ولادة يسيرة
تأليف: عبد المجيد جعكو | الدولة: المغرب
لم يَكُن شيئاً يحتمل الانتظار، فآلام الوضعِ تزدادُ، والسيدة إطُّو لا تحتمل المزيد. كان زوجها موحى يستعدُّ للخروج طلباً للمساعدة وكانت حركاتُه كلُّها مُبعثرةً كما أفكارُه يسبق بعضُها بعضاً، ولو استطاع طَيَّ الوقت لطواه طيّاً يُغنيه عن سماعِ أنينِ زوجته.
كان الفجر يوشك على البزوغِ، والصمتُ المطبقُ يعمُّ القرية، لولا النّباحُ المتقطع للكلاب الذي كان يخرِق سكون الليل كضربة رمح سافِرةٍ غادرة.
أيقظت إطّو موحى من نومٍ عميق بيديها، وهمسَت في أذنه ببضع كلماتٍ فانتفض يبحثُ عن جلبابِه المصوّفِ وبَغلَتِه البالية. أشعل القنديل الزيتيَّ الذي كان موضوعاً على الأرض قرب الباب، ثم عاد ليطمئن على زوجته وبادلها نظرةً حملت في كنفها كثيراً من الودِّ والشفقة. لفَّ عمامتَهُ البيضاءَ على رأسِه وعلَّق جرابه على كتفِه ثم هرول نحو غرفة الطبخِ حيث كانت أمّه تُعِدُّ وجبة الإفطار على ضوءٍ خافتٍ يَصدُر من شُعلة قنديلٍ تُصارع البقاء. سَلّمَ عليها على عَجَلٍ وأخبرها بأن زوجته توشك على الوضع. تصارعت حينها في ذهنِه رغبتين، نَمَّت إحداهما عن الجوعِ الذي غزى أحشاءهُ في ليلةٍ من ليالي الشتاءِ الباردة فاشتهى شربَ الحساءِ الساخنِ، والأخرى عن العَجَلةِ التي كان فيها من أمرِه فلم يَجِد لنفسِه وقتاً يسمحُ له باحتساءِ الطعامِ دون الإحساس بحروقٍ في فمِه.
يسكنُ موحى الملقب بـ «أكوزال» أي «القصير»، كما يحلو لأصحاب القرية أن ينادوه، في قريةٍ تدعى «بويكنيون» تمتد على واحة نخلٍ خضراءَ شاسعةٍ تتخللها قصورٌ(١) محاطةٌ بأسوارٍ مبنيةٍ بالترابِ المدكوك. وكانت تلك القصورُ الموجودةُ على السفوحِ الشرقيةِ لجبالِ الأطلس الكبير ساحرةً بجمالِها، وإن كانت تخفي بداخلها بعضاً من معاناة بني البشر من الفقر وضيق ذات اليد.
لم يكُنْ موحى معتاداً على إعداد نفسِهِ للخروجِ في مثل ذلك الوقت. ألِفَ أن يصلي صلاةَ الفجرِ ويتناول إفطارَه برويّة قبل أن ينهض لعمله. اعتاد شُربَ الحساءِ قبل موعدِ الصلاةِ ثم الجلوسَ بعدها لتناول الخبز الساخن المحشو بقليل من شحم الغنم والبصل المفروم والفلفلِ وبعض التوابل المحضّرة بوصفات محلية... تعثّر غير ما مرّةٍ في ردهة البيت ورحبتِهِ وهو يتنقّلُ لجمعِ ما يلزَمُه من بردعةٍ ولجامٍ وغيرهما تحت ضوءٍ لا يكادُ يضيء منبعُهُ إلاّ يدَهُ وكمَّ جلبابِه. كانت ظلالُ الأغراضِ المحيطة بالقنديلِ تتراقص على الجدران كالأشباح وهي تقلِّدُ رقصة الشعلةِ الصغيرة. في الإسطبل، وجد موحى نفسه أمام حمارٍ لم يستسغ النهوض من النوم قبل الموعد المعتادِ ولم يكُن يرغب في تركِ مكانِه الدافئ للخروج في جوٍّ باردٍ وجاف.
