عناق
تأليف: أماني الجليلاتي | الدولة: سوريا
هذا صباحٌ جديد، دجاجاتُ سلمى تنقرُ الدرجَ وَتَثِبُ عليهِ في ضوضاءَ رتيبة، تقفزُ درجتين أو ثلاث؛ ربما أوهمتها فسحةُ الدارِ المكشوفةُ للسماءِ فحسِبتْ أنها تطير، الدنيا صيفٌ نهايةَ شهر آب، لكنَّ نسمةً باردةً سرتْ في المكان، أحيانا يبردُ الجو قبيل طلوع الشمس، تناهتْ إلى أذنها أصواتُ ديكةٍ بعيدة، تصيحُ متجاوبةً كأنما تتنافسُ مزهوة، أما ديكها النحاسيُّ فكسلان، يصيحُ بين حين وآخر بصوتِ غرابٍ حزين، فقد شربَ من بركةِ نفطٍ صغيرة صنعتها عفواً على الأرض حينما كانت تملأ مصباح الزيت، ومنذ ذلك الوقت صار بصوتٍ متقطع و همةٍ خائرة، يتهادى في مشيته كديكٍ مغرور حدَّ الثمالة!
مشتْ في جسدها رعشةٌ جديدة، فشدت عليها ملاءة السرير إذ ما كان الحرُّ ليتركها تتغطى عند النوم، وخُيّلَ إليها أن السماء أرسلتْ لها خيط أملٍ بعد أن سمعتها بالأمس؛ حينما طلعت السطح وحيدةً لما نام الجميع، وأسندتْ ظهرها الرطب بعرق الصيف إلى خزانٍ صدئ قديم أجَّلوا التخلصَ منه حتى نسوه، كما هي منسيةٌ في هذا البيت منذ طلعت من المدرسة من سنوات كثيرة وتفرَّغت لخدمة البيت، راودها شعورٌ بأنها شيءٌ مهمل، طالعتْ وجهَ الليل الحالك تلتمعُ فيه نجومٌ صغيرةٌ كثيرة، شعرتْ أنه يراها، قفزتْ في خاطرها ذكرياتُ المدرسة، حينما كانت طفلة في درسِ التعبير، وكانت إذ ذاك كما كل الأطفال تقحمُ القمر والنجوم في كل شأن، فلا يَبتدئُ موضوعٌ بغيرهم أو ينتهي، ولكنها الآن وهي تستقبل الليلَ فلا تجدُ سواه؛ لا تراه يلهمها من أين تبدأ، ازدحمتْ في صدرها مشاعرُ غزيرة، وكتمتْ كفُّها أنّةً تمردتْ على السؤال الضائع منها.
ترى لو قُدِّرَ أن لهذا السكون أذنانِ تبسطان سمعهما للحيارى كل ليل فما كانت لتقول!، إن ثمةَ أشياءَ كثيرة لاريب تودُّ لو تبوح بها، لكنها عرفت الآن أنها جاهلةٌ حقاً، فهي لا تعرفُ حتى نفسها، بل ولا تقدِّرها وإلا لكانت سألتها عمّا يؤلمها كلما أنَّت لها وشكتْ.
يا ليلُ أنا حزينةٌ مرتين؛ الثانيةُ أني لا أجيد أن أبكي بين يديك، والأولى تلك التي عرفتُ للتو أني لا أعرفها، سأحكي لك قصتي، وأنت لاشك تمتدُ لتغطي العالمَ بأسره، وترهف سمعك لأنّات الحزانى وتكتبُ أسئلةَ الحائرين، وتطَّلعُ على سعاداتٍ كثيرة، فهل لك إذا حكيتُ لك قصتي؛ فصادفتْ نجمةً بيضاءَ في قلبكَ الأسود فرقَّ لي أن ترمي لي سعادةً قديمةً منسية شبعَ منها أهلها ونسوها وحيدة، -فإني أعيذك بالله أن تسرقَ لي بسمةً مورقةً على شفةٍ لأنالها، لكني كما رأيتُ الناسَ حولي، بعضهم ينعمُ بأصنافٍ من السعادة وأنواع، فلا يلتفتُ إليها، وإن واحدةً منها كانت قادرةً على أن تسعد حزينةً مثلي.
سكتت سلمى في حيرة، وتمشى في جبينها ارتباك خجول، فقد شعرت أن الليلَ أرخى لها انتباهه، ففركتْ أصابعُها حاجبيها المنعقدين تستعجلُ ذهنها المـُجهد.
