لم يكن .. بل كان
تأليف: أسامة قرينة | الدولة: الجزائر
على بُعد ثمانية كيلومترات من مدينة وهران -أو كما يلقبها أهلها «الباهية»-، وبالتحديد في إحدى قرى بلدية السانية.
عقارب الساعة كانت تتراقص على ميلاد العاشرة صباحًا، صمت يأكل ضجيج المكان، حتى كاد يُخيَّل إليه أنَّه يستطيع استراق السمع لدبيب النمل أمام ناظريْه..
يدفع الجميع أموالًا طائلة ليحظى أحدهم بموضع استلقاء في الطبيعة؛ كحال بلال الذي كان ينظر إلى السماء متخيلًا ابتسام الغيوم العابرة له.
لا يزال منتظرًا مرور الوقت كي يُخرِس أنين الجوع الذي بدأ يتطفل عليه زائرًا غير مرغوب فيه كعادته..
العاشرة وثلاث دقائق، الوقت يتمطط..
صوت فتاة صغيرة يكسر هدوء الصباح، صوت مبحوح في الأفق يصرخ:
- بلال.. بلال..
قام والابتسامة قد غادرته، سألها والحيرة ترتسم بألوانها على وجهه:
- ماذا هناك يا مريم؟
- أبي..
- ما به؟ لم يكن السؤال في محله.. ولكن للفاجعة دورها المريب في بعثرة أفكاره..
فأجابته:
- عائشة قالت أسرعي نحو..
لم ينتظرها حتى تكمل كلامها الذي اختلط بأنفاسها المتسارعة، ترك الخراف تستلذ بوحدتها وأخذ يركض نحو البيت. دفع الباب بجسمه حتى كاد يسقطه أرضًا. لم يكن على علم بالغيب ليعرف مدى سوء حال أبيه، لكنّه قرأ في صوت أخته مريم خوفَ الآتي!
ظنَّ الجميع أنها مجرد أيام قليلة وستعود الصحة لتزوره، كان الوالد متعبًا من الزكام، أو هكذا بدا.. انتظر الجميع أن يقف على قدميه من جديد، لكن كان للقدر منعرج آخر!
سعال حاد يكاد يثقب طبلة آذانهم، كانت عائشة -ابنته الكبرى- إلى جانبه تنظر إليه والجمود يلفها وقد تسارعت ضربات قلبها حتى توهمت أنها تجد صعوبة في التنفس.. اقترب بلال منه، أمسك أباه ويداه ترتعشان، جعله متكئًا على حِجْره، وبصوت ملأته الذبذبة قال:
- تحمل يا أبي.. تحمل..
ما كان يعلم من كان منهما بحاجة إلى الصبر أكثر.
أراد العم موسى الكلام؛ لكنه ثقل عليه.. شيء ما رغب في إزاحته عن كاهله فلم يستطع، خانته حبال صوته حينها، وأصبح السعال يزداد حدة حتى لفظ من فمه دمًا داكن اللون!
أمّا مريم زهرة العائلة بنت الخامسة من العمر فقد لحقت بأخيها والجِراح قد شوهت ركبتيها. لم تحتمل ذلك المشهد المخيف وأجهشت بالبكاء، لكنها كانت تعي مع صغر سنها أن شيئًا سيِّئًا يحدث لوالدها. وانقض السؤال الرهيب على الأذهان: كيف الحال بهم إن غادرهم السند الوحيد المتبقي بعد وفاة أمهم قبل سنة في ذلك الحريق الذي أكل بيتهم القديم بمن فيه؟
أخذت عائشة أختها إلى الخارج، فلم يكن هناك سوى غرفة واحدة في المنزل الجديد الذي كان في السابق حظيرة للخراف، في حين جلس بلال مع أبيه وكان عاجزًا عن فعل أيِّ شيء، ذلك العجز جعل دموعه تتدفق كشلال عظيم.. وعندما بدأ العم موسى يلفظ أنفاسه هدأ السعال أخيرًا، حينها أخذ يتمتم بكلمات لم تكن مفهومة.. أدنى بلال أذنه نحو شفاه أبيه وأخذ يستمع.. كانت مجرد ثوان حتى أغلق العم موسى أجفانه للمرة الأخيرة.. مات تاركًا وراءه ذرية ضعافًا لا يقدرون على شيء، لم يتبق لهم سوى تلك الخراف وغرفة سقفها لن يحتمل سنة أخرى!
حينها تعطَّلتْ ساعة بلال التي أهداها إياه أباه مشيرة إلى العاشرة وعشر دقائق.
كانت البيوت متباعدة هناك في الريف، لكنَّ صراخ مريم كان أقوى وأدت الرياح خدمتها الجليلة لتنقل صوتها المبحوح إلى مسامع الخالة منيرة، فهرعت نحو بيت العم موسى.. وجدت عائشة جاثية على ركبتيها، وخُيّل إليها أن دموعها ارتسمت نهرًا تجري مياهه على خدّيها، فسألتها:
- ماذا يحدث يا عائشة؟
اختنق الجواب، قالت والبكاء يهشم صوتها:
- إنه..
- ماذا؟ تكلمي..
- أبي!
كانت كلمة واحدة لكنها تطلَّبت منها قوة لتجد طريقها خارجًا..
أقبلت الخالة منيرة على باب المنزل لتجده على وشك الوقوع أرضًا، نظرت هناك في زاوية الغرفة المظلمة، استغربت من ذاك النور الذي قتل تلك العتمة، كان وجه العم موسى يملؤه الضياء، وهناك بلال ينظر إليه في ذهول جعل دموعه تجف. هل باغته الموت حتى لا يصدق رؤية أبيه جثة هامدة! أم أن للموت قدرته الدائمة في إحداث الدهشة، اقتربت منه وهي الأخرى قد غلبتها دموعها.. وخاطبته بصوت حزين:
- لله ما أعطى ولله ما أخذ. قم يا بلال واذهب لجنب أختيك..
صرخ في وجهها قائلا: دعيني وشأني!
لم ترد إزعاجه أكثر، تركته هناك وخرجت حاملة خبرًا ثقيلًا على قلبَيْ الفتاتين.. سألتها عائشة وداخلها يحترق خوفًا:
- هل أبي بخير؟
- لقد..
- لا تقوليها أرجوكِ!
- آسفة يا بُنيَّتي..
- لاااااااا.. غير ممكن.. لاااااا..
انهارت عائشة، سقطت تتمرغ على التراب وتصرخ، حتى فزعت منها مريم التي لم تعي شيئًا حينها، وركضت نحو الخالة منيرة وأمسكت رداءها بشدة واختبأت بين طيّاته..
- كانت هذه بداية قصة بلال وعائلته التي وقع عليها اختياري لهذه الليلة يا معاذ.. البداية التي غيرت كلّ شيء بعدها وقلبت حياة كلّ شخص ليعاني طيلة حياته بصمت يتأملون فيه الفراغ الذي تركه العم موسى، فراغ لن يملأه أحد بعده.. وثقل كبير أُلقي على بلال يومها!
- لم يسبق لي أن عايشت ذاك الشعور يا خديجة، لكن من المؤكد أن فقد الأب صعب جدًّا، خاصة على أولئك الذين أثمن ما يملكونه ابتسامة لا يبخلون بها على أحد، الذين تشتكي بطونهم بعد فراقه من جوع دائم، وإن أكلوا لا يشبعون من طعام واحد.. لابد أن يكون الشعور مدمرًا حين يفقدون السند.
- صدقت يا معاذ. دعني أكمل واستمع جيدا الآن، فقبل شهر من ذلك..
في إحدى الليالي التي ارتدت الظلام الحالك، وبدت فيه الطبيعة غاضبة جدًّا، خُيِّل إليه أن الأشجار تكاد تُقتلع من جذورها من كثرة اهتزازها، وأما الطرقات فغرقت في مياه المطر. هناك كان العم موسى راجعًا من عمله يحارب ذلك الغضب كي يصل إلى عائلته سالمًا، راتبه لا يحتمل شراء واقية من المطر. ولو حدث أن امتلك واحدة ستسرقها منه تلك الريح العاتية.. كان مجرد عامل نظافة في إحدى شركات مدينة وهران، يعمل حتى وقت متأخر ويجد صعوبة في العودة للمنزل دائمًا، وأحيانًا كان يتغيب كلّ الليل عنهم.
من رَحِم تلك العاصفة خرج العم موسى مصابًا بالمرض، لكنَّه أبى زيارة الطبيب، بخل على نفسه كي يطعم فلذات كبده ويُكسيهم. وكان عنيدًا أيضًا، لم يتوقف عن العمل فقد عرف في قرارة نفسه أن الرحمة لا تسكن قلوبهم، سيستبدلونه ويخسر رزق عائلته إن غاب لمدة تتجاوز الأسبوع..
لم يحتمل جسده سوى ثلاثة أسابيع حتى انهار وسقط مغمى عليه وهو مغادر المنزل.. هناك بدأ الخوف يتسرب إلى داخله وقرر إراحة نفسه بضعة أيام.. لكن لم يكن أحد مدركًا كم كانت حال العم موسى خطيرة!
كانت الخالة منيرة نِعْم الجارة، داومت على عيادته كلّ يوم، آخذة معها بعض الأعشاب الطبية التي لم يكن لها تأثير كبير لكنها جعلته يجد بعض الراحة في جسده، ما بعث بعض الطمأنينة في نفوس أبنائه.. لكنها لم تكن شافية كافية لمرضه.