خرج موحى أخيراً من منزِله ممتطياً حمارَه، حَثَّهُ على الإسراع تارة آمِراً «رَّا» وتارةً محرّكاً رجليه تُجاه بطن الحمارِ ضارباً بهما ضرباً خفيفاً، فكان الحمارُ يستجيب ولا يُطيلُ استجابته. لم تكن ضرباتُ موحى بيدِه وبعصاه على مؤخِّرة الحمارِ لتغيِّرَ شيئًا من ذلك الأمر، وكاد يجن جنونه من تقاعس حماره. اضطُرَّ للتوقف قُبالةَ نخلةٍ احتلَّت نصفَ الطريق لينزع منها شوكةً وكأنّه يُعاقِبها على تطاوُلِ سعفها الذي أضحى يُزعجُ عابري تلك السبيل. نزعَ شوكةً حادّةً ولم ينتظر كثيراً ليغرسها في جِلدِ الحمارِ الكسول، وكانت النتيجةُ أن فَضّ الحيوانُ التعيسُ كسلَهُ واستجمع قُواهُ وسار كالسهمِ وسط الحقول.
ظلت همسات إطّو ترِنُّ في رأسِ زوجِها كالنحلةِ التي دخلَتْ كيساً ولم تجِدْ مخرجاً منه، وكانت كالوقودِ الذي يحركُ شوكتَهُ في يدِه. لازمتْهُ صورةُ عينيها وهي تتوسلُ مساعدتَه في مأزقٍ يعرفُ أنّ له نصيباً فيه، كيف لا والجميع يعلم أن زوجة موحى وَلدَت منذ سنتين ولادةً عسيرةً لم ينجُ منها مولودها وإن نجت هي بأعجوبة. جعل ذلك موحى يفكرُ في الأمر منذ أن علم أنّ زوجتَه حاملٌ، وها هو يصارعُ الزمنَ لتفادي تكرارِ حدَثٍ قد يكون النصرُ فيه للموتِ لا للحياة.
كان يوماً من أيام الشتاء، وكانت السماءُ ملبدةً بالغيوم تُصدِرُ أصواتاً بين الفينة والأخرى، وكأنها تستعِدّ هي الأخرى لِوضعِ حَملِها. تحت ضوء شفق الصباح، مرّت حقول البرسيم وَالنَّخْلِ أمام عيني موحى تِباعاً، وعقلُه شاردٌ لا يعرف ماذا حلّ ببيته. كان متحمِّساً ليوم سعيد وهو يحُثُّ حماره على ربح الوقت للوصول في أقربِ لحظةٍ ممكنةٍ لـ «دّاوْ تارگا»، القصرِ الذي يوجد في المنطقة السفلى للواحة على الضفة الأخرى لوادي «أُدّور». هناك كانت تقطن فاطمة، وعليه إحضارُها لتساعد زوجتَه على الولادة.
فاطمة، بنت رجل ميسور في البلدة، كان قبل وفاته يملِك من الأراضي ما يُغنيه عن العملِ لكَسبِ قوت يومه، ووَجدت فاطمة نفسها بعد وفاتِه منذ سنتين، وهي الوريثة الوحيدة له، في غِنىً عن العمل في الحقول مع زوجها كل يوم. أحبت استغلالَ ما فاض من وقتِها في تقديمِ يدِ المساعدةِ لكلِّ من احتاج اليها، ولم تكن تأخذ أي أجرٍ عما تفعله. كانت تتدخل في كل الخلافات لجبر الخواطر، كانت دائمة الحضورِ في المآتمِ والأفراح، ساعدت العرائسَ والأراملَ والحوامل، وأصبحت بذلك خير خلفٍ للقابلة عائشة في توليد حواملِ القريةِ بعد أن كبُرت هذه الأخيرة ولم تعد تقوى على ذلك. أحبَّها كل من عَرَفها وكان ذلك أقصى مبتغاها وأجَلَّ ما كانت تصبو إليه.
عندما اقترب موحى من «دّاوْ تارگا» حيث تقطن فاطمة، كانت الشمس قد أرسَلت أشعّتَها الأولى على البلدة فتسلّل بعضٌ منها بين الغيوم ليكسُوَ جزءاً صغيراً من واحة النخيل. اعترضت سبيلَ موحى مجموعةٌ من الكلابِ، علا نباحُها وكان الجُبْنُ يكسو وجوهَها والبردُ يُنعِش حركاتِها، فاختفت بمجرّد سماع خطى الحمار تقتربُ منها. كان عليه أن يبحث عن منزلٍ في الجهة العليا من القصر، منزلٌ له بابٌ أنجِزت عتبتُه السفلى من جذع نخلة لم تدفن بالكامل تحت الأرض، وعتبته العليا لا تعلو عن كتفي رجلٍ ذي قامة متوسطة، هكذا نُعِتَ البيت لموحى من طرف أمِّه حين كان يحتسي قليلاً من الحساء.