أنا لا أعرفُ إن كنتَ تسمعني، بل لاشكَّ أنك لا تفعل، لكنك قد تشعرُ بي كما تشعرُ بي دجاجاتي كأني دجاجة كبيرة، وكما أشعرُ بالديك كيفَ كان يجربُ كلَّ يومٍ أن يصيح فلا يقدر، ثم نسيَ الصياح وصار يعوي فحسبَ كأنهُ استغنى بعرض حاله عن الشكوى.
وأنا الآن سأستعير صوتهُ المجروح، لأحكي لك عني، لعلك تجدُ أين يختبئُ حزني، لأصلَ إليه وأتصالحَ معه، فأنا أعتذر دوماً لكل من يخاصمني، ولو ظلماً، فلعلي أتعرفُ عليه وأعتذر إليه فيعذرني.
قد أبدو لك ساذجةً غبية، لكني أظن أن ما من مزيةٍ أشبهَ بعيبٍ من حدة الفهم!؛ وتلتبسُ أكثر إن اقترنت برحمة، أما إذا زادت عليهما كراهةُ التعالي فلا يكاد يعرفها إلا من جمع الثلاثة؛ فكيفَ إذا كان ذلكَ كله في ضمير امرأة!
إني غير مهتمةٍ بحربِ التميز، بل كثيراً ما أنشغلُ بتحري الضعفِ عن القوة، لكنَّ الناس لا تتوسمُ في امرأة فضيلةً قدرَ ما تتوقع منها العجز، فكيفَ إذا اقترنت بها ميزاتٌ تشتبهُ بالعيوب!، وكيفَ إذا كانت بسيطةً جاهلةً كدجاجة!
وإني الآن وأنا تساءلني الحياةُ آخرَ خيوطها فلا أودُّ أن أفلته؛ يكاد يخونني الفهم والرحمة والتواضع. إني بشرٌ أيضاً، وإن معرفةَ النقائصِ لا تلغيها، بل ربما إذا انكشفتْ لك عيوبك فرحمتها؛ سَمُنَتْ وقرَّتْ، وإنهُ لا ألأمَ من عيبٍ سمينٍ لا يتحوّل.
أترى هذا الضيعةَ التي تلفها بجلبابك الواسع!، إني أودُّ لو أتركها وأذهب، لكن إلى أين!، إن الناس متشابهون، وإنما نظنهم مختلفين لاختلاف ظروفهم، فأنى ذهبت ستخونني نفسي لأجدني جاهلةً بسيطةً كدجاجة.
أترى هذا الدرب المتلوّي تحتك كحيةٍ تقسمُ ضيعتنا نصفين؟!، أعرفُ هذا الطريق، سرتُ عليهِ منذ ابتدأتُ الحياة؛ أو ابتدأتني؛ فأنا لم يكن لي من الخيار شيء، فتحتُ جفنيّ لأسيرَ دربي هذا، كلَّ يوم، أسرعُ أحياناً لأنتهي أعجلَ، وأخرى أقولُ لا بأس لو انتهيتُ عند الظهر فأبطِئ، الشمسُ والمطر والتراب وحتى الحجارة كلهم رفاقي؛ جمعنا الدرب لا الود.
لكني بعد أن انسربتْ سنوات عمري من قبضتي انتبهتُ أني كبرت، كبرتُ وحدي هنا مع دجاجاتي، ومع فسحة الدار ودالية العنب وشجرة الليمون التي تلاصق الجدار حتى التحمتْ فيه بعضُ أغصانها لما رممناه، فصارت كأنها تحمله أو يحملها، لا أشعرُ أنها تعانقه، فلا يحب الشجرُ الاسمنت، و أحسبُ أن الاسمنت بليد الشعور لا يحبُ أو يكره، ولا يشتاق، أما أنا وإن جعلني الصبرُ والغفرانُ والتواضع بليدةً كجدار؛ لكني أشتاق كثيراً، وأبكي كل ليلة، وأحياناً و أنا أرافق الحمار المسنّ على الدرب ليحمل الأغصان اليابسة التي أخبئها للشتاء، وأرقُّ له أنه ينفقُ ما بقي من عمره على هذا الدرب، يروح ويغدو عليه لا غير، وربما تعلّق به الصغار فأحملهم عليه، وهو يهز رأسه في برودةٍ بليدة غيرَ فرحٍ بهم ولا عابئ، فأمسح جبينه وأنا أفكر في شبه وهم أني أراضيه، حتى نصل أطراف التلة العالية فتنبحنا كلابُ التلال، لكني إذا سرت والحمار وحدنا لا ينبحنا كلبٌ واحد، ولا ينظرون إلينا بأعينهم السوداء الكبيرة التي أشعرُ أن دموعاً لزجةً تختبئ فيها، ربما اعتادوا علينا مثلَ الشمس والهواء والغبار، كل يوم نروح ونجيء وذهني يسبحُ في المدى البعيد أنظرُ ولا أنتبهُ، وقد أبكي، والحمارُ الكبيرُ شاخَ على هذا الدرب وهو يهز رأسهُ في بلادةٍ باردة، نادراً ما ينهقُ فأشعرُ أن فكرةً ما عَرَضَتْ على ذهنهِ الذي يبدو لي فارغاً.
