قابيل الزمن
تأليف: حسان جابلي | الدولة: تونس
تقلّد قابيل السّيف صلد الحديد، وامتشق القوس وعلبة النّبال والجراب، وتدحرج نحو البيوت الخلاء. مضغ الصّمت المطبق بقدميه، يسدّد ما يلقاه على الطّريق الخراب. رمق البيوت القفر. كسر فضوله أحد الأبواب، وتسلّل إلى الدّاخل، نفض غبار الأرائك، وجلس يتأمّل الرّسوم العائليّة على الجدران، رأى ابتساماتها دافئة كقهوة الصّباح، فغمره شيء من الفرح، غير أنّه تلاشى سريعًا، وخيّم مكانَه حزن داكن، فالابتسامات المحنّطة في الرّسوم ستأكلها الوحدة والسّكون والغبار مع مرور الأيّام، بكاها بصمت النّدم الدّفين. وعلى ألم خفيّ، حثّ الخطو نحو الغاب الموحش. عوت في رأسه ذئاب التّخوم. وناحت حمائم الوحشة. انتفضت أسراب الطّيور الفزعة، وركضت ذوات الأربع. حرّكت الرّيح أغصان الشّجر، فأخذت تتمايل راقصة. داعب جذوعها الثّابتة بعينيه، فلاحت له خدوش ترسم ملاحم الفراق. حذف بالسّكّين المسافات الفاصلة بينها، وغنّى لها أغاني الوصال، ثم قطف لها زهورًا. وعلى حزن، خطا مبتعدًا.
رمته الصّخور إلى الصّخور. تلوّى بين الأخاديد. ثمّ، في خفّة، بلغ قمّة الجبل الحزيز حارس الغاب. بحث عن صخرة مسطّحة، وأقعى. مسح بعينيه مدى الشّجر المظلم، وقد راحت تهجره، في انكسار، شمس المغيب. همّ به الجوع، فجمع الحطب، وأوقد النّار. أخرج من الجراب فرخ البطّ الّذي غازله النّبل. خلّصه من الرّيش، فقامت معه المدية والماء بواجب الضّيافة، ثمّ أرجحه من عود طويل كطفل عابث، فراحت ألسنة اللّهب تلعق اللّحم. ولمّا احمرّ وسال زيته، نهش منه شيئًا، فدبّ في أوصاله الدّفء، ثم قبّل قربة الماء، وأطرق مصغيًا إلى أصوات الغاب القفر. أخذت تسري في عروقه طمأنينة النّار، والحديدُ اللّامع النّصل إلى جانبه. رفع بصره إلى القمر، وقد بدأ يغادر قلب الظّلمة، يطلّ من خلف الجبال المجاورة، ويتسلّق الفضاء الرّحب في خيلاء. وبعد برهة تيه، انتبه إلى غيم أسود كثيف، تحلَّق حول القمر، ثم أخذ يخفيه، فانبعثت فيه ذكرى أحداث أيّام مضت. حرّك غراب الحزن جناحيه. وأخذ يذرع فضاء خياله بلا كلل. تقلّب على مشواة النّدم، كفرخ بطّ حيّ تأكله النّار. ركل الهواء بقدميه. تشقلب. عصر التّراب بيديه. وبعد لحظة مقاومة، أخذ ينبش الأرض على طريق القبّرة. ولمّا استوى له التّراب، توسّد الجراب. وأغمض عينيه يبتغي النّوم، فلم يظفر به، وأخذت الوقائع تدغدغ ذاكرته، فبدأ يبكي.