كان الوقت يداهم موحى في كل حين، وكأنَّ التّيه في الزّمن لم يكُنْ كافياً. وجد نفسه تائهاً في المكان، فالقصر بممراته المتشعبة كالمتاهة لا تؤدي فيه كل الطرق إلى روما ... كان على الرجل القصير أن يسأل في كل مفترق عن الوجهة التي عليه أن يتبعها للوصول إلى فاطمة القابلة زوجة باسُّو أُحماد(٢).
اتّبع موحى وحمارُه إرشاداتِ سكّانِ القصر. كان يسأل تارةً عن منزل فاطمة وتارةً عن منزل باسُّو زوجها، وعندما وصل إلى منزلهما، لم يزعجه انخفاضُ عتبةِ البابِ فدخلَ منادياً: هل من مستمع؟ توغّل في ردهات المنزلِ المبنيِّ وِفق الهندسة المعمارية المتوارثة عند القبائلِ الأمازيغيّة، كان معظم أركانه مظلماً في ذاك الوقتِ من النهار، وكان الباب الخشبي الرئيسي للمنزلِ مفتوحاً على مصراعيه، حالُه حالُ أبواب كل البيوت في القرية، فالأبواب كانت لا تُغلقُ إِلَّا بَعدَ صلاةِ العشاءِ ليُعاد فتحُها قبل صلاةِ الفجرِ وطولَ النهار. كان باسُّو يُهيِّئُ حماره للخروج إلى الحقول، تفاجأ حين رأى موحى في العتمة بقربِه داخلَ الإسطبل. استفسره عن سبب مجيئِه ثمّ أخبره عن غياب فاطمة عن المنزل منذ بضعة أيام. تجمد موحى في مكانه وكأن أحداً ما قَصَّ شريطَ حياتِه في تلك اللحظة، «ربّاه! ما هذه اللعنة التي تتبعني؟ أهي بعض من ذنوبي أكفر عنها أم أنّ أحدَهم دسّ صكوك سحرٍ تحت عتبة بيتي؟ رباه! أنزل عليَّ صبراً جميلاً واحفظ زوجتي ومولودي من كل سوء!» تلك كانت بضعاً من الكلمات التي تفوه بها وهو يرفع يديه النحيفتين الى السماء. تأثر باسُّو وهو يُرَمِّقُ النّظرَ إلى الرّجلِ الشّابِّ الضعيفِ وأشفق لحاله. أخبره مسترسلاً أن زوجته في زيارة لأمها الأرملة في القصر المجاور وأنها لا تبعد سوى بضع مئاتٍ من الأمتار.
انطلق الاثنان على الفور كلٌّ على حماره نحو بيتِ أمّ فاطمة. كان باسُّو يردّ تحايا أبناء قصره باقتضاب غير معهود، لم يستغرب الناس لهذا الامر إذ كانت الجدّية والعجلة مرسومتين بوضوح على حركاتهما وعلى محيّاهما هو ومن معه.
فاطمة، المرأة الثلاثينية، كانت منهمكةً في عجين خبز الشعير لإعداد وجبة الافطار، ولم تستغرق وقتاً طويلاً لتفهم سبب حضور موحى مصحوباً بزوجِها في ذاك الوقت المبكّر من النهار، فهي القابلة الوحيدة بالقرية وزوجةُ موحى حاملٌ تعرف مدّةَ حَمْلِها. أسرعت في التخلّص من العجين، ثم ودعت أمّها بعد أن اعتذرت لها عن عدم إكمال تحضير الخبز، والتحقت بزوجها ليُرافقا موحى إلى منزله الذي يبعد بضع كيلومتراتٍ على الضّفة الأخرى من الواحة.
كان لابد من العودة إلى منزلِ باسُّو لتأخذ فاطمة أغراضَها ولوازمَ عملِها، وبعد ذلك اتّجه الثّلاثة عبر «لعلو»(٣) نحو بابِ القصرِ في وقتٍ كانت فيه الحركةُ تدِبُّ في غُرفِ الطبخِ وإسطبلات المنازل. وما إن تخطّوْا الباب الرئيسي للقصرِ حتى سمعوا أصواتاً صادرةً من الحقولِ ناحيةَ الوادي تُعلِنُ فيضانَ هذا الأخير، وفور ذلك بدأت حركةٌ غيرُ عاديةٍ تحتلّ القصرَ بأكمله، ففيضانُ الوادي يُلزِم الجميع بالتأهّب والاستنفار من أجل العملِ على حماية الحقول من مياه «الفيض» التي تكون في موسمِ الأمطار، وفي بعض الأحيان، أكثر ضرراً للغلالِ منها نفعاً لسقيِ النخيل والمزروعات.