أما أنا تغلي الأفكارُ في رأسي حتى ما عدت أقدر أن أتبينها، سوى أنها تجعلني أحزنَ كل يوم، لكني الآن وأنا أبوحُ لكَ بنصفِ حكايتي الآخر -التي لا تعرفُ منها غيرَ بكائي مساءً على وسادةٍ رقيقة لا أجدُ رغبةً في إعادة حشوها و لا داعٍ- أستمعُ معك إلى نفسي، فأجدني مملةً كجدةٍ غبية غلبها النعاس وأنستها الأيامُ الطويلة التي عاشتها كيفَ تطرقُ أبواب الخيال، فلا تقدر أن تحكي حكايةً حلوةً فيغفو الحفيدُ وهو سارحٌ فيها، كثيراً ما يظنُّ الناس أن الملل يجلب النعاس، إنهم لا يدركون أن الملل يدفعك للهرب، والنوم لا يتأتى للهاربين إلا بعد طول عناء.
وأنا مالَّةٌ لكني لم أهرب بعد، فأنا طوال حياتي التي عاشتني لم أتعلم كيف تُفتحُ أبواب الخيال، ولا أعرفُ أن أطرقها، أنا موغلةٌ في الحلم، وإن من تخدر به لا يكادُ يلتذُ بالخيال، وإن الأحلامَ سهلةٌ شهية تراودُ كل حزين، أما الخيالُ فصعب كدرسِ الحساب.
مالكَ ولأحزاني وثرثرات النساء!، لكن أتعرفُ أني لا أجيدُ الثرثرةَ كذلك!، وأشعرُ بالنقصِ مثلَ ديكٍ لا يصيح، إن الكلامَ يحتاجُ دربةً أيضاً، أما أنا فتنساني النساء في المناسبات، كأني شبحٌ حاضرٌ، وأعقّب أحياناً على الحديث فلا يُلتفت إلي، وتختلجُ الحروف على شفتي وتختلط المفردات.
لا أحبُّ اجتماعاتِ النساء، إنهن يكشفن ضعفي بنصف نظرة، حينما تنظر إحداهن باستخفافٍ من طرف عينها، فتخترقني كأنها قرأتني وعرفتْ أني خاويةٌ إلا من بعضِ أحلامٍ حزينة.
أما الرجال فيكذبونَ علي، أو أني أدفعهم إلى الكذب، مثلما يلقن طفلٌ أمه بعض تفاصيلَ الحكاية فتجيبه إلى ما أراد.
حينما استندتُ من سنوات بعيدة إلى ذراعه، على سفح الرابية، صبيةً حالمة، أرتشفُ الحياة من عينيه والنور والأمنيات، أستقبلُ الضيعةَ الغافية، والشمس تشد خيوطها مائلة على المشهد، فتبدو كأوتار قيثارة أو ربابة، أنا لا أحفظ أسماء تلك الآلات، لكنها بدت لي سعيدةً مبتهجة، ونسمت في صدري أفراحٌ غامرة لذيذة، لا أعرفُ أن أصلَ إليها لأصفها، أختزنها كشعورٍ حيٍ زكي، ليس من وصفه سوى الأسماء لا غير، لقد كان ذلك منذ مدة بعيدة جداً، بعد أن خطبني «صالح» من أبي، لازلتُ أذكرُ فرحتي حينما سألني كاتبُ المحكمة إن كنتُ أوافق، وغضب مني أبي أن أجبته على عجل و قلتُ «موافقة»، وفي المساء نهرتني أمي وقالت إن أبي كان يرجو لو صمتُّ في خجل كفتاةٍ حيية!، لكن أبي لم يفاتحني في الأمر، ولا عبسَ في وجهي.
