَ هَلِعًا، وبقوا على هذهِ الحال حتى اعترف زيد بما يريدوه منه، تبسمَ الضابط وقال:
- من البداية واعترف، لماذا تقاوم هكذا؟
وتركوا زيدًا غارقًا في دماءهِ وآلامهِ، تذكرَ أحد معارفهِ الذي فقدَ عينهُ بالتحقيق وهو لم يقترف أي ذنب، والآخر الذي كسروا قدمهُ كسرًا مضاعفًا ولم يستطع المشي عليها، وأصابها سرطان وقرروا بترها، ومات بعدها بشهرين، فهكذا هو التحقيق في بلدٍ ديمقراطي كالعراق يجوز لهم قتلُ أيًا كان لإجباره على الاعتراف بما لم يقترفهُ من جريمة.
قضى زيد شهرًا في سجن المكافحة، وقد أُعيد تسجيل أقوالهِ، وقال إنه قد مسكَ الضحية ولم يعلمْ بأن الجاني قد سحبَ سكينًا ليطعنهُ. وفي هذا الشهر لم يُسمح لأي أحدٍ بزيارة زيد، وبعد أن أفاقَ جمال اتهم زيدًا بأنهُ قد مسكهُ حتى يقوم ثامر بطعنهِ، وأنهُ قد ضربهُ قبل أن يُطعن.
أخبروا زيد بأن محاكمتهِ ستتم بعد أسبوع، وفي هذا الأسبوع يستطيع أن يُكلّف محاميًا، وأن يستقبل الزيارات، وبعد مرور يومين قامَ محمد بزيارة زيد، وبعد أن سلّم عليهِ، قال:
- ماذا فعلوا بكَ يا زيودي! كسّر الله عظامهم.
- حمدًا للهِ على كلّ حال.
- لقد قام أصدقاء هذا الحقير جمال بالافتراء عليكَ، وقد شهدوا بأنكَ ساعدتَ ثامر بالطعن، ولم يشهد أحدٌ لصالحكَ غيري، فالكل كان خائفًا؛ لأن جمال من عشيرةٍ كبيرة ومعروفة في البصرة!
- أنا أسلمُ أمري لله، فإن ظلموني فالله سيحاسبهم، وأنت يا عمي عليكَ أن تسحبَ أقوالكَ فأنا أخافُ عليكَ من جُرمِ هؤلاء.
- ماذا تقول يا زيد! لا أريدُ سماع هذا الأمر منكَ ثانيةً، إنني خَجِلٌ الآن لعدم مقدرتي على توكيل محامٍ لكَ.
- لا أريد محاميًا يا عمي، أنا سأقول الحق ولن أقول غيرهُ.
- لا أعرف ماذا أقول..
- كيفَ حال المحطة، ومن وضعوا مكاني؟
- بأيّ حال أنتَ وتسأل عن المحطة!
سكت محمد قليلًا، ثم قال:
- لقد وضعوا مكانكَ ولدًا شابًا لا أعرفُ اسمهُ، لا أترددُ عليهِ، حتى حسن أقوم بالسلام عليهِ فقط.
- سأخرجُ قريبًا ونرجعُ لأيامنا معًا، لا تتكدر يا عمي.
«نظرًا للتهمة الموجهة إلى المجرم (ثامر محسن جاسم) وأقوال الشهود الأربعة ضدّه، تم الحكم عليهِ بالمؤبد بتهمة الشروع في القتل وتم تخفيف العقوبة للسجن عشر سنوات».
«نظرًا للتهمة الموجهة إلى المجرم (زيد كريم محمد) وأقوال الشهود الأربعة ضدّه، تم الحكم عليهِ بالمؤبد بتهمة الشروع في القتل وتم تخفيف العقوبة للسجن عشر سنوات».
كان موقف زيدٍ ثابتًا في هذهِ اللحظة، ولم يفعل شيئًا سوى الالتفات إلى محمد والابتسام، وكأن ابتسامتهُ تقول بأنه ليس خائفًا من شيء، لطالما هو نفسهُ يعرف ببراءتهِ، عكس ثامر الذي قد بدأ في الصراخ ومحاولة الخروج من القفص عند سماعهِ الحكم!