بدأ جبينُ موحى يتصبّبُ عرقاً رغمَ برودةِ الجوّ، تسرّب إليه رعبٌ كبيرٌ عندما فكّر في احتمال انقطاعِ الطريق بسبب سيولِ الوادي، كيف بإمكانه مساعدة زوجته في هذه الظروف؟ مرّت ذكريات الولادة الأولى لإطو أمام عينيه بسرعة البرق. تذكر لحظةَ ظنَّ الجميعُ أنهم فقدوا الأمّ والمولودَ معاً... لاحظت فاطمة تصرّفاتِ موحى وسمعته يتكلم مع نفسِه، يستغفر الله مرارا وتكراراً ويتأفف من حين إلى آخر، عَرفت أنه كان يَحمِل في رأسه همّ إطّو والمولود الذي كانت تحمله في بطنها.
هطلت الأمطارُ في ذلك الصباحِ بغزارةٍ أحياناً وتوقفت أحياناً أخرى وأصبح التقدُّمُ عبر الحقول صعباً بسبب الأوحال، وكانت الحميرُ تلمِسُ هذه الصعوبةَ بحوافرِها، وكان الجميع يتقدم في صمت، وكان موحى يستمدّ قوَّتهُ من حمارِه الفتي وشوكةُ النخلةِ في يده تُفرِغ همَّهُ وحُزنَه وخوفَه في ردفِ الحيوانِ التعيس.
عند معبر الوادي، اتّضح للثلاثة أنّ العبور لا يمكن إِلَّا بعد الظهر إن كانت السماءُ رحيمةً بهم بشُحِّها لا بسخائِها. علموا ذلك مِمّا راكموه من تجربةٍ في حياتهم على ضفاف وادي «أُدّور». تبادلوا بعض المحادثات القصيرة مع من أتوا لرؤية فيضان الوادي خوفاً من أن يجرف أراضيهم وطمعاً في سقي مزروعاتهم. كلُّ من مرّ من هناك كان له نفس الرأي، صبيبُ الوادي ومظهرُ الغيومِ في الأفق ناحيةَ الجبالِ كانا يوحِيَان بأن السيول لن تهدأ إِلَّا بعد بضع ساعات.
مرّت الدقائقُ على موحى كالساعاتِ والساعاتُ كالأيامِ، فيما كان حمارُه يستمتع بالهدنة التي حلّت بجِلده منذ أن وضعت الشوكة أوزارها.
سَلَبَ الوادي أعين كلِّ من كانوا على ضفتيه، وكان هدير المياه ينقصُ كلّما ازداد صبيبُ السيولِ وكان الوادي مُبهراً خلاّباً كعادته يَسْحَرُ الأنظارَ ويُخشِّع الأنفُسَ بما تحمِلُه ثناياه من قوّةٍ لا يستهين بها إلاّ من اختلطت لديهِ الشجاعةُ بالتهوّر. كان موحى يطيل النظر في تموُّجات السيول ويرفعُ نظرَهُ من حينٍ لآخرَ نحو قِممِ الجبالِ المكسوّة بالثلوجِ، ومنها نحو السماء الملبّدةِ بالغيوم. كان يعجب لأمرِ الماء، كيف له أن يتجلى أمامَه سائلاً وصلباً وبخاراً في الآن نفسه لا يشبهُه في ذلك شيءٌ مما يحيط به. تذكّرَ ما قاله خطيب مسجد القصر يوماً بأنّ اللهَ جعلَ من الماء كلّ شيء حيّاً، فأحسّ بِشَيْءٍ من الاطمئنان وسبّحَ الله.
في تلك الآونة كانت إطّو وحماتُها تنتظران رجوعَ موحى، وبدأن يقلقن بشأنِ تأخّرِه، إذ انتشرَ خبرُ فيضان الوادي في الجِوارِ كما في جميع قُصورِ القرية، وقد عهد الناس سماع أخبارٍ سيئةٍ من حينٍ لآخرَ عندما تجْرِف السيولُ أحدَ أبناءِ القرية. تحمّلت المرأتانِ قساوةَ الانتظارِ وهُنّ في وَجَلٍ ممّا قد تفرج عنه الساعاتُ المقبلةُ التي كانت تُخفي في ثناياها أحداثاً كثيرةً قد يكون بعضها رهيباً. كيف لا وهُنّ لا يعرِفن مصيرَ موحى ومن معه، ولا يَدرين ما سيحلُّ بإطّو وجنينها.