عُرف العم موسى -أو كما يُلقَّب بين أقرانه «الحاج موسى»- بكرمه وجوده على الرغم من فاقته. ساعد كلَّ محتاج في القرية، الكلُّ هناك يشهد له بذلك، لكنهم كحاله.. نهش أجسادهم الفقر، لم يجدوا شيئًا يعينون عائلته به سوى الدعاء.
يُروى عنه أنه كان يتفقَّد جيرانه كُلَّ يوم، يرى إنْ كانت بهم حاجة لشيء أتاهم به إن وجد لذلك سبيلًا، فقد أحب أن يصل درجة أولئك «الذين يُؤْثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»، كان طيِّبًا باسم الوجه دائمًا، يلاعب الصغار ويحترم الكبار.. وجد مكانًا له في قلوب أهل القرية كما ملأ حبهم فؤاده.
قبول قد وضع له في الأرض، وهو سبب النور في وجهه يوم وافته المنية.. ذلك اليوم الذي قلَب حياة بلال رأسًا على عقب.. لم يرث من أبيه سوى مشقة الاعتناء بأختيه، مريم الصغيرة وعائشة صاحبة الثلاثة والعشرين ربيعًا..
الحادية عشرة وعشر دقائق..
اجتمع أهل القرية ليودِّعوا الرجل الذي طالما رسم البسمة على وجوههم، ولأول مرة اليوم ها هو يُسيل دموعهم على تلك الوجوه..
من كلّ بيت من البيوت القليلة أتاهم حاملًا شيئًا يسيرًا من الطعام. جلسوا يشاركونهم مصابهم، فليس فقط بلال وأختاه من فقدوا عزيزًا اليوم بل كلُّ القرية فَقَدَت!
بعد ساعات من الحزن الذي التهم ضجيج المكان، أخذوا العم موسى ليُغسَّل ويُكفَّن.. بعدها حُمِل على الأكتاف نحو مرقده الأخير، نحو حفرة ظلماء.. إلى حياة البرزخ.. حيث لا ينفع مال ولا بنون، إلا عمل صالح وقلب سليم.
أُرقد في سلام يا «الحاج موسى» فقد شهد على خيرك البشر والحجر، هكذا قال إمام القرية بعد صلاة الجنازة.
هناك ووري التراب على نور وجهه.. وهناك ودّع بلال سنده وأصبح رجل العائلة وهو لم يتجاوز سن السابعة عشر.
مرت الأيام الأولى ولم يطأ قدم الأبناء الثلاثة الخارج، مكث كلّ واحد منهم في زاوية من تلك الغرفة المظلمة، تكاد تسمع دبيب النمل فيها. كلما أتت الخالة منيرة للاطمئنان عليهم وجدتهم على الحال نفسها.. كانت مريم الوحيدة بينهم من تقف عند رؤية الخالة وتركض نحوها بكلّ دموعها وتسألها:
- متى يرجع أبي؟ لقد اشتقت إليه..
تنظر إليها الخالة بحزن يسرق من لسانها الكلمات.. تحتضنها بشدة وتبكي.. ثم تتركها قائلة:
- تناولي شيئًا يا بنيتي..
وترد مريم: لاااا.. أريد أبي!
تقف عائشة وتمسك أختها وقد احتدّت قبضتها عليها وتخبرها بأن أباها لن يعود بعد اليوم! فقد ذهب إلى جوار أمها.. لكنّ مريم لم تكن تعلم أين ذلك المكان، وتسألها ببراءة:
- إذن سيأتيان معًا!
تصمت عائشة وترجع إلى مكانها وتقابل الحائط مستلقية، لكنّ صوت بكائها كان صاخبًا، فتذهب مريم إليها وتقول:
- لا تبكي سيأتيان قريبًا!
لم يحتمل بلال كلّ ذلك وهمَّ بالخروج، كانت تلك المرة الأولى بعد أيام يغادر فيها المنزل.. لم يكن يعلم أين ستقوده قدماه؟ ولا ماذا عليه أن يفعل؟
- هل تبكي يا معاذ؟
- لا، مجرد غبار دخل إلى عينيَّ.
- كاذب! أنت تبكي.
- قلت مجرد غبار.
- أظنك تأثرت بمريم.
- حسنًا، نعم تأثرت.. وتذكرت أيضًا يوم فقدت والدتي وأنا صبيّ صغير كحال مريم، كان الأمر غير منطقي حينها، كنت أظن أنها ذهبت إلى مكان آخر اسمه الجنة، لم أعلم يومها أنه في السماء!
طلبت من أبي مرارًا وتكرارًا أخذي إليها، وفي كلِّ مرة كان يبكي ويعانقني بشدة.. وفي أحد الأيام ساقني إلى المقبرة، كانت جميلة وصاخبة على الرغم من الصمت الهائل، كنت أظنها الجنة.. ولما وصلنا إلى قبر أمي -رحمها الله- قال لي أنها نائمة هنا، جلست أمامه وبدأت أطرق على الشاهد وأخاطبها بأن تستيقظ وتفتح لي الباب..
- لا عليك يا حبيبي، ليس عيبًا أن يبكي الرجال. ابكِ فالبكاء أحيانًا راحة للنفس، ولسان حالنا لما تعجز الكلمات عن الوصف.. ابكِ فأنت في حضن زوجتك. دائمًا هناك آلام تتصدّع من وقعها الجبال، وفقدان الأم من أصعب ما يمر به المرء في حياته، فراقها أشدُّ الأقدار وجعًا ووطأةً على قلوبنا.. لذا لا عليك يا حبيبي، دعنا نبكي معًا فنحن تعاهدنا على ذلك، بالحب في أول الأمر وبالزواج الآن.
- هلا أكملتِ يا حبيبتي!
- خرج بلال واتجه نحو المدينة.. ذهب لزيارة شركة أبيه، طلب لقاء المدير، لكنهم كانوا دائمًا يخبرونه بأنه مشغول ولا يستطيع مقابلته.. كانوا على علم بأنه ابن موسى -رحمه الله- وعلى الرغم من ذلك أبَوْا مساعدته.
لم يكن بلال ممن يرضى بالإهانة، اقتنع في باطنه أنهم كالورقة الخاسرة لن تفيد لاعبًا في شيء.. وعليه البحث على عمل كي يعيل أختيه.
بحث كثيرًا، كان الجميع يرفضه لصغر سنه.. طرق كلّ الأبواب لكنها لم تفتح له. اعتاد الرجوع إلى المنزل متأخرًا، ودائمًا يجدهما نائمتين إلى جانب بعضهما.. يلقي بطانيته فوقهما ويجلس في زاوية الغرفة يفكر ويفكر حتى تنام عيناه، أمّا قلبه فيأكله الأرق كلّ ليلة. تستيقظان صباحًا فتجدانه هناك وقد بدى عليه التعب من صوت أنفاسه..
ظل الحال كذلك مدة شهر، لم يجد بلال عملًا.. وبدأ قوتهم ينفد، حتى الخالة منيرة لم تعد تستطيع مساعدتهم، ولا أهل القرية. كلهم كان محتاجًا!
ذات يوم رجع بلال باكرًا، ذهب مباشرة نحو الخراف، وطلب من أخته عائشة أخذ مريم والذهاب بها إلى بيت الخالة منيرة.
بعدها جاء بعض الرجال إلى بيت بلال وكانوا تجارًا؛ إذ باع تلك الخراف الثلاثة فلَم يتبقَّ له خيار آخر، كان لزامًا عليه على الرغم من صعوبة الأمر.
ذهب معهم إلى المدينة ورجع ببعض الخضر والبقول ما يكفيهم شهرًا آخر.. لكنَّه كان مدركًا أن ذلك ليس كافيًا لأن ذلك المال الذي جناه من بيع الخراف سينتهي يومًا وسيعود كابوس العمل!
مر شهر آخر بالمعاناة نفسها وبالصعوبة نفسها، ولا يزال بلال يطرق الأبواب في المدينة رجاء رزق حلال.. لكنّه لم يجد.
ذات يوم حدث أن صادف إعلانا لتاجر في المدينة يبحث عن عامل ليشغل منصب بائع في أحد محلات الملابس، كان ذلك عرضًا مغريًا وفرصةً ذهبية مقارنة بحال بلال البائسة.
كأي شخص، قصد بلال المحل ودردش مع صاحبه، هذا الأخير طلب منه رقم هاتفه ليتصل به إذا قُبِلَ، لكنّ بلال لم يكن يملك هاتفًا ما جعله يتصبب حرجًا وأسرع بالمغادرة!
تبعه صاحب المحل بسرعة بعد ما أدرك بأنه شاب فقير معدم، واستوقفه قائلًا: لا عليك يا أخي، يمكنك الرجوع غدا لتعرف إن كنت مقبولًا هنا، فكما ترى هناك الكثير ممّن تقدم لهذا العمل ويجب مقابلة الجميع حتى أختار الأنسب بينكم.
استمع بلال لكل كلمة ثم غادر بعد إيماءةٍ برأسه لم يعرف التاجر معناها.
في صباح الغد، رجع بلال وفوجئ بفتاة هناك في المحل طلبت منه الانتظار قليلًا حتى يحضر صاحب العمل، حينها أدرك أنها لم تكن مجرد فتاة عادية بل كانت العاملة الجديدة!