نُقِلَ زيد لسجن الحوت في ذي قار، وبقي هنالك قرابة السبعة أشهر حتى قامَ محمد بزيارتهِ الأولى لهُ، وقد أخذتْ الدموع مأخذها منهُ عندما رأى زيدًا بعد فراقٍ طويل، الذي كان مبتسمًا رغم عَدَمِ ظهور علامات الارتياح على وجههِ، بسببِ بُعدهِ عن بغداد وعن محمد، كان هذا هو همّهُ الأكبر رغم مرارة وهمّ السجن وهو بريء.
- لماذا صحتكَ متدهورة يا عمي؟
- وكيف تريدها وأنتَ بعيدٌ عنّي هكذا؟! فضلًا عن كوني كبير في السن ولم يتبقَ لي من العمر شيء.
- عُمركَ طويلٌ، بعد عشر سنوات سأخرجُ وستكون أولَ من يستقبلُني، لقد قضيتُ سبعة أشهر ولم يبقَ لي سوى تسع سنوات.
- وابتسم ثم أكمل:
- إنها ليستْ سوى رمشة عين وتراني حرًّا طليقًا، الشجعان لا يخافون السجن وهم يعلمون ببراءتهم.
- أخشى ألا أكون موجودًا عندَ خروجكَ، فوالله إني لا أريد هذه الدنيا إلا من أجلكَ ومن أجل أخي وأولادهِ.
- لا تتكلم هكذا يا عمي، قلّ لي، هل وضعوا مكاني أحدًا؟
- لقد وضعوا ثلاثةً أشخاصٍ حتى الآن بأجرٍ أسبوعي، ولم يثبّتوا أحدًا، وقد قالَ لي مدير المحطة بأن فتاةً ما ستحلّ مكانكَ بشكلٍ دائم.
- فتاة؟ هذا ما ينقص!
وضحِكَ الاثنان، رغم أن ضحكتهما كلها حزن، إلا أنها كانتْ أول ضحكة من أعماق القلب منذ سنة تقريبًا.
- لقد جلبتُ لكَ كُتبكَ، وأهمها كتاب شروق، أنا أعرف بأنكَ تريدُ هذا الكتاب.
- شروق هذهِ لم تكنْ سوى ريشة دغدغت مشاعري، ولم أتوفق بالوصول إليها.
- لا يا زيد، لقد أحببتَها، أنا أعرفُكَ جيدًا؛ فحبها موجود بعينيكَ
- أحببتُها لكن ما الفائدة؟
- ستصل لحبكَ، أنا أعرف ذلك.
وعند انتهاء المقابلة تعانقا الاثنين وبكيا، العلاقة التي كانت تجمعهما أكثر من كونها صداقة، لقد كانتْ حُبا كبيرًا.
استمرت اللقاءات بينهما مرّة كل شهرين، محمد يشتري من راتبهِ الشخصي وبمساعدة أخيه المالية ملابسَ لزيد في كل مرة يزوره فيها، بالإضافة للكتُب، رغم عدم قبول زيد بهذا الأمر إلا أن محمدًا كان يرد عليهِ في كلّ مرة:
شسوي براتبي؟ أهم شي أنتَ زيودي.
في هذهِ المدّة تم تثبيت شخصٍ في مكان زيد، اسمه شامل، شاملٌ هذا لا يروق لمحمد، وكان يلقبه عند التكلم مع زيد (شرشبيل) لكونه يشبه هذه الشخصية الشريرة، مما يستدعي ضحك زيد كثيرًا، خاصة إنه انفجر ضاحكًا عند سماع هذا اللقب لأول مرة على طريقة محمد، عندما قالَ اسمهُ
- هذا نسيت شسمه.. شرشبيل
قضى زيد سنتين في السجن، كان انعزاليًّا، ولم يكوّنْ صداقات داخل السجن، سوى علاقات سطحية.
أتى وقت الزيارة، وأتى معهُ محمد، لكنهُ يبدو متعبًا أكثر من كلّ مرة، ويتكلم ببطء:
- عمي، لماذا لا تعتني بصحتكَ؟
- العمر يمضي والصحة تتهالكُ، ولا طاقة لي على الاعتناء بها، أحس أن موتي قريبٌ، لذلك أتيتُ لأراكَ آخر للمرة الأخيرة.
كان صوت محمد جدّيًّا هذه المرة، وعلامات الموت بادية على وجهه، انسحق قلبُ زيد من الألم وسقطتْ دموعهُ دون مقاومة وهو يمعن النظر في ملامح محمد، حتى هو أحس بأنها المرة الأخيرة التي سيلتقيان بها.