وجرت الأيامُ بعدها حلوة طرية ندية، كأنما ارتشفتُ ماءً قراحاً، بل أعبُّ منه، فيسري هنيئاً بارداً فأرتوي، لم أكن أحب اسم صالح من قبل، فهو اسم نصف رجال ضيعتنا!، لكن بعد أن عرفت «صالحي» صرتُ أستشعر أنه اسم نبيّ.
وفي يوم لم يكن يبدو أنه يخبئ لي النهاية، نهايةَ كل شيء، دق أبو صالح بابنا في رفق، وقال بصوت يابسٍ ضعيف «يا سلمى: صالح مات!، مات يا سلمى، زلقت رجله وسقط في الوادي».
دارت بي الأرض، لم أبكِ، شعرتُ أني أحتاج إن أجري إلى صالح، مثل كل يوم، لأسأله ما أفعل، لكن أين صالح!، لقد مات، لم أعرف معنى الموت قبله، وإن مات لي أحبابٌ من سنوات، لكن موتَ صالح كان مُراً يستصعب على الشرح، تماماً كما كان حبه عصياً عليه.
ومذ مات صالح لم تخفق في صدري بهجة هدارة، لقد طُويتْ صفحةُ المفاجآت من حياتي، رغم أنها تتابعتْ علي قويةً عاصفة، لم يعد شيءٌ يصدمني، ولا حتى يفاجئني، إني أزدادُ حزناً فقط، للحزنِ قدرةٌ كبيرة على الاستمرار والازدياد، بينما يقفُ الفرحُ القديمُ بعيداً، ينظرُ إلينا بعتب، يقفُ فيستحيلُ حزناً آخرَ أعمق.
ليتَ الأفراحَ القديمة تموتُ حين تفارقنا، لكنها تقفُ بعيداً كروحٍ مُستحضرة حتى نتذكر على الدوام أنها فُقدتْ.
وماذا بعد!، أنا لا أعرفُ ما صنعَ حياتي وأعطاها ملامحها، تبرق في ذهني بسمته هادئةً راضية، تلمع وتختفي، ثم تلمع، ثم تختفي، تنبسط شفتاه في رفق وثقة، ويخفق لها قلبي، أين صالحُ الآن!، آه يا صالح، ليتني ما عرفتك ولا طرقت بابنا.
لقد تمكَّنتَ من قلبي حتى ملكته، لم تترك لي منه شيئاً، ولما رحت كنتَ تجلسُ في صدري تبسمُ وتنبسط شفتاكَ في رفق وثقة، وقد تضحك بصوت أحياناً، لا يبدو لي سوى ابتسامتك الحلوة، وقلبي يخفقُ لها بقوةٍ كأنما تبسمُ لي الآن، غير أن خفقتي القديمة كانت صافية كصوت ضحكتك، أما الآن فهي مقرونة بحزنٍ عميق ينسلُّ في صدري كسهم يصنعُ مكانه في لحمي في بطءٍ أو نَزَق حسبما تسري ضحكته في صدري.
أيها الليل!، هل تعرفُ عما أحدثك!، هل يعي ظلامك الممتد سواديَ المكبوت في صدري، كيف سيفهم سديمٌ أسودُ مثلك مشاعرَ اللحم والروح، ألك روحٌ مثلما لي!، أما اللحمُ فليس إلا سجنها، هو كما لو أن اتساعك الهائل حُصر في كفٍ صغيرةٍ عابثة، حتى تصطف ذراتك الحرة مقيدةً مغلولة فتكونَ حينها لحماً!، ربما لو قُدِّرَ للحمي المطعون بالآلام أن ينتشر لكنتُ ليلاً أوسعَ منك وأكبر!
ولكان صالح النهار، ولعشتُ عمري أركض لأصلَ إليه حتى إذا ما ذهبتُ جاء، وإذا ما ذهبَ أتيت. أنى لي أن آتيه، وهو صافٍ باسمٌ كصبحٍ رقيق يختبئ عني بالفجر، أجرَّبتَ أن يسري الفجر فيك؟!، أن يغطيك ويمازجك، بينما روحك تشتاق للصبح الصافي الذي لا يطلع إلا بعد أن تذوب.
ماذا لو قدرتَ أن تتعلق في الفجر مرةً، لتلثم وجه النهار حينما يسري هو الآخر فوق الفجر، أتمنحُ الحياةُ ليلاً متعباً مثلي فرصةً ليخالف قوانين الكون، ليلثم نهاره المتحجب عنه بالفجر!