خرج من المحل يحمل غضبه الذي غزا مُحياه، مهرولًا لا يعلم أين ستسوقه قدماه، كانت خيبة أمل كبيرة اضطر بلال لابتلاعها رغم مرارتها، وأخذ يندب حظه التعيس ويتساءل كيف سيسد جوع أختيه؟
أصبحت حال العائلة صعبة، نفد منهم قوتهم وبلال لم يجد عملًا يعيلهم به، ما جعله يذهب كل يوم نحو المدينة ويسأل عند كل محل عن عمل، حتى كسر أحد الباعة شوكته وقتل كل أمل له حين قال له:
«من أين لك الجرأة لتسأل عن عمل هنا في وهران الباهية أيها الريفي البائس، انظر إلى لباسك كيف هو مهترئ، ألا تملك مرآة في المنزل لترى حالك هذه؟ اذهب من هنا إلى ريفك وصاحب الغنم والبقر!»
صمت بلال وطأطأ رأسه ومشى في حال سبيله، وعند أول زاوية انفجر بالبكاء وجلس هناك منكسرًا، قبع في مكانه حتى أسدل اليوم رداءه الحالك وحل عليه الليل الذي هو أجمل سترة لعورة الفقراء.
فاجأ بلالَ أحدُ الأشخاص عندما اقترب منه وسأله عن حاله، لكنه لم يكن يملك القدرة على إخراج الكلام بعد كل ما تعرض له. أخرج ذلك الشخص من جيبه ورقة نقدية من فئة ألفي دينار وأعطاها إياه وقال له:
خذ هذه سُدّ بها حاجتك لهذه الليلة، وغدًا تعال إلى هذا المكان إذا أردت المزيد والكثير من مثلها. سآتي لمقابلتك وسأعرض عليك عملًا إن كنت مهتمًا، وعُدَّ هذا المبلغ حُسنَ نية!
لم يعرف بلال ماذا يفعل أو ماذا يقول لحظتها، لكن حاجته جعلته يقبل تلك النقود من ذلك الشخص الغريب دون سؤال. بعدها غادر مسرعًا إلى المنزل وتوقف في طريق عودته عند بائع اللحم وأخذ بعض القطع ليُسعِد بها أختيه.
استغربت عائشة من ذلك وسألته من أين له ذلك؟ فرد عليها:
أبشري يا عائش، أظنني وجدت عملًا جيدًا!
عانقته من شدة الفرح حتى أصابت بلال الدهشة من ذلك الموقف..
كانت تلك أول مرة تبتسم فيها منذ شهور، وأول مرة سيتناولون اللحم منذ زمن بعيد..
في حين ما زالت مريم تسأل عن عودة والدها، لم تستطع تحمل فكرة ذهابه بلا رجعة، لم تعي ما معنى الموت. هذا ما حدث معها عندما توفت أمها، كانت تظنها مسافرة نحو بلد ما! تجلس كلّ يوم أمام باب المنزل واضعة يديها على وجنتيها منتظرة من لن يأتي أبدًا!
حاول بلال أن يقتل ذاك الانتظار الذي جعل مريم تظهر في لباس الحزن دائمًا، فأخذها معه في الغد إلى المدينة.. جعلها تشاهد تلك البنايات الشاهقة لأول مرة، وذلك العدد الهائل من البشر، كانت تظن أنه أخذها للبحث عن أبيها هناك! نظرت في وجه كلّ رجل في سنّه لعلَّه يكون بينهم، لكنها بدأت تسهو عن ذلك الأمر لما دخلوا حديقة الألعاب. أصابتها الدهشة من كلّ تلك المجسمات الغريبة، من أولئك الأطفال وهم يمرحون ويضحكون فابتسمت!
ركضت نحوهم وبدأت تختلط بهم وتلاعبهم، ضحكت حتى دمعت عيناها لكن من الفرح هذه المرة، فقد تنفس داخلها أخيرًا. لم تكن تنتظر أحدًا حينها، سوى انتظارها على طابور الألعاب متحمسة، والبسمة تداعب وجهها الجميل!
تأخر الوقت وحان وقت العودة إلى المنزل، لكنّ مريم لم ترد ذلك، تعلقت بالمكان وبالأطفال، وبكلّ زاوية هناك.. كانت سعيدة جدًّا وبعض السعادة لا تدوم!
أخبرها بلال بأنه سيأتي بها هنا كلّ أسبوع.. فردت عليه والدموع تملأ مقلتيها الجميلتين:
- هل تعدني؟
نزل على ركبتيه وأمسك كتفيها وقال مبتسمًا:
- نعم يا حبيبتي أعدك، دعينا نذهب الآن قبل حلول الظلام.
- جميل وجود الأخ في حياتنا يا خديجة، الآن أدركت ذلك حقًّا؛ نعم لن يكون في مقام الأب لكنّه قد يسدُّ فراغه بعض الأحيان..
- صدقت يا معاذ، فالأخ هو ذلك الجبل الذي تستند عليه أرواحنا المائلة، الأخ هو القوة التي تجد طريقها إلينا حين ضعفنا، والرحمة التي تقع على قلوبنا المنكسرة فتَجبرها.. الأخ ببساطة هو الأب الثاني.
- لكن يا خديجة، ليس كلّ الإخوة كذلك، هناك من دنّس طهارة هذا اللقب، خاصة في هذا الزمان أين أصبح حب النفس يأتي قبل كلّ شيء، فضاع جوهر الأشياء. تعج الصحف اليومية بأخبار تصيبك بالدهشة، كإخوة يتشاجرون فيما بينهم من أجل الميراث، ولعلّكِ أكثر مني اطلاعًا عن أمور كهذه، حتى وصل الحال ببعضهم إلى قتل بعض!
- نعم يا معاذ، لا تستغرب فنحن في آخر الزمان، وقد تنبأ لحالنا اليوم رسولنا الحبيب. انتظر قليلًا، أنا أبحث عن حديث مرّ عليّ في هذا الشأن..
ها قد وجدته فاسمع..
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
(كَان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا أن بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ. قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَال: الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ. قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ، وَلكنّه قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ. قَالُوا: سُبْحَان اللَّهِ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟ قالَ: لَا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ.)[1]
- صلى الله عليه وسلم، قالها كأنه بيننا اليوم يا خديجة.
- نعم يا معاذ والأحاديث كثيرة عن الفتن التي ستحدث وأغلبها قد حدثت.. فنسأل الله السلامة.
انظر أين أخذنا الحديث، والآن لنعد أدراجنا لمريم، التي كانت محظوظة بأخ كبلال..
فرحت بكلامه ذاك ورجعوا إلى البيت، كانت رائحة اللحم قوية جدًّا، وجدوا عائشة قد حضرت مأدبة العشاء ودعت الخالة منيرة وابنتها شيماء صاحبة العيون الزرقاء!
جلس الجميع على المائدة، أكلوا حتى الشبع، تحدثوا عن أشياء جميلة وضحكوا، عادت الروح لذلك البيت أخيرًا، كان كلّ شيء رائعًا، وما زاد تلك الليلة تشويقًا نظرات بلال لشيماء التي لاحظتها الخالة منيرة.. فخاطبته قائلة:
- أظنك يا بلال قد أصبحت رجلًا وحان وقت زواجك، إنك على أعقاب العشرين..
فاحمَّر خجلًا من قولها، وقال:
- ليس بعد يا خالة..
ضحكت الخالة منيرة وعائشة على لون وجهه، وحتى شيماء لم تستطع الكلام ولا رفع نظرها عن الأرضية، فقد كان الأمر جليًّا للجميع حتى مريم سُرَّتْ وعلا صوتها قائلة:
- سيتزوج بلال.. سيتزوج بلال..
حاول إسكاتها لكن غلبه الضحك.. كانت ليلة جميلة بكلّ ما فيها.
بعدها قامت الخالة منيرة وابتنها مغادرتين، شكروا الجميع على الدعوة وهموا بالخروج، ظل بلال يرقب شيماء وهي مغادرة، وبادلته تلك النظرات المحتشمة. رأتهما عائشة فاقتربت منه ودفعته بكتفها ونظرت إليه، كادت أن تنفجر من الضحك، لكنها حبسته حتى أغلق الباب وأطلقت العنان لنفسها. ضربها بلال وطالبها بكبح جماحها، لكنها كانت تزداد ضحكًا وتقول:
- كشفتك أيها العاشق الولهان..
- أزهر قلبه أخيرًا، غريب ما يفعله الحب بنا يا معاذ!
- غريب جدًّا يا خديجة، كيف لشخص واحد من بين كلّ من يحيط بنا أن يدفعك لتبتسم ويجعل عيونك تتلألأ فرحًا؟
وكيف تُبكيك كلمة منه فجأة في حين أنت تضحك بكلّ قوتك؟!
الحب يا خديجة أن تراهن على قلبك فوق طاولة شخص ما وتمنحه القدرة على قتلك، وأنت لا تعلم هل سيفعل ذلك؟ أم سيبعث الحياة داخلك؟
وها أنا أفعل ذلك معكِ! أحبك يا خديجة، أرجوكِ اعتني بقلبي جيدًا..
- أحبك يا معاذ، فأنت الذي أقام بنيان قلبي الخرب، أنت الذي جعلني أرى الحياة جميلة مرة أخرى، حبك جرعة سعادة لا أشتهي انتهاءها، أريدك أن تحبني دائمًا، أن تحبني على كلّ حال، وعلى الرغم من سوئي، أن تحبني حتى بعد موتي، فأنا أحبك أكثر من ذلك يا معاذ! لا تخف على قلبك فإنه جزء مني، إن أصابك مكروه سيصيبني ضعفه..