*****
كانت المعركة على وشك الانطلاق. اصطفّ الفرسان فرقتين متقابلتين. في رأس كلّ واحدة منهما يقف قائد يلقي خطبة حماسيّة، تتلوها صيحات الجند المفزعة وهتاف النّصر. استمرّ التّأهّب لحظات، تلاه انطلاق سهم يشتعل من إحدى الفرقتين، وقع أمام الأخرى. فعلا صفير حادّ كأشعّة اللّهب. دُقّت الطّبول، وانطلقت الأحصنة، والتقى الجمعان. علا الغبار والصّياح وارتطام الحديد بالحديد والأحصنة بالأحصنة واللّحم باللّحم، وتساقطت الجثث على الجثث. ومن على الجبل المجاور، حيث يجلس، رأى قابيل الرّجال يقتلون الرّجال. ورأى النّساء يقتلن النّساء، ورأى الصّبية يقتلون الصّبية، ورأى الحديد يمزّق اللّحم الطّريّ، وما هي إلّا ساعة حتّى كان الفناء. امتلأت الأرض حمرةً والسّماء سوادًا. نحو الوادي، سار خطّ أحمر دقيق، ولكنّه ما لبث أن بدأ يتّسع تدريجيّا، حتّى أضحى تيّارًا جارفًا، وحلّقت الغربان والجوارح ترقب آخر رجُلَين. كانا يتحرّكان بتؤدة العجائز، وقد اجترّهما التّعب، فعلا تنفّسهما حتّى صار هديرًا مدوّيًا. لبثا برهة يتشادّان بالأيدي، وفي لحظة، تسلّلت أسنان أحدهما، فقطعت حنجرة الآخر، فتخبّط في حركات الدّيك الذّبيح. ولمّا عمّ الهدوء، بدأت الطّيور تتساقط على الأرض الفناء، فتأكل اللحم، ولمّا تمتلئ بطونها، تطير مُثقلة إلى أوكارها في القمم الأمان، وما هي إلّا لحظات حتّى بلغت رائحة الدّماء ذوات الأربع، فتسربلت على بكرة أبيها نحو مكان الواقعة. أكلت حتّى شبعت، ثمّ اتّخذت من المكان ملهى، فإذا هي تتهارش مزهوّة.
وكان النّاجي الأخير يتسلّق الجبل حبوًا. سلخت الصّخور والأشواك والحصى جلد بطنه وصدره وركبتيه، وشلّ أوصاله زئير الوحوش، ولكنّه أصرّ، بعزيمة نملة تجرّ حبّة قمح أثقل منها، حتّى بلغ القمّة. ولمّا استردّ شيئًا من أنفاسه، رفع عينيه، فإذا هو قبالة رجل لم يسبق له أن رآه. ألقى له قابيل قربة ماء، فتلقّفها بلهفة الظّمآن. شرب، ثمّ أعادها إليه. سأله قابيل عن المعركة، رغم أنّه كان على علم بها، فحكى له بالتّفصيل ما حدث، بدت الواقعة، وهو يحكي له، بسيطة، كأن يقول لك أحدهم، ببرودة أحد القطبين: «لقد قتلت فلانًا لأنّه أخذ من أرضي قشّة تبن». رمق قابيلُ الناجيَ بنظرة بلا معنى، ثمّ سحب السّيف، وجزّ رأسه، وقال: كان يجب أن تموت أيضًا. الثّأر مسألة لا تُحمد عقباها. من يدري؟ ثمّ لبس حذاء القتيل، ورمّم هيأته. ولبث واقفًا برهة، فقد ظلّ وحيدًا، كما كان قبل أن يمرّ بالقريتين.