بعد بضع ساعاتٍ من الانتظار، تمكن موحى وباسّو وفاطمة من عبور الوادي. لم يكن ذلك سهلاً، فأرضيةُ مجرى الوادي ملأى بالأحجارِ، وسيولُه لم تنقطع بَعْدُ بالكامل، ولم يكن أحدٌ متيقّناً بأنّ صبيبَ الوادي لن يعودَ للارتفاع في أيّ لحظة. أصبحت كلّ أغراضِهم مغمورةً بالمياه وثيابُهم مُلطخةً بالطين يحسِبُهم من يراهم جُثثاً خرجت من تحتِ التراب، فقد كان موحى نحيفاً وقصيراً ذَا أنفٍ كبيرٍ يكادُ يُخفي من ملامحِ وجهِهِ ما لم يُخفِهِ قبُّ جلبابِه. تعِب الجميع تعباً شديداً، ورغم تعبِهم واصلوا مسيرَهم بكلّ حزم.
اختلطتِ المشاعرُ في ذهنِ موحى، كان يَشْعرُ بالجوعِ يلوي أمعاءَه، وبالبردِ ينخرُ قواه وبالخوفِ يُربكُ حساباتِه، أحسّ بالغضبِ من كل ما عوّصَ مشواره في صباح يومٍ ليس كباقي الأيام، وأحسّ بالشفقة على الحمارين وعلى فاطمةَ وزوجِها اللذَيْن غامرا بحياتِهما أملاً في تفادي الأسْوَأ، ولولا الأمل في الحياةِ يغذّيه الخوفُ من الموت، ولولا أنّهُ كان يطمحُ لأن يرى زوجتَه ومولودَه آمنَيْنِ مطمئنّينِ لما زادَ خطوةً واحدةً في دربٍ كانت بدايته لا توحي بنهايةٍ سعيدة بأي شكل من الأشكال.
كانت الطريقُ تخترقُ الحقولَ وكانت ملأى بشتّى أنواعِ الحواجز، ساقياتٌ مُتّصلةٌ فيما بينها كالشِّبَاك، فدادينُ مختلِفةٌ مزروعاتُها، قُنَيْطِراتٌ بعضها من خشبٍ وبعضها الآخرُ من حَجَر... وعندما كان الجميعُ على مشارفِ «أكال إزوان»، القصر الذي يسكُنهُ موحى، نَفد صبرُ الحمارِ الذي احتمل الكثير من الاستفزازِ وخاصّةً عندما تلقّى لسعةً مُؤلِمةً من شوكةِ موحى فوْرَ تخطّيهِ حفرةً بذل فيها مجهوداً كبيراً. نفد صبرُهُ فانتفضَ في وجهِ صاحبِه، في وجهِ زخّاتِ المطر، في وجه الشوكةِ القاسية، في وجهِ الجميع. نفض الحمار بعنفٍ كلّ ما كان على ظهره من أشياءَ وهو يَنهقُ بكلّ ما بقي لديهِ من قوة. نَفضَ من ظهرِه موحى الذي طارَ في الهواءِ مِثلُه مِثل أغراضِ القابِلة التي شُلَّت حركتها من كثرة دَهشتِها وهي جالسة خلفَ زوجِها فوق الحمار الآخرِ وهما يشاهدان ما يحدث لموحى على مرمى حجرٍ من بيته حيث الزّوجة والأمّ تنتظران.
كاد موحى يفقدُ حياتَه من قوةِ الصّدمةِ بَعدَ أن ارتطم بجدع نخلةٍ يافعة. أحس بكدماتٍ وأشواكٍ كثيرةٍ في جسده، تهيأ له أنّهُ سمِع ابن الجيران يُخبرُ باسُّو وفاطمة أنّ إطّو وضعت مولودَها للتّوِّ، سمع تلك الكلماتِ وهو لا يدري هل بدأ يُغمى عليه أم أنّه بدأ يستفيق من إغماءٍ كان قد حلَّ به بفعل أشواكِ النّخْل وبقرارٍ من الحمار.