- الحمد لله عليكِ، أنتِ أعظم نعمة أهداني إياها ربنا، والحمد سبيل لدوام النِعم، فالحمد لله دائمًا وأبدًا.
بعد تلك الليلة يا معاذ أصبح بلال يتغيب كثيرًا عن المنزل، يخرج في الصباح الباكر ولا يعود إلا بعد منتصف الليل، لا يأكل في المنزل أبدًا، انتاب عائشة القلق عليه، لا تريد أن يعترض طريقه أحد اللصوص في ظلمة الدجى ويؤذيه أو قد يسلبه حياته، فحذَّرتْه وطلبت منه الرجوع قبل حلول الظلام؛ لكنّه طمأنها وأخبرها أن عمله يستلزم ذلك!
سألته:
- ما هذا العمل يا بلال؟
تهرب من الإجابة وقال بصوت مرتفع:
- من يريد أن يذهب إلى المدينة؟
سمعته مريم وبدأت تقفز من الفرح وتقول:
- أنا.. أنا..
نظرت إليه عائشة بوجه مشدود وأعين قد مُلئت ريبة، تنهّدت ولم تستطع فعل شيء وانتظرت عودتهم مساء، جلب معه بعض الملابس لها ولمريم التي غزا السرور محياها، أخرجت بعضها من الأكياس وبدأت ترقص وتضعها على جسمها الصغير متباهية، ثم قالت لعائشة:
- انظري يا عائش كم هي جميلة!
أمسكت عائشة ببلال من يده وأخذته إلى زاوية الغرفة وقالت بغضب:
- من أين لك المال يا بلال؟
ردَّ عليها وعيناه تسرح يمينًا وشمالًا:
- أنا أعمل يا عائش!
ازداد غضبها وصرخت في وجهه:
- هل أصبحت لصًّا يا بلال؟؟ أمسكها وقال:
- لا يا عائش، أقسم لك لست لصًّا، أنا أعمل لكن لن أستطيع اطلاعك على الأمر الآن، فقط أريد ثقتكِ بي. حسنًا؟
أرادت عائشة تصديقه كي يهدأ ضجيج رأسها وقالت بصوت حزين: حسنًا يا أخي، فقط اعتنِ بنفسك لا أريد وداعك أنت أيضًا.
من شدة وقع كلماتها ودموعها التي ملأت عينيها أراد احتضانها بشدة لكنّه لم يفعل..
في تلك اللحظة رن هاتف بلال، تفقده وهرع نحو الخارج، بعد دقائق عاد للداخل وأخبرهم أنه سيعود بعد ساعتين ولن يتأخر؛ حاولت عائشة منعه لتأخر الوقت، لكنَّه كان عنيدًا وطلب منها ألا تقلق عليه فهو ذاهب للقاء صديق فقط. وغادر.
لم تستطع عائشة النوم تلك الليلة، خاصة أنه طال غيابه أكثر مما أخبرها به، جلست في زاوية الغرفة تنتظره وكلها خوف حتى سرقها النوم من شدة التعب، وعندما استيقظت صباحا وجدت نفسها على فراشها وفوقها البطانية. أدركت أنه بلال من حملها إلى هناك فارتاحت نفسها لكن ليس بذلك القدر الذي قد يقتل مخاوفها.
مرت ثلاثة أشهر على ذلك النهج، وحل فصل الشتاء، لم يحتمل سقف المنزل تلك الأمطار الغزيرة التي نهشت منه حتى أصبح الماء يتسرب داخلًا ولم يكن هناك حل أمامهم سوى الذهاب لبيت الخالة منيرة، فطلبوا منها المكوث حتى يمر الشتاء، فلم تمانع..
هناك بدأت قصة بلال وشيماء تنمو داخل جدران المنزل؛ إذ أصبح يراها كلّ يوم، ويبتسم لها مع كلّ وجبة على مائدة الطعام.
كان يأتيهم بكلّ ما يحتاجونه ولم يبخل بشيء عليهم، فقد ورث -أيضًا- جود أبيه وكرمه، حتى أنه ساعد أهل القرية في التزود لذلك الشتاء الصعب على قاطني الريف..
في إحدى المرات كان بلال يهم بالمغادرة باكرًا، ظن أنه أول من استيقظ، لكنّ شيماء كانت تتجول في أرجاء المنزل أيضًا، وفي تلك الزاوية حدث أن اصطدم بها، تأسف منها وأخبرها أنه لم يكن منتبهًا؛ قالها بسرعة لأنه كان مرتبكًا، ردت عليه بخجل وعيناها تكاد تلامس الأرضية:
- لا عليك، هل أحضر لك شيئًا تأكله؟ أظنك مغادر لأنك لبست حذاءك.
وضع يده على رأسه ونظر إلى قدميه وقال:
- الحذاااء! نعم.. نعم، أنا ذاهب للعمل، لكن سيكون جميلًا إن أكلت شيئًا قبل المغادرة..
لكنَّ القصد من الكلام غير ذلك، أكان يعني أنه سيكون جميلًا الجلوس معها والتمتع بسحر عينيها؟
وراء تلك الجدران كانت عائشة تختلس النظر، لم يهدأ قلبها على أخيها، راقبته كلّ صباح وهو يغادر. هناك رأتهما وهما يتحدثان وسمعت كلّ كلمة، فتركتهما جلسا وتحدثا قليلًا، قرأت في عينيه كم كان سعيدًا وهو يحادثها، لم يدخل فمه شيء من الطعام، لأن قلبه الذي كان يتضور حبًّا لشيماء!
دخلت عليهما بعد دقائق فارتبك بلال، دفع الكرسي حتى وقع أرضًا وقام نظر خلفه، وجدها عائشة فارتاحت نفسه؛ إذ خشي أن تكون الخالة منيرة، رمقته عائشة بابتسامة تخفي وراءها كمًّا هائلا من الضحك، لكنها حبسته، لم يتفوه بشيء سوى: شكرًا على الفطور! قالها وغادر مسرعًا..
كان ذلك اليوم الذي ذهب بلال ولم يرجع تلك الليلة، بقيت عائشة مستيقظة حتى الصباح، أكلت أظافرها من شدة التوتر، ملأ رأسها خطوات الأفكار السيئة التي تغذّت على راحة نفسها، لم تكن تملك هاتفًا لتتصل به، ما زاد الأمر سوءًا. حاولت الخالة منيرة طمأنتها، لكنّ الخوف تغلغل في أعماقها وطوّقها حتى من الخارج، ما جعلها في حالة شرود تام، كانت تخطو ذهابًا وإيابًا من نافذة إلى أخرى وهي تراقب الخارج لعله يظهر أخيرًا كي يغتالَ تلك المعاناة التي أرهقتها، لكن لا أمل..
مرت ليلة أخرى وعائشة على الحال نفسها، لم تأكل شيئًا منذ يومين، هناك بدأت حالة من الفزع تصيب الجميع، حتى شيماء كان الخوف باديًا على وجهها الجميل الذي أخذ في الشحوب، كانت قد تعلقت به أيضًا، وفي لحظات كتلك يا معاذ تظهر حقيقة مشاعرنا!
- نعم يا خديجة، أتذكر أول مرة أيقنت فيها أني أحبك، كان هاتفك مغلقًا طوال اليوم وأنا أتصل بكِ حتى جُن جنوني، وخرجت أبحث عنكِ في كلّ مكان قد زرته من قبل!
- أتذكر ذلك يا معاذ، لقد كسرت يومها قفل الباب ودخلت عنوة، وجدتني نائمة كطفلة صغيرة؛ أيقظتني بعنف حتى آلمتني، قلت لي حينها بغضب: إياكِ وفعل هذا بي مجددًا، كنت جميلًا يا معاذ وأنت غاضب ما جعلني أبتسم لك.
- لم تبتسمي فقط أيتها الحمقاء، ضحكت حتى سمعك المارون على الرصيف. هناك اعترفت لكِ بحبي أول مرة..
- قلتها وأنت تصرخ: أحبك يا خديجة. كان ذلك أجمل شيء سمعته على الإطلاق..
- كفاكِ رومنسية، وأكملي القصة..
- لا، سنتابع ليلة غد..
- أرجوكِ؛ إنها عطلة نهاية الأسبوع دعينا نستمر..
- مممممم.. حسنًا.
في تلك الليلة عاد بلال إلى المنزل، لكنَّه لم يكن في حالة جيدة؛ إذ كان يمسك بطنه وسقط على عتبة الباب، رأته عائشة فأسرعت نحو المدخل وهي تصرخ: إنه بلال.. إنه بلال..
لما جعلته مستلقيًا على ظهره وجدته مغطى بالدماء! كان ينزف واختلط عليها الأمر، عادت بها الذاكرة إلى يوم توفى والدها. أصابها الشلل ولم تحرك ساكنًا، حتى أتت الخالة منيرة وابنتها، حاولوا إيقاظها من صدمتها، لكنها كانت تنظر إلى يديها الملطختين بدماء بلال وتبكي بحرقة..