*****
كان مارًّا بقرية، يخيّم عليها سكون الفجر. وكان قد أخذ منه إعياء الأيّام الماضية الّتي قضاها سائرًا كمن يطوي الزّمن. اقتاتت على نعليه الأحجار، حتّى صار حافيا. وأخذ منه الجوع والعطش، فثقلت حركته كمن يطأ البحر. وجد عند طرف البلدة فسقيّة، فشرب منها حتّى ارتوى، وملأ قِربته. ولمّا رفع عينيه يستطلع المكان، رأى ثورًا، وكانت قد توارثته القرية أبًا عن جدّ؛ ولأنّه كان على تعب، أخذ جرابه، وركب الثّور. نهره، فوقف، ثمّ حثّه على السّير، فأخذ في خطو وئيد، كمن يجرّ جبلًا. وما زال على تلك الحال، حتّى أخذت شمس الصّباح تطمس آخر نقاط الظّلمة، وكان قد وصل إلى قرية تكون على بعد أميال، فربط الثّور، وصعد إلى جبل يشرف على القريتين. أخرج من جرابه قِربة الماء وإبريق الشّاي وما يلزمه. جمع حطبًا وأشعل نارًا، وفيما كان ينتظر الكأس الأولى، لاحت له أشباح أشخاص من قرية الثّور قادمين. كانوا قد افتقدوا دابّتهم، فانتشروا انتشار النّار في الهشيم باحثين عنها. ولمّا اهتدوا إلى أثرها، أخذوا في اقتفائه. رأوا ثورهم مربوطًا في أرض قرية اللّاثَوْرِ، فامتلأوا ظنًّا أنّهم سرقوها منهم، وتسرّب إلى عروقهم سمّ الكراهيّة والحقد الدّفين، فأخذوا في صياح متواصل، وما لبثوا على صياحهم المدوّي إلّا قليلًا، حتّى همّ بهم جمع من القرية يسألونهم حاجتهم. استغربوا الثّور في أرضهم، وأنكروه، ولكنّ قرية الثّور أبت إلّا أن تكذّب قرية اللّاثور. استمرّوا على خلافهم ساعة. سرقتم ثورنا! لم نسرق ثوركم! عقبه ارتفاع الأصوات والتّلويح بالأيدي والعصيّ. وفي لحظة خاطفة، طالت يد رجل من إحدى القريتين وجه رجل من القرية المقابلة فانتهى النّقاش إلى خصومة، تلاها إعلان الحرب. فارتدّ كلّ إلى قريته على جزع. ومع حلول الضّحى، كانت الفرسان جاهزة، زحفت الجهتان إلى المنتصف. زحف الفرسان والرّجال والنّساء والأطفال. وأمام عينَي قابيل الّذي بدأ يرتشف كأس الشّاي الأولى، كان الحابل قد بدأ يختلط بالنّابل.
*****
كان قد تبرّأ منه والده، فمضى قابيل هائمًا على وجهه يجوب أرض اللّه الواسعة. أخذ يقتات على الفواكه الّتي تجود بها أشجار الغاب. ومع مرور الأيّام، تأكّد من حاجته إلى تعلّم الصّيد. فما تجود به الأشجار لا يُؤتمن، فقد يحدث أن تحبس السّماء ماءها، فيعمّ الجفاف والقحط، وعليه أن يحتاط، حتّى لا يكون ضحيّة لاستهتاره. هكذا ردّد بينه وبين نفسه. والمُضمر أنّها ذريعة لتلافي النّقص الّذي شعر به سابقًا، وظلّ يعود ذاكرته، كلّما رأى حيوانًا، فتغلي دماؤه غليان الماء في القدر. تحمرّ عيناه. ويمتلئ قلبه حنقًا وحقدًا. ولكنّه يظلّ، في كلّ مرّة، يضغط على الجرح بصمت التّحمّل، على أمل أن ينتهي الألم. في وقت متقدّم، سيدرك أنّ الجراح متى خبّأها صاحبها، ظنًّا منه أنّها ستندمل، يتفاجأ بها تتعفّن، فيزداد شأن علاجها عسرًا. صادف أن التقى بخمسة نفر يصطادون. كانت بحوزتهم لوازم الصّيد، ولم يسبق له أن رآها. طلب منهم أن يرافقهم، فقبلوا طلبه. في البدء، اكتفى بالمراقبة. ثمّ، مع تقدّم الأيّام، بدأ يتعلّم أبجديّة الصّيد والأسلحة. ولأنّهم قد اطمأنّوا إليه، سمح له النّفر باستعمال أقواسهم، بل تكفّل به أحدهم يوجّهه: تُمسك القوس عموديًّا، تأخذ النّبل من العلبة المشدودة إلى ظهرك، تُلصق طرفه الخلفيّ إلى الوتر، تجذب بقوّة. النّبل موجّهًا، على طوله، صوب الطّائر. لا تتحرّكْ. اجذب بقوّة. اتركه الآن. هكذا.. أحسنت. وما هي إلّا أيّام، حتّى صار بارعًا، لا تخطئ رميته الطّريدة.