ماذا كان صار يا صالحُ لو زلقت قدمانا معاً!، لا شكَّ أن أرواحنا كانت ستنعم هانئةً إلى بعضها في هذا الوقت الذي أمضيه أجري وراء خيال بسمتك الواثقة الرشيقة. أتعرفُ يا صالحُ أنك مذ مت تتابع الخطّابُ إليّ؟!، كأنهم عرفوا بصورةٍ ما أن جزء الحب والشغف والأمنيات في صدري قد مات معك، فأتوا مشحونين بروح التحدي، لكنهم عادوا خائبين جميعاً.
ربما لو لم أعرفك لسعدتُ كما تسعد كل فتاة بزوج جديد، لكنكَ رحتَ وأخذتني مني، أخذت خفقة قلبي وفرحته، وكل أحلامي، وشعري الذي كان يتطلع أن ينبسط على ذراعك الطاهرة يلثم منها حتى المسام، وأصابعك السمراء تعبث فيه في دعة وحب. أتعلم أن عينيَّ لاتزال تختزن نظرتك البريئة، كأنما طبعت عيناك في عينيّ، فأنظر بهما وأرى؟! أتدري يا صالحُ أنك كنتَ تزورني في الأحلام بوجهِ أبي؟!، حتى إذا متَّ استعدتَ وجهك الوضيء، وكفيك وبسمتك، فالأب لا يخلّف وراءه طفلةً تبكيه ويموت، كان عليك أن تأخذني معك. أتعرفُ يا صالحُ أن أبي مات بعدك كذلك؟! وأمي وأخي عثمان، وأقاربُ كثر، وأبوك وعمك؟! أما أمك كبيرة يواعدها الموتُ كلَّ ليلةٍ ويخلف، ولكن أتعلم أني قد قاربتُ السبعين؟!، لكني لم أزل في عالقةً في السنة التي مت فيها، ولا تزال أنت شابي الوسيم تبسم في صدري فأبكي.
أيقدر الحبُّ أن يستحيل حزناً بهذا القدر!، كنتُ أظنُّ الحب سعادة إضافية مثل قطعة حلوى، تأتيك فتسعد، تفقدها فتسعد بغيرها، لكنك لم تكن حلواي، لقد كنتَ أنا، لقد امتزجت بالروح حتى إذا ذهبتَ سحبتها معك.
ألا يشتاقُ نهاركَ الصافي لليلي؟!، أليس ثمةَ وقت يقفزُ فيه الليلُ فوق الفجر ليعتنقَ النهارَ، ليذوب فيه، ليبكي على كتفه مثلما تذرف عيناي الآن؟!
ذرفت عيناها بحرقة مبهمة، فحتى سلمى لا تُحسنُ أن تصف ما تجد أو أن تبثه حتى لو لليل ساكنٍ أمين.
نزلت ببطء تتكئُ على سياج الدرج، بخطى واهنةٍ ضعيفة، يزيدها ارتجافاً بكاء متقطع مكتوم.
لم يبق في البيت أحد سواها ليسمعها لو تركت صوتها يسري، لكنها اعتادت أن تخبئ دمعتها منذ سنوات بعيدة.
اتجهت في الظلام إلى غرفتها، الدجاجات تنام أسفل الدرج أو وراءه، كان الحرُّ شديداً، استلقت على السرير وفي قلبها خفقة حزينة، فقد عرضت على ذهنها بسمته واثقة هادئة، دعت الله أن تراه في الحلم، ونامت.
في الفجر استيقظت من شدة البرد، شعرت أن قدوم البرد في الصيف، يشبه من وجه اجتماع الليل بالنهار.
وخفقت في قلبها ابتسامته مجدداً. طلعت إلى فسحة الدار، الدجاجات تحاول الطيران وهي تنظرُ إلى السماء، والديك يعوي بألم كصوتِ ناي. وقفت في أسفل الدرج والهواء الباردُ يحرك شعرها الأبيض، فينبسط كأنما تسرحه أنامل النسيم في رفق ودعة، وخُيِّلَ إليها أن النهار يوشك أن يطلع بعد قليل، فرفعت صدرها لتقفز فوق الفجر وتعانق النهار.
وقفت على رؤوس قدميها وارتفعت قليلاً قليلاً، وارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة واثقة، وعندما طلع النهار، كان الديك الكسلان يثبُ على صدرها ممددةً على الأرض، ويحكي شيئاً ما، بينما كانت الدجاجاتُ تقفز على الدرج وتحسبُ أنها تطير.