حملت الخالة بلال من جانب ذراعيه وتوجهت شيماء نحو الجانب الآخر. لم يستطيعوا حمله كليًّا؛ فأدخلوه إلى منتصف المنزل بصعوبة. أسرعت الخالة منيرة بوضع قماش على الجرح لإيقاف النزيف، تفقدت الجرح قبل ذلك وسعدت أنه لم يكن عميقًا، هذا ما جعله ربما يصل إلى المنزل حيًّا، فكَوَتْ الخالة الجرح بسكين ساخنة، فتوقف النزيف أخيرًا، ثم نظَّفَت شيماء الجرح وخاطته بأصابع ثابتة كأنها معتادة على ذلك!
لم تستطع عائشة التوقف عن البكاء على الرغم من طمأنة الخالة لها، أرادت رؤيته مستيقظًا كي يهدأ قلبها، ظلّ بلال نائما طوال الليل وعائشة مستيقظة أمام رأسه تراقبه، أمّا مريم فقد تعبت من البكاء ونامت إلى جانبه على الأرض ويدها ممسكة بيد بلال..
لم يستيقظ حتى وقت الضحى. وجد الجميع حوله، فابتسم؛ لكنّ عائشة لم تعرف كيف تعبر عن نفسها فصفَعَتْه! وغادرت الغرفة. بقي الجميع صامتًا، حتى صرخت مريم قائلة: متى تأخذني إلى المدينة يا بلال؟ ضحك الجميع لحظتها من براءتها وخفة دمها..
لم تتحدث عائشة مع بلال طيلة أسبوع، تركته حتى التأم جرحه وعادت له عافيته، وصبَّت عليه جم غضبها. كان قد أخبر الخالة أنهم مجرد لصوص قد اعترضوا طريقه، لكنّ عائشة لم تصدقه، كانت تدرك في أعماقها أنه قد أقحم نفسه في أمر سيئ، فحاولت جعله يعترف لها لكنّه كان عنيدًا وتمسّك بقصة اللصوص.
أخبرته أنها ستذهب معه إلى عمله، كي ترى حقيقة الأمر لكنَّه أبى، أخبرها أنه يوجد الكثير من الرجال هناك ولن يسمح لها بذلك أبدًا، فيئست منه لكنها لم تيأس من نفسها.
قررت في أحد الأيام اتباعه سرًّا إلى المدينة، تنكرت في لباس محتشم، وذهبت وراءه.. تقفت أثره حتى باب أحد المصانع المهجورة. بدأ قلبها ينبض بسرعة، لأنه مكان بعيد عن الأنظار، خشيت أن يهاجهما أحد اللصوص هناك فأسرعت بالمغادرة.
في تلك الليلة رجع بلال متأخرًا كعادته، وجدها تنتظره وكلها غضب. عندما دخل أمسكته وأخذت بيده إلى المطبخ وأغلقت الباب.. قالت بصوت خافت:
- ماذا كنت تفعل في ذلك المكان المخيف؟
أجابها بحيرة: أي مكان مخيف؟؟
- أنت تعلم جيدًا ما أتحدث عنه، ذاك المصنع الذي دخلت إليه صبااا..
لم يتركها تكمل كلامها ووضع يده على فمها وقال:
- صه، لا تتحدثي عن ذلك المكان مجددًا، فللجدران آذانها!
نزعت يده وقالت: ماذا تفعل يا بلال؟ أخبرني أرجوك!
أراد التهرب من الإجابة، اقترب وهمس في أذنها بشيء جعلها تنظر إليه كأنها رأت شبحًا، أرادت الجلوس على الكرسي الذي وراءها لكنها سقطت أرضًا!
دنا منها بلال، حينها ردت عليه بحيرة: ماذا تقول أنت؟
لم يعلم ما يجيبها وصمت ناظرًا إليها طويلًا، ثم قال:
- كانت تلك آخر كلمات أبي قبل وفاته!
- لماذا احتفظت بشيء كهذا لنفسك؟
- لا نعلم إن كان حقيقة أم مجرد وهم أراد أبي تصديقه؟
اختلطت الأمور على عائشة ولم تعرف ماذا تفعل؟ أخبرته ألا يفشي ذلك لأحد، حتى يتأكدوا من صحته.. فقال لها:
- يجب أن ننتقل إلى المدينة ومن هناك سننقب عن الأمر، الآن دعي كلّ شيء على عاتقي حتى أجد لنا بيتًا هناك.
توقفتْ عن إزعاجه بسؤالها عن عمله، لأنها أرادت أجوبة لأسئلة أهم.. كيف حدث ذلك؟ ولماذا لم يخبرنا أبي عن الأمر؟
وهل بلال صادق في قوله؟ أسئلة كثيرة جعلت من عائشة تائهة طوال الوقت، لم تعد تستطيع الكلام ولا الضحك. لاحظت الخالة منيرة حالتها البائسة، حاولت جعلها تبوح بما يؤرقها لكنّ عائشة كانت تخبرها بأنها اشتاقت لأبيها فقط، لا شيء آخر.
- لماذا البوح صعب هكذا يا خديجة؟ أليس من المريح إخراج الإنسان ما بداخله؟
- البوح بما يؤلمنا خيانة عظيمة لأنفسنا يا معاذ، خيانة تدفعنا للاعتراف بأننا ضعفاء لغيرنا، أو كنا يومًا كذلك، أن نخبر غيرنا بما يمكنه إيلامنا، وطريقة فعل ذلك؛ البوح يا معاذ يجعلك تُعايش ألمك من جديد، كأنك تفتح جراحك وتجعلها عرضة لأصابع غيرك كي تنقب فيها!
ليس كلّ ما في القلب قابل للبوح يا معاذ، فهناك أشياء لا يليق بها إلا الوأد في مقبرة الفؤاد.. وليس كلّ من نبوح له بما يؤلمنا سيكون بئرًا عميقًا لأوجاعنا، ولا في استطاعة أي بشر أن يكون شفاءً لجروح القلب لأنها لا تلتئم إلا برحمة الله وحده سبحانه، بالقرب منه والشكوى إليه دون غيره لكيلا نقع في المذلّة!
البوح يا معاذ حرب مؤلمة جدًّا بين العقل والفؤاد، بين ألم الكتمان والخوف من الندم.. صدّقني!
- نعم قد يكون كذلك، ولا شك أن الأشياء الجميلة طريقها محفوفة بالألم، لكن ليس صحيًا إبقاء الإنسان كلّ غضبه وبؤسه سجناء الكتمان، فبذلك هم يحرقون باطنه، إن كان إخراجهم موجعًا جدًّا كما تقولين فهو أهون من إبقائهم داخلا يعيثون فسادًا في أنفسنا، علينا البحث عن المكان المناسب للتخلص منهم، أو الشخص المناسب ليحملهم عنا.. حينها ستمطر الأجواء داخلنا وتزهر قلوبنا، فلا تترددي في البوح لي يا خديجة بأي أمر يتعبك، أنا هنا من أجلكِ دائمًا.
- أنت أيضًا يا معاذ لا تتردد في البوح لي أبدًا.
- أعدك بذلك حبيبتي. والآن هلا أكملت فأنا مستمتع بحديثك جدًّا!
- حسنًا.
انقضى شهر آخر، رجع بلال إلى عمله المعتاد، وبقيت عائشة سجينة حيرتها، وفي تلك الأيام أزهرت علاقة بلال بشيماء، أصابهم داء الحب الذي لا دواء له إلا الزواج. يلتقيان في الصباح الباكر قبل استيقاظ الجميع، يقضيان بعض الوقت في المطبخ، ويغادر بلال المنزل بعدها..
لم تتذمر الخالة من وجود عائلة العم موسى معها، لأن عائشة كانت تساعدهم في أعمال المنزل، وبلال يأتيهم بمستلزمات الحياة كلها. قضوا هنالك عامًا آخر، في خلاله تمكن بلال من شراء منزل في المدينة. فكان الفراق صعبًا على الجميع، لذا قررت الخالة منيرة تزويج ابنتها لبلال، هكذا سيتمكن الجميع من مغادرة الريف والذهاب لحياة المدينة، إلى مدينة وهران الباهية.
انتهى التحضير للعرس الذي انتظره العشيقان بفارغ الصبر، وبعد أشهر قليلة أقاموا الوليمة في بيت الخالة منيرة واجتمع أهل القرية كلهم هناك، فرح الجميع وقضوا وقتًا ممتعًا. وفي الغد انتقلت العائلة نحو المدينة.. بيت جديد، حياة جديدة.. وقصة جديدة.
- تذكرت يوم زفافنا يا خديجة، كنتِ جميلة جدًّا، سرقتِ قلب كلَّ من حضر يومها، أخبرني أبي -حفظه الله- أنك تشبهين والدتي كثيرًا، خاصة وأنت تكتسين البياض، لذا أنا دائمًا أحترمك وأعاملك كملكة، لأنني حقًّا عايشت معك حنان الأم، أحب معاملتكِ لي كطفل صغير، تخافين عليّ وتعاتبينني دائمًا، خاصة إن فعلت شيئًا ضارًّا بصحتي، كذلك اليوم الذي خرجت فيه دون معطف وأصابني الزكام، ظَلْتِ مستيقظة من أجلي حتى تحسنت حالي، وبعدها أصبحت تختارين لي الملابس التي أخرج بها، ولم أتذمر يومًا من هذا الشيء، بل أحببته حقًّا.. وأحببتكِ حد الجنون!