واتّفق أن جلسوا في إحدى الأمسيّات، بعد حفل شواء، يتجاذبون أطراف الحديث، فتوجّه أحد الرّجال الخمسة بالكلام إلى قابيل، يسأله عن سبب تجواله وحيدًا قبل لقائه بهم. فكّر قابيل في أنّها الفرصة المثلى ليفتح الجرح، فيعقّمه، ويغلقه إلى الأبد، فأطرق قليلًا يرتّب كلماته، ثمّ أخذ يحدّثهم بالتّفصيل عمّا حدث، منذ واقعة القتل الأولى. ظلّوا يرمقونه بنظرات ملؤها الجزع والخوف، فتلعثم، وغزا الدّم وجهه. غير أنّهم أخرجوه من بركة حيرته، ضاحكين: أنت تملك خيالًا واسعًا! واستمرّوا في الضّحك، ولكنّه ظلّ صامتًا كالحجر. تردّد في أعماقه كلامهم محدثًا دويًّا كدويّ وقوع أحجار في بئر عميقة. يختلط الواقع أحيانًا بالخيال، فلا يعود بمقدورنا التّمييز: أيّهما الواقع؟ وأيّهما الخيال؟ أمّا قابيل، فقد غادر إلى مأواه، في تلك اللّيلة، متظاهرًا بالضّحك. ولكن، في قلبه نار تضطرم.
عقب ذلك اليوم، انطفأ ما قيل في أذهان الجماعة. فاستمرّوا، كأنّ شيئًا لم يكن. أمّا نار قابيل، فقد ظلّت تأتجّ، إلى أن انفجرت ذات فجر. تسلّل على أطراف أصابعه كنسمة هواء. جرّد الأفراد من أسلحتهم، وتوارى بها خلف إحدى الخمائل. امتشق سيفًا وردم السّيوف الأربعة الأخرى. اختار قوسًا وأتلف البقيّة. جمع كلّ النّبال في علبة واحدة وشدّها إلى ظهره. بحث له عن مأمن، يراهم من خلاله، ولا يرونه، ولبث حتّى استيقظوا. تفاجؤوا بأنفسهم عُزّلًا. انتفضوا جزعا، وانتشروا يبحثون، فلم يظفروا بشيء. ولمّا جلسوا في العراء، أمطرهم قابيل بخمسة نبال، اخترقت أفئدتم في قسوة، فانبجست منهم دماء حرّى. فكانت تلك هي اللّحظة الأولى الّتي تتحوّل فيها النّبال من صيد الحيوان إلى قتل البشر.
واصل قابيل طريقه. لم تخمد نار حقده، وكان قد عقد العزم على أنّه كلّما يحلّ في مكان يُهلك أهله.
*****
أيقظته شمس الضّحى. تحسّس ما حوله. كانت أغراضه جميعا في مكانها. نفض عنه غبار اللّيل. لم يكن يغادر حلمًا أو كابوسًا كما يبدو، فكلّ ما في الأمر أنّ ذاكرته استعادت ما حدث عكسيًّا، كمن يمشي إلى الخلف. ولو قمنا بترتيب ذكرياته، لكانت على هذا النّحو: بعد حادثة القتل الأولى، يهيم قابيل على وجهه، ثمّ يلتقي بالصّيادين الخمسة، يعلّمونه الصّيد، ثمّ يقتلهم، ويواصل طريقه، يمرّ بالقريتين، يُنشئ بينهما الخلافَ، فتقتتلان حتّى الفناء، ولا يبقى منهما سوى ناجٍ واحد، فيقتله هو أيضًا. يمرّ بالبيوت القفر، يلقي عليها نظرة تكدّر صفوه، فيفرّ نحو الجبل، حيث يستيقظ هذا الصّباح.