- لا تبكِ يا زيد، هذهِ هي الحياة، تعال وقُل لي هل رأيتَ ميتًا يواسي صديقهُ على موتهِ؟ هذا الأمر متوفر لدى محمد فقط!
ضَحِكَ زيد والدموع متجمعة في عينيهِ، مسحها وحاول تهدئة نفسهِ، فأكمل محمد:
- لقد استقال شرشبيل!
وانفجر الاثنان ضاحكين بصوتٍ عالٍ.
- حقًّا استقال؟
- إي والله.
- وأنتَ فرحتَ لذلك أكيد.
- لا أخفيك، نعم تقريبًا، عيّنوا فتاةً بمكانهِ.
- فتاة؟
- نعم فتاة شابة.
- إياكَ أن تخونني معها يا عمي.
- الصراحة فعلتُ ذلكَ، ليلة أمس، مررتُ للسلام عليها والترحيب بها، دعتني للجلوس وشرب الشاي، إنها فتاة أنيقة ومهذبة، قد غيّرت ديكور الغرفة، وعلّقت بعض الرسومات؛ رسمها.
- رسامة؟
- نعم، قالتْ لي بأنها خرّيجة معهد الفنون الجميلة، فاستغربتُ من قدومِها للعمل في محطة القطار وهي بهذهِ الشهادة، أخبرتني أن حلمها كان العمل هنا.
- وماذا بعد؟
- هذا كل شيء، فقد كُنتُ متعبًا وأريد الراحة حتى أجيء إليكَ اليوم.
لم يُعلّق زيد شيئًا على هذه الفتاة، وبقي يتكلم في مواضيع عديدة حتى انتهى وقت الزيارة، وكعادتهِما تعانقا وبكيا، لكن هذهِ المرة أكثر، وبقي محمد يتلفت عند خروجهِ.
مرّ شهران وأكثر قليلًا، ولم يقم محمد بزيارة زيد، وزيد كان قلقًا جدًا على رفيقهِ، وبقي ينتظر مجيئهُ كل يوم، مرّت الأيام ومحمد لم يأتِ، وبعد مرور شهرين، تم إخبار زيد بقدوم شخص لزيارتهِ، خرجَ متلهفًا يبحثُ عن وجهِ محمد بين الوجوه، لكنّه لم يره، بل وجدَ فاضلًا أمامهُ، الذي أقبلَ على زيد وعانقهُ بابتسامة، جلسا يتكلمان وبعد السؤال على صحة فاضل، بادر زيد بالكلام:
- لماذا لم يأتِ محمد؟
- محمد يا محمد.. سأقول لكَ لماذا لم يأتِ، لكن قبل هذا أنا أحملُ إليكَ خبرًا سارًا.
- حسنًا أخبرني، ولا تنسَ محمدًا.
- لن أنساه يا زيد لن أنساه، الخبر هو أن ثامر قد أعاد تسجيل أقوالهِ وقال بأنكَ لا تعرفهُ ولم تكن تعلمُ بنيّتهِ للقتل، ولم ترهُ يسحبُ سكينًا.
- حقًّا؟ ولماذا غيّرَ رأيهُ هكذا!؟
- قال لي أبوه بأن أحد الأشخاص قد أعطاهم مبلغًا زهيدًا مقابل تكلم هذا الكلام.
- ومن هذا الشخص؟ هل هو من أهلي أو أقاربي؟
- لم يقبل أبو ثامر التكلم، وقال: إن ابنكم سيرجع، ماذا تريدون من الذي دفعَ لنا؟
- آها..
- ستخرج بعد عشرة أيام كحد أقصى، لأنني استشرت أحد المحامين، وقال لي بأنك ستكون بريئًا بصفة رسمية.
- الحمد لله، ومحمد؟ كيف كانَ رد فعلهُ على هذا الخبر؟
- لقد سَعِدَ كثيرًا، وضحكَ ضحكته المميزة، الي يضحكها من كل قلبه عندما يكون معكَ فقط.
- واليوم لماذا لم يأتِ؟
- بعد أسبوع من زيارتهِ لكَ، تَعب محمد، وبعدها أدخلناه مستشفى لأن حالتهِ الصحية تدهورت.
- وماذا بعد..
- بعد يومين من دخولهِ المستشفى..
ولم يُكمل فاضل وبقي ينظر لزيد وعينيهِ حمراوين جدًّا
- وماذا بعد يا فاضل!؟
- محمد أعطاكَ عُمرهُ وانتقل لجوار ربهِ.