- كذلك أحببتك أنا يا معاذ، أنت كلّ شيء بالنسبة إلى، زوجي الحبيب، أبي وأمي، إخوتي وأخواتي، حتى الصديق.. أنت الجميع في شخص واحد، لا أعلم كيف يمكنك أن تكون كذلك لكنَّها حقيقة لا أستطيع تفنيدها ولا تفسيرها أيضًا! لقد رأيت معك جمال الحياة ونورها وما أزال أعيش ذلك كلّه كلّ يوم ولا أرغب في فقدانه، ببساطة يا معاذ، أتمنى بقاءك إلى جانبي حتى آخر نَفَس، فلا قدرة لي بعدك في البقاء على قيد الحياة!
وبالحديث عن جمال الحياة، كانت مريم قد تراقصت فرحًا بالبيت الجديد، لأنَّها ستتمكن من الدراسة الآن، آملة ألاَّ يصل بها الحال كحال أختها حبيسة البيت والظروف. وسيصبح لديها العديد من الصديقات..
أمّا عائشة فقد نُفخت في وساوسها الحياةُ مجددًا، أرادت رؤية حقيقة العمل المريب لبلال بأمِّ عينها، والمصدر الغريب لذلك المال؟ فرجعت إلى ذلك المكان وحاولت الاقتراب أكثر هذه المرة.. لكنّ الفأس على الرأس قد وقع.
ضربها أحدهم من خلفها وخدَّرها لاعتقاده بأنّها شرطية متخفية، وجدت نفسها مربوطة ومُكمَّمَة بقطعة قماش تفوح منها رائحة الكحول، ففهمت أنّها فقدت الوعي..
لم تمض ساعة إلاّ وقد حضر بلال في توقيته المعتاد. دخل المكان متثاقلًا، لكنَّه سرعان ما غير من إيقاع خطواته لما شاهد أخته مكبلة تحاول الصراخ! فزع كثيرًا وركض إليها ونزع قطعة القماش من فمها، وقال: هل أنت بخير؟ هل آذوكِ؟
ردت وهي ترتجف خوفًا: أنا بخير.. لكن من هؤلاء؟ ما هذا الذي ورطت نفسك فيه يا بلال؟
اقترب منه زعيم العصابة الذي يلقب نفسه «بابلو الوهراني» وقال: هل تعرفها يا بلال؟
لم يستطع بلال الوقوف على قدميه، جثا على ركبتيه وأخذ يترجى الزعيم لإطلاق سراحها فهي أخته، فرَدَّ عليه: هل هي من الشرطة؟ فعقب بلال: لا، لاااا.. أقسم بروحي أنها مجرد فتاة ريفية لا غير..
أخذ الزعيم يفكر ثم أخرج خِنجرًا وأدناه من عنقها، وقال: ليس لدي خيار آخر سوى قتلها! لن أخاطر بكشف هذا المكان أبدًا.
بدأ بلال حينها يتضرع إليه ويقبّل حذاءه.. وعائشة تبكي وتصرخ!
قال الزعيم بغضب: اصمتي وإلا قطعت حبال صوتك يا فتاة!
الجو مكهرب، أي خطأ سيودي بحياة عائشة، وإن لم يجد بلال حجة يقنع بها الزعيم ستكون النهاية كارثية..
قام بلال وأخبر بابلو أنه يريد محادثته على انفراد.. لم يكن مدركًا ماذا سيقول؟ أراد فقط كسب بعض الوقت.. ذهبوا نحو إحدى الزوايا، لكنّ بلال لم يستطع الكلام حتى اشتد غضب الزعيم ووضع السكين على عنقه وأخبره أن يتكلم وإلا نحرهما معًا، هناك خرجت منه الكلمات متتابعة كأن ذلك نشط عقله وقال: سأكون عبدك. سأفعل أي شيء يا بابلو. لن أتقاضى بعد اليوم شيئًا فقط اتركها تذهب فهي لا تعلم شيئًا، ولم أخبرها أنني أوزع المخدرات! أعدك أنَّها لن تتفوه بأي شيء.. أرجوك لا تقتلها!
أخذ الزعيم يفكر.. لحسن حظ بلال أنّه أثبت نفسه وبراعته في العمل، كان جيدًا جدًّا وجديرًا بالثقة، حتى أصبح من المقرّبين للمروج بابلو الوهراني المشهور.. هذا ما جعل هذا الأخير يقرر منحه هذه الفرصة.
وقال: إن حدث شيء ما أو خنت جانبك من الاتفاق سآتي إلى منزلك وأقتل الجميع! هل هذا واضح؟
رد بلال: واضح.. واضح يا زعيم، أعدك لن يحدث شيء أبدًا.. شكرًا لك.
ركض نحو عائشة وفك قيودها واحتضنها وهو يبكي، طلب الزعيم من أحدهم إيصالهما بعيدًا عن المكان. من هناك رجع بلال وأخته إلى المنزل..
لم تستطع عائشة التوقف عن البكاء، كانت تجربة رهيبة مرت بها، جعلتها تبقى في حالة شرود مدة أسبوع دون كلام أو إيماء.. دون أكل أو شرب، حتى ازدادت حالتها سوءًا ونُقلَت إلى المستشفى..
اعتنَوا بحالتها الجسدية، لكنّ عقلها لم يحتمل كلّ ما مرت به في حياتها، كلّ تلك المصائب التي أتت تباعًا وعاثت فسادًا في رأسها.. كانت صدمة للجميع.
امتلأت ذات بلال غضبًا. اشتعلت الرغبة في الانتقام داخله كالنار التي لا تبقي ولا تذر..
أخبره الأطباء بتضرر دماغها لمعايشتها ظرفًا قاسيًا وهذا ما يسمى في علم النفس باضطراب ما بعد الصدمة؛ إذ يفقد الدماغ بعض قدراته العصبية، ويحجب عن صاحبه الحدث الذي سبب له ذلك الضرر لمدة من الزمن أو قد يكون ذلك دائمًا، ربما لن تستطيع عائشة تذكُّر ما حدث لها مؤخرًا، وقد تفقد قدرتها على الكلام أيضًا!
قطرةٌ أفاضت كأس الصبر، خرج بلال مسرعًا وتوجه نحو مخبأ العصابة.. بحث عن الزعيم لكنّه لم يجده، أخبروه أنَّه سافر مع زوجته خارج البلاد! ولن يعودا إلا بعد شهر من الآن..
فكر بلال ورأى في هذا الموقف ابتسام القدر له، فالغضب لا ينجب إلاّ الندامة ويعمي صاحبه عن عواقب أفعاله عدا أن زعيم العصابة لن يكون رحيمًا به بعد تلك الحادثة..
غزت فكرة الانتقام ذهنه وانشغل بترتيب أموره والتخطيط لكلّ شيء قبل رجوع الزعيم، وبما أنَّه امتلك ثقته من قبل سيكون سهلًا عليه الاقتراب منه..
- هل سيقتله يا خديجة؟
- لو كنتَ مكانه ما عساك أن تفعل يا معاذ؟
- لو فعل أحدهم بأختي ذلك سأشرب دمه وهو يشاهد!
- يا إلهي! من أين لك كلّ هذا العنف؟
- لا أعلم، لكنّ أي أحد قد يفعل أشياء كهذه من أجل من يحب.. الحب يا خديجة يكشف عن أشياء دفينة لا ندري وجودها في باطننا، أحيانًا تتملكني رغبة في اقتلاع أعين أولئك الحمقى الذين ينظرون إليكِ! أو قطع ألسن الذين يقولون لكِ صباح الخير أستاذة!
الحب يجعلنا عنيفين يا حبيبتي إذا حدث وتأذى شخص عزيز على قلوبنا، الحب يمرجحنا بين الخير والشر، لكنّ الأهم يا خديجة ألا يرى من تحبه أنك تعاني من ذلك..
- أراك طيبًا يا معاذ، حتى لو فعلت أشياءَ سيئة لن تتغير نظرتي إليك، أحيانًا تجبرنا الحياة على ذلك، لكنّها ليست حقيقتنا أبدًا، ولا يجب على الآخرين الحكم علينا من أمور نفعلها في حالة الانكسار والألم. بالأحرى، ليس لهم الحق بالحكم علينا أبدًا، ولا محاسبتنا على أفعالنا كلها، يجب أن يهتم كلّ بشر بذاته أولًا، فإن تمكن من ترويضها على الخير، فعل ذلك مع من هم أقرب منه، أولئك الذين سيُسأل عنهم غدًا.
- أشاطرك الرأي يا خديجة، لكنك ستخسرين عملك محاميةً إذا اختار كلّ الناس فعل الخير.. ستندثر الجرائم وشهادات الزور وقضاياك. ستكون الحياة جميلة، أليس كذلك؟
- لا أظن أنها ستكون جميلة، لا بد من وجود الخير والشر، تمامًا كحاجتنا لوجود النور والظلام، هي حكمة إلهية من أجلها خلقت الجنة والنار، أمّا نحن يا معاذ فمطالبون بأن نكون بشرًا لا ملائكة!
أظنك تعرف الكاتب والشاعر اللبناني جبران خليل جبران أو قد سمعت به يومًا، يحضرني مقطع من رائعته «المواكب»:
الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ إذا جُبروا.. والشرُّ في الناس لا يفنى وإن قُبروا.[2]
الشر جزء لا يتجزأ من النفس الإنسانية، والخير ما هو إلا وليد المصلحة، إذا احتاجه المرء استدعاه!
تعددت الآراء والمعتقدات بين الكتاب والفلاسفة، بعضهم قال بحقيقة المزيج بين الخير والشر، وآخرون رجّحوا غلبة الشر على الخير في النفس البشرية يا معاذ.