كانت دموع البارحة قد جفّت، وبقيت آثارها أسفل عينيه. هو يدرك ذلك، فقد بات يشعر بأنّ النّدم أخذ يتسلّل إلى قلبه. لذلك، ها هو يبالغ في غسل وجهه. فيما بعد، سيبالغ في تقتيل الحيوانات والطّيور بلا رأفة. سيتحوّل الصّيد من الصّيد لحاجة الأكل إلى مجرّد صيد، تُترك إثره الطّرائد مُلقاة لتأكلها الوحوش. فقط.. ليثبت لنفسه أنّه ليس نادمًا، وأنّه لم يخطئ. هكذا صمّم، وتبادر إلى ذهنه أن يعيد ترتيب الأحداث كما يحلو له. هو لم يخطئ، وعلى الجميع أن يعاملوه على هذا الأساس، وإلّا سيواصل مشواره. فكما سفك دماء وتسبّب في مجازر، يمكنه أيضًا أن يحصد أرواحًا أخرى، إذا انفتحت بوّابة الجحيم، يصعب إغلاقها. هكذا ردّد بينه وبين نفسه. لذلك، لا بدّ من أن يذعن له الجميع. وسيبدأ بوالديه. سيوضّح لهما كلّ شيء. ومن ثمّة، تبدأ رحلة الغسيل.
جمع زاده، واندفع نحو مسارب الغاب، حاثًّا خطوه. لا يفصله عن المكان الّذي يعيش فيه والداه سوى مسيرة ساعات قليلة. ولكن يملأه شعور غامض بأنّ شيئًا مّا قد حدث. وعلى عكس ما صمّم عليه، لم يكن يعير اهتمامًا للحيوانات والأطيار وهي تقفز وتتطاير أمامه. كلّ همّه أن يصل. طوت قدماه الطّريق، وسرعان ما بلغ موضعا واسعا تحيط به الخمائل. تنفّس الصّعداء، وهو يرى البيوت والزّرائب. متردّدًا، اتّجه نحو بيت والديه. دلف إلى الدّاخل فلم يجدهما. أربكه خلوّ البيت من المؤونة والسّجاجيد. أسرع نحو البيوت الأخرى. دلف إليها جميعًا، فألفاها مجرّد هياكل من الحجر والطّين، ثمّ انتبه إلى أنّ الزّرائب خالية من أغنامها ودوابّها. لبث ساعة تعصف به الشّكوك دون أن ينتهي إلى تفسير واضح. ناحية التّلّة المشرفة على القرية، لمح الحكيم يتّكئ على عصاه ناظرًا إلى الأفق، فسار نحوه بخطى متثاقلة، اجتهد أن تكون متّزنة.
سأل الحكيمَ عن أهل الحيّ، فأطرق. أشاح ببصره بعيدًا. ثمّ سمعه يقول: لقد ارتحلت القرية، وانتشرت بين قريتَي الجبل. صادف انتقالها الحرب. لقد ماتت، يا ولدي. وأمام دهشته وصمته، واصل بصوت أجشّ: ارجع إلى نفسك.. ارجع إليك، يا عدوّ نفسه! وتدحرج بعيدا. فأكلته الصّخور.
تهاوى قابيل على ركبتيه، كمن اخترق قلبه سهم، ثمّ وقع على وجهه، فكان لوقوعه دويّ الصّاعقة. انغرز الحصى في وجهه. وانساب من أنفه سائل أحمر نحو الأرض العطشى.