إنها أول مرة يرى فيها الشمس وهو حر منذ سنتين ونصف تقريبًا، يرفعُ رأسه للسماء ويستمتع بإيذاء الشمس لعينيه، ينظر للناس كلهم في وجوههم ويركز فيها، إلا أنه لم يكن تواقًا للخروج، فلا تفرقُ عنده، هل هو داخل السجن أو لا، فبالحالتين لن يرى محمدًا، ولن يتكلم معه، بالأحرى إن السجن هو أفضل من الحرية في هذه الحال، فالسجن مكانٌ واحد تُسجن فيه عن كل الأرض، بينما الحرية مكان تُسجن فيه عن شيءٍ من المستحيل الوصول إليه، هذا الشيء هو محمد، كُل تفكير زيد كان بهِ، في كل مكان، في كل كلمة، في كل شيء، حتى أنه بعد خروجهِ لم يذهب للمحطة، ولم يخرج من بيتهِ، فقط يخرج لشراء الأمور المهمة ويرجع، بقي على هذهِ الحالة ثلاثة أشهر، يأكل ويدخن، يقرأ وينام، وقد صرف كل أموالهِ التي كان قد جمعها، ولم يبق لديه سوى الشيء البسيط، زارهُ فاضل في بيتهِ، وقدّم له النصيحة بالخروج والعمل، فالجلوس في البيت لن يغير شيئًا مما هو فيه، وأخبرهُ بأن محمدًا قد تركَ له وصية قبل موتهِ، ستغير من وضعهِ هذا.
وضع زيد الوصية على الطاولة أمامهُ بعد خروج فاضل، ولم يقم بفتحها، بل بقي ينظر فيها ويدخن، أطفأ سيجارتهُ وقام للاستحمام وغيّر ملابسهُ، رتّب بيتهُ وغرفته ونظفها، وجلسَ على الكرسي، أخذ الوصية وفتحها:
«زيد، حبيبي وصديقي وابني وأخي، قد عِشتُ سبعًا وخمسين سنة، ورأيتُ في هذهِ الحياة الكثير، وعرفتُ الكثير من الناس، لكنني لم أجد صديقًا وفيًا مثلكَ، لقد كُنتَ مؤنسي وخليلي ورفيقي، وكلّ شيء؛ محطّ أسراري، راحتي بالكلام معكَ وضحكتي بالفرحة معكَ أنتَ، أنتَ فقط، ولا أحدَ غيرَك، قَربْتَ لقلبي كثيرًا، فلا أريد أذيتكَ وحزنكَ، الحياة قصيرة، ومؤلمة، وعليكَ أن تكون قويًا لتواجهها، أو تُسلمَ أمركَ لها، فتأخذُ بكَ يمينًا وترجعُ بكَ يسارًا.
الأطباء هنا يضعون لي الأجهزة الطبية، ويعطونني الأدوية والحقن التي يزعمون بأنها ستشفيني، وأنا أعلمُ بأن موتي بعد أيام، لذلكَ كتبتُ لكَ هذه الوصية التي سأخبركَ فيها بأشياء أردتُ أن تسمعها بصوتي، لكن هذه هي مشيئة الله، والأشياء التي سأخبركَ عنها ستغير عندكَ بعض الأمور، ولربما ستغير حياتكَ إن أردتَ ذلكَ، فإن شئتَ لا تقرأ.
قبلَ أن أزوركَ بيومين، ذهبتُ لأعمام ثامر، وطلبتُ منهم أن يتكلمَ ثامر بالحق، وأنه لم يكن يعرفكَ، ولم تكونا متفقين، أن يتكلم الحق، الحق فقط! وقد أخذتُ معي أحد الشيوخ الذي له علاقة جيدة بهم، فطلبوا مني مبلغًا من المال، لن أقولهُ لكَ، وكان لديّ هذا المبلغ، فقد جمعتُهُ من وقتٍ طويل، هل تريدني البخل بهِ عليك؟ بالتأكيد لا..
لم أعرف منذ متى على الإنسان أن يُدفعَ له المال من أجل قول الحق!