وقرأت يومًا كلامًا طيبًا نُقش في ذاكرتي للإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه «شفاء العليل في أحكام القضاء والقدر والحكمة والتعليل» ومنه:
«إن الشر الذي خلقه الله خلقه لحكمة فكان إيجاده خيرًا، ولأنه شر نسبي إضافي مغمور بجوار الخير الراجح من خلقه يترتب عليه خير كثير وحكمة عظيمة، كمرارة الدواء خير لا شر في الحقيقة».[3]
وكما سمعت يا معاذ، وجود الخير والشر مرتبط لحكمة إلهية، ولا يمكن أيضًا للإنسان أن يكون صاحب خير فقط، فلا سلامة من الوقوع في المعصية مهما استقمنا على الطريق الصحيح، لكننا مطالبون بالتوبة يا معاذ، أن نكون أوّابين بعد كلّ عمل شيطاني، أن نكثر من الاستغفار بعد كلّ ذنب، أن نقف بعد كلّ سقوط في شباك الهوى.
- حسنًا يا مفتية يكفي مواعظ، أخبريني الآن ما الذي حدث بعد ذلك مع بلال؟
- بعد تفكير أكل راحة باله، قرر بلال أن يضع حدًّا لحياة من كان سببًا في معاناة أخته عائشة؛ فاشترى مسدسًا من السوق السوداء بعد عناء طويل وجهد مضنٍ، دفع من أجله مبلغا طائلًا. تدرب على استعماله كثيرًا حتى لا يخطئ هدفه، وفي المقابل بقي محافظًا على عهده بالعمل، تجنبًا لأية شكوك قد تفقده فرصته الوحيدة في الانتقام!
كانت عادة الزعيم أن يطلب حضور بلال بعد كلّ سفر ليطلعه على تطور العمل في الأيام الفارطة، وهي اللحظة الوحيدة التي يكونان فيها على انفراد داخل منزل الزعيم.
بعد أيام من الانتظار الذي كاد يُفقد بلال أعصابه، رجع الزعيم أخيرًا، استعد بلال للقائه وعبَّأ المسدس وتأكَّد من سلامته، وأخفاه لأنَّهم يفتشونه عند باب المنزل..
لكنّ المفاجأة كانت صادمة لبلال، لم يطلب الزعيم قدومه، واختار شخصًا آخر!
تبخر كلّ شيء خطط له، ولم يجد شيئًا يوقف به غضبه، ولا قوة تمكنه من التظاهر بالولاء أكثر من ذلك، لكنّه أدرك أخيرًا أنه كان على خطأ.. فبموت الزعيم لن ينتهي كلّ شيء، لن تخمد النار داخله، يجب أن يجعله يعاني كما عانى هو، أن يؤذي أحب الناس إليه.. زوجته!
لم تكن معروفة للجميع، لم يرَها أحد من قبل لأنها لا تحضر أي اجتماع، لكنّه سمع بعض الإشاعات عنها، قيل إنها الرأس المدبر لكلّ شيء، وقيل أيضًا أنه مجنون بها، لذلك سيكون ألمه أشدَّ في أذيتها..
أخذ بلال يبحث عن طريقة لمقابلة الزعيم في منزله، لكنّه لم يجد سبيلًا لذلك، وبينما هو منشغل بالانتقام كانت حالة عائشة تزداد سوءًا، أصبحت تصرخ مستيقظة من نومها كلّ يوم، تصرخ كأن أحدًا يحاول أذيتها، ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها. تجلس في زاوية الغرفة ضامة ركبتيها إلى رأسها وتحرك جسمها.. كانت مخيفة جدًّا، أفزعت حالها تلك مريم التي كلما رأتها أجهشت بالبكاء.
قرر بلال أخذها إلى مصحة عقلية خوفًا من إيذاء نفسها أو غيرها ممن كان في المنزل، لكنها لم ترد الذهاب، قاومت حتى خدروها.
بعد أيام أتاهم خبر هز قلوبهم، وجعل بلال يفقد أعصابه؛ انتحرت عائشة داخل غرفتها، شنقت نفسها بملاءة السرير!
- لقد اغرورقت عيناكِ يا حبيبتي، قلبك طيب جدًّا، لهذا أحبك، لكن ظني يخبرني أن عائشة فعلت ما اقتضته حالتها البائسة، فليس هينًا أن تملأ ظهرك سهام غادرة من الحياة ولا تسقط أرضًا، فلكلِّ بشر طاقة صبر محدودة، بعد نفادها يصبح التنفس عبئًا لا يُحتمَل، ويصبح العيش مؤلمًا حد الاختناق، تتقلب الموازين حينها ويبحث ذاك الذي كُلِّف ما لا يسع عن راحة لنفسه ولا يجدها إلا في الموت..
- لكنّه مفر الجبناء يا معاذ، فقتل النفس ليس حرية لكلّ من أراد ذلك، قتل النفس جريمة في حد ذاتها، النفس ثمينة عند خالقها ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها يا معاذ، قد يفقد أحدنا صبره ولا يحتمل، لكن إن كان إيمانه بالله قويًّا لا تحركه عواصف المحن، سيجد النور وسط ذلك الظلام الحالك، سيبصر رحمة الله عندما تضيق عليه الأرض بما رحبت، فالله لا يترك عبده إلا إذا أعرض العبد عن ربه إعراضًا ليس بعده توبة.. الله لطيف بالعباد يا معاذ.. ألم تقرأ قوله سبحانه في كتابه الكريم: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[4]
- كان يجب أن تصبحي إمامًا لا محامية..
- كفاك سخرية يا معاذ..
- لست أهزأُ بكِ، فقط أردت رؤية هذه الابتسامة الساحرة على وجهك الجميل. وفي الحقيقة كنت أشيد بكِ..
- قرأت البعض من الكتب الدينية يا معاذ، جميل أن تكون على دراية بأمور الآخرة، «فإن الله يُبغِض كلّ عالم بالدنيا جاهل بالآخرة.»[5]
ولا يقع الجهل بالمرء إلا إذا كان لا يبحث ولا يتساءل عن أمور دينه وآخرته، فكان واجبًا على كلّ مسلم قراءة ما تيسر له من الكتب وغيرها، ويكون مُلمًا بتحصيل العلم النافع، ولا يقرأ المرء كلّ ما يُكتب فمن الكتابة ما هو نافع للمرء وكثير منها لا حاجة له بها، ولا يعني هذا عدم الالتفات لها نهائيًّا، لكنّ الأَوْلى دائمًا يرجع لأمور الدين والآخرة، لما في ذلك من خير كثير.
- إذًا سأبدأ في التفقُّه -إن شاء الله- لا أريد أن يمقتني الله وألَّا أكون إلى جانبك في الجنة..
- بدأت تصبح حليمًا يا معاذ.
- ويعود الفضل إليك يا خديجة. أخبريني الآن كيف كانت ردة فعل بلال بعد ما حدث؟
بعد انتحار عائشة، لم يعد الانتظار مفيدًا لبلال. أسرع بالذهاب لبيت الزعيم ومعه المسدس، لم يُسمح له بالمرور فأثار ضجة كبيرة أمام المنزل. أخبر مساعد بابلو -أو ما يلقب بيده اليمنى- أن يعلمه بأنه أمر مستعجل عن أخته والمكان!
ارتبك الزعيم وظن أنّ مستودع مخدراته سيُكشَف وتنتهي تجارته التي دامت عقودًا من الزمن؛ فطلب إدخال بلال بسرعة.
لم يفتشه سهوًا منه بسبب التوتر الشديد الذي تعمد إحداثه بلال..
عندما دخل عليه وجده قَلِقًا يجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا، توقف وقال لبلال:
هل فقدت السيطرة على أختك يا غبي؟ هل ذهبت إلى الشرطة؟ أخبرني..
ظل بلال صامتًا، بدأ غضبه يظهر على عيونه التي أخذت في الاحمرار وامتلأت دموعًا حاول حبسها، وقال له:
- لقد قتلت أختي أيها الكلب!
تفاجأ الزعيم من كلمات بلال، وطلب منه الهدوء، فكلامه ليس منطقيًّا! في تلك اللحظة نزل بلال نحو حذائه وأخرج المسدس وأطلق عليه رصاصة نحو كتفه! وقال:
- أين هي زوجتك؟
في تلك اللحظة فُتح باب الغرفة المقابلة، خرجت الزوجة مسرعة لما سمعت صوت إطلاق النار.. لم ينتظر بلال أبدًا وأطلق عليها رصاصتين، أصابت إحداهما كبدها والأخرى جانَبَتْ قلبها!
ذهب بلال نحوها وكانت الصدمة!
جثا على ركبتيه ناظرًا نحوها في ذهول وسقط من يده المسدس..
نظرت إليه وهي تنزف، عرفته وقالت بصوت متقطّع: ب ل ا ل!
دخل المساعد حينها مشهرًا سكينا قاصدا قتل بلال بها، لكن الزعيم صرخ طالبا منه إعفاءه من الموت السريع وأن يتركه حيًّا ليذيقه مرارة التعذيب، فضربه على رأسه وأفقده وعيه.
أمر الزعيم مساعده بحمل زوجته إلى المستشفى بسرعة، ونظرة الخوف في عينيه، لأنه يدرك أنه سيُقبض عليه حين تبدأ الشرطة التحقيق في القضية، لكنّه أصر على ذلك لأنه إن فقدها لن تصبح لحياته معنى، ستكون حريته ظلمة عليه من دونها..