*****
لبث فترة لم يعد الآن يذكرها، ولم تبق منها سوى أصداء كصوت تردّده جبال بعيدة. أيقظه شعور بلزوجة تلعق وجهه. لمّا فتح عينيه، ألفى كلبًا وديعًا يمرّر لسانه على وجهه، وينظر إليه في انكسار. فعرف فيه كلب العائلة قبل أن يغادرها. وأدرك أنّ الكلب ظلّ يبحث عنه إلى أن وجده. فمن يألف لا يهجر بعدها، ويظلّ بلا دليل دون رفيقه. مدّ نحوه يدًا مُثقلة وربّت على ظهره، ثمّ عانقه، وبكى. بكى هذه المرّة حتّى سمعت الصّخور صوته، وصرخ حتّى ردّدت الجبال الصّدى. تسلّلت إلى قلبه وقائع الأيّام الخالية. أحاطته بأذرعها المتشابكة كالأخطبوط. طوّقته كبدلة غوص، وأخذت تعصره، ولم يكن يملك من سلاح سوى الدّموع. رفع عينيه نحو السّماء كمن يستجدي، فلاحت له زرقتها الصّافية المُطَمئنة. خجل من نفسه، كيف انحجبت عنه كلّ هذا الأمد؟ قضّى مساءه ذاك ينظر بقلب العاشق إلى شمس الغروب، يرقب آخر نقاط الضّوء تغوص في المدى، ويتابع بدقّة تدرّج الألوان وهي تسير نحو السّواد القاتم، ثمّ أخذ يتأمّل النّجوم والكواكب البعيدة. بدأت تسري في عروقه آمال البدايات. ورأى فيما يرى اليقظ أيّامًا مُشرقة زاهية كيوم ربيعيّ. تناسى ما قد مضى. وعقد العزم على أن يبدأ من جديد، رغم يقينه من أنّ البدايات الفعليّة يُوقّعها المطر. وفعلًا تفاجأ في صباح اليوم التّالي بطقس غائم، عقبه مطر لم يسبق له أن رأى مثله. عندها أدرك أنّ الطّريق بدأت تتّضح أمامه، وأنّه ما عليه سوى السّير بثبات. وملأه يقين بأنّ النّدم الفعليّ يعقبه الصّفح. وردّد: صحيح أنّنا لا نستطيع تغيير الماضي، ولكنّنا نستطيع فعل شيء ما من أجل المستقبل. المستقبل هو حاضر مؤجّل، ثمّ انحدر جريًا نحو البيوت القفر، يتبعه كلبه.
*****
وقف على أنقاض الحياة. كانت الجثث الملقاة على الأرض تستحمّ في مياه السّماء الدّافئة، اغتسلت تمامًا. خلّصها المطر من الدّماء. كانت ثمّة جثث سليمة، وأخرى فقدت أجزاء منها بفعل البتر أو نهش المفترسات. بحث قابيل عن خندق قريب، وأخذ يسحب إليه الجثث. اجترّ ثلاثة أيّام من الجثث، ذاق إبّانها الويل. أنهكه التّعب. وفي كلّ مرّة يسقط فيها فيعانق الجثّة، كانت تنهمر دموع النّدم من عينيه مدرارًا، فينتفض واقفًا متحاملًا على جسده المُرهق المتداعي. وكمن ينتقم من نفسه، يواصل السّير. وفيما كان الموتى قد بدأوا يملؤون المكان، كان الكلب يهيل التّراب من الهضبة المحاذية، يدفن الجثث. ولمّا انتهى قابيل من النّقل، انضمّ إلى كلبه يهيل معه التّراب. وما هي إلّا ساعات، حتّى انتهى حفل الدّفن، فانسحب قابيل يجرّ أذيال الهزيمة والانتصار.