الأمر الآخر، آخر أسبوع قضيتُهُ في حياتي، وقبل أن أدخل المستشفى، تعرفتُ أكثر على الفتاة التي كانت تعمل مكانكَ، هل حَزِرتَ من هي؟ نعم، إنها شروق، حبيبتُكَ، لقد تكلمتُ عنكَ إليها، واعترفتُ بكل شيءٍ بالنيابة عنكَ، وأنكَ كنتَ تُحِبُّها وهائم بها، إنها تحبُكَ أيضاً، لكنها لم تعترف بذلكَ، ستسألني كيفَ عرفتُ؟ سأقول لكَ، ماذا تسمي من يسألُ عنكَ دومًا؟ وعن ماذا تحب، وماذا تكره، ومن يطلبُ منّي الحديث عنكَ دومًا، ومن يحملُ في يدهِ سوارًا بحرفكَ، ماذا تسميه؟ والكثير الكثير يا زيد، هذه البنت تحبكَ فلا تفرّط بها، وبعد أن تنتهي من قراءة هذهِ الوصية اذهب إليها.
أنتَ شاب جيد يا زيد، وجميل، فلا تترك فرصكَ بالحياة، وعِشها بكل تفاصيلها.
ذاتَ يوم، سألتني عن اسم حبيبتي التي قُتِلتْ ولم أجبكَ عنها.. اسمها شروق
أحبك زيودي».
أعتقد أن المحطّة قد اشتاقت لزيد.
رفع مدير المحطة رأسهُ وابتسم، قام فعانق زيدًا ورحّب بهِ، دعاه لشرب كوبٍ من الشاي وبعض الدخان وبعد حديثٍ ليس بالطويل قال:
- قد افتقدناك كثيرًا، ولم يبق أثرٌ لكَ غير محمد، وعندما تُوفِّي أصبحت المحطة كئيبة ومظلمة.
- كما هي حياتي دون محمد.
- رحمه الله.
- أريد منكَ طلبين أتمنى أن توفرهما لي.
- تكلم يا زيد واطلب.
- الأول، أريد العودة للعمل، هنا في هذه المحطة.
- صراحةً ليس هنالك فرص شاغرة في هذهِ المحطة، لكنّي أعرف وظيفة شاغرة في دائرة السكك العامة في البصرة، فإن أردتَ سأعمل لتوظيفكَ فيها، واعذرني على عدم قدرتي بتوظيفك هنا.
- حسنًا، سأفكر بالأمر.
- والثاني؟
- الثاني، أريدكَ أن تعطيني معلومات شروق، الفتاة التي عملتْ بمكاني وأريد رؤيتها.
- لكَ هذا، لكن لن تستطيع رؤيتها حاليًا، فقد أخذت إجازة شهر، يبدو أنها تمتلك واسطة في الدارة العامة، فلم يسبق لأحدنا أن قام بهذا الأمر من قبل، ويبدو أنها ستنتقل من هذه المحطة، فقد أخبرتني بذلك، لكنّها لم تكن متأكدة.
حزِن زيد وظهرت علامات الوجوم على وجههِ، ثم قال:
- منذ متى بدأت إجازتها؟
- قبل يومين.
سكَتَ زيد قليلًا، وأغلق عينهِ، فأردف:
- ماذا أحتاج للتقديم على الوظيفة التي قلت لي بها؟
أخبره مدير المحطة عمّا يحتاجه، ووعده بأن الوظيفة ستكون بين يديه خلال أسبوع، وأعطاه معلومات شروق، فكانتْ كما قال لهُ محمد في وصيتهِ.
وحقًّا عمِلَ زيد في الدائرة العامّة كمحاسب ومشرف على رواتب الموظفين في محطة البصرة وموظفيّ الدائرة العامّة.
وبعد عشرة أيامٍ من عملهِ وصلهُ إشعار بأن رواتب موظفيّ المحطة فيها بعض التعديلات وسيأتونه ليصحح بياناتهم وإضافة التعديلات على رواتبهم يدويًا لمدّة أربعة أيام، بدأ زيد في عملهِ هذا، وبالرغم من كونهِ مُرهَقًا، لكنّه كان يجد فيه قضاء وقت حياتهِ الفارغ، وتعبه هذا أفضل من جلوسهِ على الكرسي أغلب وقت الدوام وشعورهِ بالملل.
في اليوم الثاني من تصحيح البيانات، كان زيد منهمكًا في عملهِ وقد تملّكتهُ العصبية، فصاحَ:
- الشخص التالي.
ولم يأتِ الشخص التالي، وقد تأخر في القدوم، رفع زيد رأسهُ وقال بعصبية:
- لماذا كل هذا التأخير!
وعندما سمِعَ صوت أقدام بدأ بكتابة التسلسل، وهو منكّس رأسه، وأكمل:
- الاسم رجاءً بسرعة.
- شروق.. شروق جمال.