قبل خروجهم أتت الشرطة إلى بيت الزعيم، كان بلال قد اتصل بهم قُبيْل دخوله إلى المنزل، لأنه أدرك أنه لن ينجو من فعلته حتى لو خرج حيًّا من هناك، ولن يخاطر بما تبقى له من أهله بترك أولئك الأشرار يجوبون الأرض أحرارًا، ضحَّى بنفسه كي تعيش أخته مريم وزوجته والخالة منيرة في أمان.
بسبب التأخير الذي أحدثته الشرطة لم تتمكن أم بلال من النجاة وتوفّت على متن سيارة الاسعاف في طريقها إلى المستشفى.. ماتت معها القصة الحقيقية كما دُفنت مع العم موسى.
اتهم بلال بالقتل العمدي، لكنّ عقوبته خففت بعض الشيء لأنه ساعد في القبض على مروج المخدرات «بابلو الوهراني» الذي كان يدير عملياته جيدًا ولم يترك يومًا أثرًا يقود إليه مباشرة.
- كيف انتهى بأم بلال المطاف زوجة للزعيم يا خديجة؟
- لا أحد علم الحقيقة، وُورِي عليها التراب ولم يرد بلال التنقيب عنها، ترك المياه تجري في مجراها وأغلق الكتاب.. لكن أظن أنها كانت خيانة زوجية، أظنها تعبت من حياة الريف، من عذاب الفقر، ومن كلّ التضحيات التي بذلتها كي يكبر أبناؤها..
- هل تدافعين عنها؟
- ليس دفاعًا عنها، بل تحليلًا لحالتها، أخبرتك سابقا أنَّه لا يجب الحكم على الناس من أفعالهم، هي فعلت ما رأته مناسبًا لها، قد يكون خطأ لكنّه في نظرها كان صوابًا، فأحيانًا يكون اختيار رفيق الدرب صعبًا، لم يكن العم موسى محظوظًا كحالك يا معاذ، الزواج شيء عظيم، ومن علامات حب الله لعبده أن يرزقه زوجة تحبه.
- إذن العم موسى..
- توقف يا معاذ، لا تكن نظرتك للأشياء ضيقة، وفهمك للكلام محدودًا، قلت لك من علامات، وليست مجرد علامة، ألا تعرف أيضًا أنه إذا أحب الله عبدًا ابتلاه، وعظمُ الجزاء مع عظم البلاء!
كان ابتلاء العم موسى في زوجته، وقد اجتازه بقلب شاكر، لأنه لم يحدِّث به أحدًا وصبر عليه، حتى أبناءه تحمل عنهم ذلك العبء الثقيل ولم يُردهم كره أمهم.. كانت نيته حسنة، لكنّه ليس محقًّا كليًّا، فكلّ قرار يتخذه أحدنا في حالة ما يظهر لنا أنه عين الصواب. أحيانًا تختلف وجهات النظر باختلاف زاوية الرؤية، لكنّ ذلك ليس سببًا لندخل في جدال عقيم لا طائل منه..
- أنت محقة، والآن أخبريني عن مآل بقية الأهل بعد دخول بلال السجن؟
بعد تلك الحادثة، استيقظ بلال في المستشفى، وجد نفسه مكبلًا. فبدل أن ينزعج ارتاحت نفسه، علم حينها أنَّ الشرطة قد قدِمت إلى منزل الزعيم، وتذكر أمه!
غزت الأسئلة تفكيره: أي مصادفة تلك؟ وكيف ساقه القدر ليكون صاحب السوط وجلاد أمه عقابًا لها على خيانة أبيه؟ حاول تركيب قطع الأحجية ليجد لها عذرًا، لكنها دائمًا تشكلت في أمر واحد، الخيانة!
قدمت مريم لزيارته ومعها زوجته والخالة منيرة قبل أخذه لقسم الشرطة، حيث سينتظر محاكمته ليُعلن عن العقوبة.. كان الجميع حزينا خاصة أن جنازة عائشة ما تزال تنتظر.. كانت مريم قد بدأت تستوعب الحياة وتعي حقيقة الأشياء من حولها، صعدت فوق بلال واحتضنته. على الرغم من أنه كان يتألم من أثر تلك الضربة على رأسه إلا أنه تركها تعانقه بشدة وحاول لف أيديه عليها لكنّه نسي أنه مكبل! هناك فقد السيطرة وانفجر باكيًا كطفل صغير، وأصبحت الغرفة مأتمًا حينها، الكلّ يبكي بحرقة! حتى ذلك الحارس الواقف على الباب غلبته عيناهُ من حزن الموقف!
هكذا نحن البشر طيبون جدًّا وعلى الخير جُبلنا، تبكينا دموع غيرنا، تحزننا وجوه أولئك البائسين، وتؤثر فينا مصائب ليس لنا منها نصيب.. لكننا لم نحافظ على طبيعتنا البيضاء تلك، فبعد كلّ شر نقترفه ونتمادى في فعله يقع فيها كنُكْتَة سوداء، ويومًا بعد يوم يصبح البياض ظلمة تأكل كلّ ذلك الخير داخلنا.. فلا نصبح بشرًا بعدها!
- فعلت أشياء سيئة كثيرة في حياتي يا خديجة، لكنني طالما ندمت بعد فعلها مباشرة وأتمنى حينها لو أنني لم أفعلها، هل هذا يعني أن طبيعتي أصبحت سوداء من كلّ ذلك السوء؟
- لا يا معاذ، الندم بعد فعل الذنب دليل على حياة القلب، أبشر فأنت ما زلت بشرًا، لكنك تحتاج أن تطهر نفسك وفؤادك كي تلقى الله بقلب سليم.
- وكيف السبيل إلى تطهير القلب في الدنيا يا حبيبتي؟
- ليس بأمر هين يا معاذ، أولًا يجب رد المظالم إلى أهلها؛ أي إن كنت أسأت لأحد يومًا بكلمة أو فعل يجب أن تتحَلَّله منه، طالبًا غفرانه اليوم قبل جلسة بينك وبينه غدًا أمام قاضي القضاة.. فالله عز وجل قد يغفر لك ذنوبك في حقه كتقصيرك في الصلاة وغيرها، لكنّه يحكم بالعدل عندما يصل الأمر إلى حقوق العباد، لن تنفعك توبتك في هذا الأمر، بل سيؤخذ من حسناتك قدر المظلمة، وإن حدث وانتهت سيُحمل عليك من سيئاته يا معاذ.. لذا كي نسلم من هذا الأمر وجب علينا طلب العفو من أولئك الذين آذينا.
- ماذا لو طلبنا العفو منهم ولم يغفروا؟
- الله لطيف بالعباد يا معاذ، إن رأى منك صدقا في طلب العفو وندما على ما فات سيجازيك خيرًا عليه، حتى لو اقتصّ منك صاحب المظلمة غدًا، سيجبر خاطرك رب العزة بعفوه عنك..
- لكنّه أمر مرهق يا خديجة ذلك البحث عن كلّ شخص آذيته، وإهانة النفس أمامه من أجل عفوه..
- هنا تكمن الحكمة يا معاذ، كي نهذب أنفسنا ونروضها على الخير، فيصبح بعدها فعل السوء مشقة وثقلًا لن تحتمله.. أخبرتك أن الأمر ليس هينًا لكنّه يستحق كلّ تلك المعاناة كي نجد الراحة يوم لا ينفع دينار ولا درهم.
- هل ينفعني حبك يومها يا خديجة؟
- المرء مع من أحب يا معاذ، أحبّ الصالحين تكن معهم.. ذاك الأمل الوحيد الذي تبقى لبلال بعد كلّ ما فعل، كان يحب أبيه، وقد شهد على صلاح العم موسى أهله وجيرانه فعسى الله أن يجمعهم في جنته.
بعد ذلك كلّه دخل بلال السجن ليقضي عقوبته تاركًا وراءه زوجته وأخته مريم، والخالة منيرة التي فارقت الحياة بعد سنة.. لم تحتمل شيماء كلّ ذلك وطلبت الطلاق من بلال، كانت ستكون عشرين سنة من الانتظار متعبة لها، أدرك بلال ذلك جيدًا، هذا ما جعله يمنحها فرصة أخرى لتعيش حياة سعيدة مع غيره.. أمّا مريم فقد تكفلت بها دار الأيتام، أكملت دراستها وتفوقت، ولما اشتد ساعدها رجعت إلى المنزل الذي اشتراه بلال آنذاك، ومن هناك أكملت حياتها حاملة معها ألم الماضي، ومنتظرة بفارغ الصبر خروج أخيها بلال من السجن.
- قصة حزينة جدًّا يا خديجة، لكن كيف علمت كلّ تلك التفاصيل؟
هل استلمت قضية بلال وأنت تدافعين عنه الآن؟
تكلمي، لماذا أنت صامتة وتنظرين إليّ هكذا؟
ما بكِ حبيبتي؟
- حدث كلّ هذا قبل عشرين سنة يا معاذ.. لم يكن اسم الفتاة الصغيرة «مريم» بل كان «خد..»
- خديجة!
[1] رواه أحمد في المسند (32/409)
[2] قصيدة المواكب، جريدة الأهالي، ماي 1919.
[3] كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي.
[4] الآية 29 من سورة النساء.
[5] صحيح الجامع للألباني، رقم 1879.