سار نحو نهر قريب. غسل ملابسه، وعلّقها على غصن إحدى الأشجار. ثمّ ارتمى في الماء العذب. فأخذت تتقاذفه الأمواج كطائرة ورقيّة في أحضان الرّيح. وفي الصّباح ألقته إلى الشّاطئ العاري خفيفًا، لبس ثوبه، وطار نحو الدّيار. أخذ يرمّم بيت والديه. جلب له بعض المقاعد الخشبيّة وجلود الحيوانات والصّحون الخزفيّة الّتي وجدها متناثرة في البيوت المجاورة، وعثر على سجّاد وقِدر، فصار البيت صالحًا للعيش. ومن أجل الطّهي جمع حزمة من الحطب المتناثر في الأرجاء. وأمّا بخصوص النّار فلا يفوتنا التّنبيه إلى أنّه قد مضى زمن على اكتشافها. فليس قابيل هذا هو قابيل الزّمن الأوّل. لقد وُجِد في كلّ العصور. لسيرة الدّم أوجه كثيرة يمكن أن تُحكى. والأمل قصّة أخرى تشاكس أوجه السّيرة. دأب قابيل على مواصلة عمله بجدّية وإصرار. مساءها طها بعض الخُضر؛ فهو لا يملك لوازم الصّيد. وقد اهتدى إلى قرارِ أن يصيد طريدة بعد كلّ بضعة أيّام. ثمّ سيهجر الصّيد نهائيًّا، لمّا تستوي له الماشية. عقب ذلك استغلّ الزّرائب المهجورة، وأنشأ له زريبة من الأعواد العملاقة والجذوع قادرة على صدّ كلّ سطوة قد تشنّها اللّواحم. وتذكّر أنّه لا بدّ له من وسيلة تحميه. لا أحد يأمن الغاب. وبذلك عاد إلى المكان الّذي وقعت فيه لوازم الصّيد، وحمل السّيف والمدية. أخذ يصطحب كلبه في جولات طويلة يمسك خلالها ببعض الأغنام. كان حريصًا على الإمساك بالّتي لها مولود حديث العهد. يكتفي بحمله، فتتبعه دون كبير عناء. يعود بها إلى الزّريبة الواسعة. ويغلق المخرج دونها. ويواظب على مدّها بالعشب والماء. في البدء تمتنع عن الأكل، ولكنّها لا تفتأ أن تألف المكان. بدأ عدد الماشية يتزايد. ولمّا صار محترمًا توقّف عن جلب الأغنام، واكتفى برعايتها. ألفها وألفته. كان يُخرج بين الحين والآخر مجموعة يرعاها. ومع مرور الأيّام، اطمأنّ إليها، فصار يخرج بها جميعًا إلى البراري ترعى. ثمّ لمّا كان بعد فترة، كان يحمل زوّادته وقد ملأها بلوازم أكل كافية لبضعة أيّام، ويذهب في جولات طويلة نحو البراري والمراعي البعيدة. وكان في كلّ مرّة يكتشف مكانًا جديدًا، يفتتن بخضرته وجماله البديع، ولكنّه يظلّ مشدودًا إلى المسكن الأصل، فلا يلبث أن يغيّر اتّجاه سير الغنم. ولا يمرّ سوى يومين أو ثلاثة حتّى يكون قد بلغ الدّيار. وفي واحدة من جولاته عثر على محراث خشبيّ محطّم. فقرّر، بعد لحظة تفكير، أن يحتفظ به. وعزم على إصلاحه. فدأب على معالجته، حتّى صار صالحًا للاستعمال. ولم يبق ما يفصله عن الزّراعة سوى الحصول على البذور وترويض دابّة. سيستغرق ذلك فترة زمنيّة قد تطول. ليس لديه ما يستعجله على أيّة حال، فأمامه متّسع من الوقت. أمّا بالنّسبة إلينا، فالكلمات تختزل المسافات.
وهو مارّ بالقريتين اللّتين كثيرًا ما كان يتجنّبهما، تذكّر شأن البذور، فدلف إلى أحد البيوت. وأخذ كيسين من القمح والذّرة، ليحتفظ بهما في كوخه إلى أن يحين الوقت المناسب. وفي واحدة من جولاته، عثر على صغير بقر مختبئ في إحدى الخمائل. خطر له أنّ أمّه بالتّأكيد قد أكلتها المفترسات وهي تحاول حمايته، فخيّم عليه شيء من الحزن. وقرّر أن يعود به إلى بيته الطّينيّ. جهّز له مأوى في إحدى زوايا الكوخ. وسهر على إطعامه. كان يقوم بحلب بعض الشّياه، يملأ له وعاء خزفيًّا، ويضعه أمامه، فيشربه. حدث ذلك بعد الكثير من المحاولات الفاشلة، أدرك بعدها الصّغير الجائع الحليب. ترعرع في أحضان رعايته كطفل. كان ثلاثتهم يتسامرون. كثيرًا ما يحكي للعجل والكلب عن آلامه الماضية. كان يجد في حكيها راحة نفسيّة. وكان يملأه يقين بأنّهما يفهمان ما يقول. ثمّة اتّصال بينهم يتجاوز حدود الكلام. في النّهار، يأخذ لوازمه ويقصدون المراعي. كبر العجل الأليف، وتضخّمت بنيته، وصار بإمكانه جرّ المحراث. بحث عن أرض مناسبة للزّراعة. فوقع اختياره على أرض منبسطة محاذية للهضبة المجاورة، ولمّا كان موسم الزّراعة بعد هطول كمّيات كبيرة من الأمطار، انتظر أن تجفّ الأرض قليلًا، ثمّ حمل البذور نحو أرض الزّرع، منذ ساعات الصّباح الأولى، فنثرها. أطلق الأغنام في البساط ترعى. وجهّز الثّور. وطفق يحرث بتؤدة الحكماء. ومع حلول المساء، كان قد تمكّن من حرثها كاملة. ارتسمت على شفتيه ابتسامة الظّفر الموفّق الّتي تلي التّعب. وستخالجه فرحة عارمة بعد أيّام، وهو يرى البذور تنمو في بطء، تتسلّق الهواء مزهوّة، وتشاكس خضرتها حمرة التّراب.
قرب موسم الحصاد. كانت السّنابل قد طالت وهي تتسابق سامية، ثمّ ركعت لشمس الأصيل. كان قابيل يتأمّلها بقلب ملؤه الحبّ الغابر. يبتسم لها. يحاكيها بصمت العاشق، ويحرسها من الطّيور الّتي لا تلبث أن تتساقط لأكل الحبّ الذّهبي اللّامع، كأنّه قُدّ من الشّمس. ولمّا تأكّد من أنّ المحصول قد نضج، عزم على بدء الجني. فكان يستيقظ في الصبّاحات الباكرة، قبل أن تشتدّ الحرارة. وفي حين تكون الأغنام في الأرجاء، يحصد السّنابل. يملأ بها الأكياس. ويحملها ليضعها أمام الكوخ. وفي حين تكون الأغنام في المقيل، يأخذ في كلّ مرة بعض الأكياس، يحكم إغلاقها، ويتسلّح بعصا غليظة، ويهوي عليها بضربات متواصلة. ولمّا يطمئنّ إلى أنّها صارت جاهزة، يخرجها، ويأتي بأخرى. وينتظر، حتّى إذا هبّت نسمات الهواء، يأخذ الأكياس إلى العراء. يصبّ محتواها فوق سجّاد ويذريها. فلا يبقى سوى الحبّ الذّهبيّ فوق السّجّاد. هكذا، أصبح له كلّ ما يلزمه للطّهي.
*****
رغم أنّه يحظى بكلّ مقوّمات العيش، ورغم الحيوانات الّتي يرعاها ويجالسها ويحاكيها ويشرب حليبها ويأكل أحيانا لحمها، كان يخالجه شعور غامض لم يتبيّن كنهه. كان يشعر بالفراغ. كان يشعر بالوحدة. ربّما يمكنك أن تمتلك أيّ شيء، ولكن، بمفردك، ستقتلك الوحدة. يقتلك الفراغ والاجترار. فما أقسى أن تكون وحيدًا في هذا العالم!
كان النّدم يعوده بين الآن والآن، فيخيّم عليه الموت. يجلس على الهضبة، إلى جانبه كلبه. يرقب الأغنام وحملانها تنطّ في حبور. يرفع رأسه. يغمض عينيه. يعود إلى نفسه. يغوص في أعماقها. يتلاشى. يغيب تمامًا عن العالم. ثمّ لا يفتأ أن يعود لتحسّس ما حوله، وهو يشعر بالاطمئنان. وفي يوم بينما كان على تلك الحال، إذ نبح الكلب. فاستيقظ من غيابه. رأى قمرًا بعيدًا يقترب في خيلاء. ثمّ ترجّل. وأخذ يسير نحوه في أبّهة من تمشي على الماء.
انحدر نحوه في خفّة حلم، وهو يفكّر في أنّ اسم ابنه الأوّل سيكون «هابيل.»